التكية
سور حجري قديم ضخم ذو نوافذ منخفضة بقضبان حديدية مزخرفة يطل من خلفها عشب كثيف حيث يتوقف الزمن لكن الربيع لا يوقفه زمن ولا قضبان.
لهذا السور ثلاث درجات لطالما ترددت في نزولها، ثمة صمت صارخ هناك رغم صخب دمشق خارجه، كنت أمر قربه حين أشتري أقلامي، الألوان والدفاتر أقف على بابه لكن رهبة تعتريني فأتراجع عن الدخول بحجة ضيق الوقت.
أعود للمنزل أرسم أطفالا يلعبون، أنظر من النافذة إلى الشارع، لا أجد إلا رائحة الخوف أغلق النافذة وأعود للورقة البيضاء أنسج عليها ما يفيض به خيالي، في محاولة لعزل نفسي تماماً عن الحرب.
دخلت والدتي بالشمعة:
فرح، كفي عن الرسم ستؤذي عينيك بالتركيز دون نور كافٍ.
أخرجتني من عالمي لانتبه أن الشمس غربت والكهرباء مقطوعة كالعادة، نَظرتْ إلى الورقة بين يدي:
آه! مدخل التكية؟ جميل.
نظرتُ إلى الورقة لأفاجأ بأني في شرودي قد رسمت ذلك الباب، أجبتها بتساؤل:
التكية؟
أليس كذلك؟
لا أدري، أراه في طريقي ولا أعرف ما هو.
آه، حسنا، التكية هو مكان يخلو فيه الناس للعبادة والخلوة بأنفسهم كما أنه مأوى للمحتاجين والمسافرين وكل من لا يجد بيتا.. يصرف عليه من قبل الحكومة.
بدت علامات الدهشة على وجهي بشكل واضح مما جعل أمي تضحك وتستأنف.
هذا كان في زمن مضى وأظن أنه أصبح متحفا أو شيئا ما وربما هو مغلق لا أدري.
تبسمت ببرود فذلك المكان يخلق فراغا يشبه الدوامة في صدري ويولد داخلي شعور يشبه تلك العزلة التي تشعر فيها حين تكون تحت الماء.
في تلك الليلة حلمت أني دخلت ذلك المكان وكان فيه أطفال كثر يلعبون وتضحك ثيابهم خضراء سندسية، يتسلقون الأشجار ثم يسقطون عنها فتحملهم طيور بيضاء وتنزل بهم إلى أرض مفروشة بالزهر والعشب الندي.
استيقظت بابتسامة على وجهي ولا أذكر متى كانت آخر مرة استيقظت بتلك السعادة!
لبست سريعاً وتوجّهت حالاً إلى تلك البوابة ودون تردد نزلت الدرجات الثلاث وأصبحت في الداخل.
***
اختفى صوت الشارع، صعدت الدرجات الثلاث، عاد صوت الشارع! نزلت صعدت وأنا لا أكاد أصدق! رجل كهل يقف أمام الباب نظر إليّ ضاحكاً، فخجلت وتوقّفت.
ممر طويل حجري جميل لطيف وعلى جانبيه أشجار كبيرة عالية جميلة وصوتٌ لطيف للعصافير، في نصف الممرّ وعلى بعد خمسة أمتار تقريبا جلست مجموعة من الشباب تعزف وتدندن أغاني تراثية هادئة. وعلى طول الممر أنتشر بعض الرسامين، عجوز يطعم قطة، وأخرى تنشر كسرات خبز ومن حولها يهدهد الحمام.
قطة صغيرة تتمسّح بي أيقظتني من ذهولي فقفزت خائفة ضحك شاب أمامي وحملها بعيداً عني وذهب.
على اليسار بناء جميل قبب وقناطر، على اليمين باحة كبيرة تحيط بها الأشجار في منتصفها بحرة كبيرة تمتلئ بالماء تنعكس عليها زرقة السماء، خضرة الأشجار، وغيوم نيسان، خلفها جامعٌ مقنطر. لوحة تنعش الروح.
أخذت مكاناً لي من الممر وجلست أرسم. كالعادة لا أفكر فيما أرسم بل أترك القلم ينساب وهنا وجدت قلمي يرسم حلم الأمس، أطفالاً تضحك تلعب وتطير، هكذا أصبح المكان سكني، فالربيع في دمشق ينعش الروح ويدعو الدمشقيين للولادة بعد شتاء طويل، يطول النهار وتطول ساعات الشمس في أيامنا وهكذا لا كهرباء تعنيني، لا أصوات قنابل ولا حرب تقترب مني فأعيش داخل هذه “التكية” في عالمي الذي أختاره رافضة العالم الذي اختارني.
بعد أيام بدأت آلف الوجوه والمكان وأقضي هناك الساعات الطوال، واعتدت أن يتوقف قربي أحد فيشاهدني أرسم، كما أقف أحياناً أمام بعض العازفين أو الرسامين.
وجاء ذلك اليوم، اقتربت مني فتاة لطيفة تلبس بنطالاً عريضاً أحمر، كنزة بيضاء، شال أخضر مربوط على خصرها عليه زهور صفر وشنتة على الظهر.
ترسمين الكثير من الأطفال السعيدين.
نظرت إليها ودمعت عيني، أشرت إليها برأسي أن أجل، لكن الكلمات غصت في حلقي، خاصة أني كنت غارقة في عالمي الجميل.
هل تسمحين لي بالجلوس؟
بالتأكيد تفضلي.
جلست قربي واستأنفت بصوت طفولي فرح:
تحبين الأطفال لهذا الحد؟
الحقيقة أني أحب نفسي كطفلة ههه، كنت أراقب الأطفال من شباك منزلي وأتمنى لو أني ما زلت طفلة ألعب معهم في الحديقة الصغيرة التابعة للبناء الذي نسكن فيه! أما الآن، لا أطفال هناك، الحديقة أصبحت خراباً بعد أن فرغ البناء من أغلب سكانه، اشتاق لتلك الأيام و.. صمتُّ.
ماذا؟
مهما حاولت عزل نفسي تباغتني عيون الأطفال من حولنا فارغة من الطفولة عيون تنبئ بخسارتنا الكبرى، ويزيد الصور المنتشرة هنا وهناك على التلفاز والإنترنت لأطفال ضحايا هذه الحرب! لماذا ينشرون تلك الصورة؟
ليعلم العالم بما يحدث هنا.
أخرجت من جيبها علكة وضعت واحدة في فمها ومدت لي يدها بواحدة، ستساعدك على الهدوء. أضافت
لا شيء يساعدني على الهدوء، ثم وماذا بعد أن يعلم العالم بما يحدث! مازالت كل أنواع الأسلحة المصنعة في الخارج تدخل بلدنا ومازال الخراب مستمر.
والرسم؟
أرسم عالماً أفضل، أطفال كما أتمنى لهم أن يكونوا علّ الأطفال في رسوماتي يكبرون وينشرون السعادة بدل الموت.
حسناً، دعينا من العالم والموت وانظري! هنا نحن نخلق بقعة نور هي ملجأ من العالم المظلم صحيح؟
صحيح
بموسيقانا ورسوماتنا، ولكن هذا لا يكفي.
ماذا تقصدين؟
كنا نتحدث بمثل حديثنا هذا فقال لنا صديقنا أحمد، أن هناك ملجأ قريبا من منزله فيه الكثير من الأطفال مسروقي الطفولة وأنه يريد أن يفعل لهم شيئاً، فبدأنا مشروعنا بيوم فرح للأطفال.
يوم فرح؟
أجل نذهب مجموعة نعزف ونغني معهم نلعب ونتواصل ونرسم لهم، يوم في مخزون الطفولة وهكذا نعيد لهم جزءا صغيراً جداً منها.
يوم فرح، هل أستطيع مشاركتكم؟
طبعاً، هذا ما جئت أكلمك بخصوصه ههه
يوم فرح، جميل جداً. بالمناسبة، اسمي فرح! ههه
آه يا للاسم الجميل في هذا الزمن ههه اسمي سارة.
أصبحت أقضي أغلب الأسبوع مع مجموعة قوس قزح (هكذا أطلقوا عليها) كنا نذهب بأدواتنا المتواضعة نعزف ونرسم للأطفال وإن حالفنا الحظ ببعض التبرعات نحضر لهم السكاكر والحلوى، بعض الأطفال الذين ولدوا في الحرب لم يكونوا يعرفون الحلوى وبعضهم لا يعرف اللعب.
أسأل الطفل ماذا تريد أن أرسم لك؟ يصمت. هل أعجبتك هذه الحلوى؟ لا يجيب. هل أنت سعيد؟ يصمت. حزين إذن؟ يصمت أيضا ووجهه فارغ من أي معنى. ما الأمر؟!
في الحافلة وبينما نحن عائدون من أحد النشاطات فتحت الحديث مع سارة.
هل تعلمنا اللعب؟ لا أذكر أن أحداً علمني اللعب.
لا أدري، هل لاحظت أن الأطفال لا يعرفون كيف يعبرون عن مشاعرهم؟
أجل.. لم أفهم ذهولهم. هل لاحظت ذلك؟
نجد حلاً.
كيف؟
نسأل.
لم يعد هناك مختصون في هذا البلد.
نبحث
أين؟
في كلية التربية طبعا.
طلاب جدد.
لا تستخفّي بالشغف! جدي الشغوفين مثلك بالرسم.
أحرجتني.
ههه
ذهبنا إلى كلية التربية، سألنا بعض الأسئلة عن الأطفال وتأثرهم بالحرب، البعض كان يتململ منا ولكن البعض كان يخبرنا أين نسأل، إلى أن وصلنا إلى حنان. “حنان مهتمة بالموضوع وهي تعمل دائماً مع الأطفال” هكذا أخبرتنا إحدى الطالبات، وحنان كانت طالبة ماجستير في الجامعة لكنها معروفة بنشاطها وخبرتها العملية.
بدخول حنان للفريق أصبح العمل أجمل! بدأنا نرتب نشاطات موجهة، نشاطات تخرج الأطفال من الدمار المحيط، لا يعنينا دمار الجدران بل دمار الروح في داخل الإنسان فالإنسان هو الذي يبني تلك الحجارة لكن الحجارة لا تبني الإنسان.
تضحك سارة وتقول إن هدفها أن تصنع “تكايا” معنوية أينما حلت على هذا الكوكب، ثم تضيف بخجل “على قدر استطاعتي”.
كنا نعرف أن إمكانياتنا محدودة لكن أرواحنا كانت تعانق السماء، ورغم محدودية ما نقدم إلا أنه في ظل الفقر والشح الذي تخلفه الحرب فأي عطاء يشرق.
استمررت في الرسم على وجوه الأطفال بشكل موجه أكثر (هذا وجه حزين، هذا وجه سعيد، أنت سعيد لأني أرسم لك؟ ابتسم، حين نأخذ منك السكاكر تحزن أعبس.) أرسم لهم وأتأمل عيونهم هل تستعيد سحرها؟ أسترق السمع لأرواحهم بينما يحاولون السكون بين يديّ وأنا أرسم لهم، ثم أستمتع بصوت ضحكاتهم وتعابير وجوههم إن ظهرت بعد أن ينظروا لأنفسهم في المرآة، كنت أشعر وكأن رسوماتي تخلق لهم أجنحة فيطيرون من حضني مليئين بالفرح.
وفي اجتماعنا المعتاد على طرف البحرة الكبيرة بينما كنا نأكل البوظة ونتأمل جمال المنظر.
آه! هذا اسمه شحن للطاقة.
قالت سارة وهي ترفع رأسها للأعلى تتأمل الشجرة، خيوط الشمس المنعكسة على وجهها جعلت شكلها ملائكيا، مع سطح البحرة المتلألئ يعكس السماء والغيوم وأوراق الشجر كأننا في الجنة! ضحكت.
ها! فرح تضحك، كم هذا نادر.
سارة.. لا تظلميني لست كئيبة إلى هذا الحد.
لست كئيبة لا لكنك شديدة التفكير بكل شيء وربما تنسين الضحك في زحمة أفكارك.
ما العمل؟ محاطون بكل أنواع الحزن نحن، صوت القصف محزن ومظاهر الدمار، لكنه مفهوم! جشع وطمع ومصالح، أما الأشد حزناً وإيلاماً فهو وجوههم الكتيمة. لا تدرين ما خلفها! كأنهم محبوسون في ذواتهم. والمؤلم ربما أنني لا أفهم ما السبب.
رن هاتف سارة، انظري، إنها حنان. “أهلا حنان، ونحن أيضا لدينا الكثير لنتحادث به لو لديك الوقت، نحن في التكية، أهلاً، بانتظارك”.
هل ستأتي حنان إلى هنا؟
أجل وربما تساعدك على الفهم وتخفيف ألمك ثم تأملي هذا الجمال وأنسي العالم لحظة.
ألم أكن أضحك منذ قليل!
لماذا كنت تضحكين؟
هل تصدقين! خطر لي أننا في الجنة ،وسط كل هذا الدمار ههههه
هههههه.
بدأت حنان إجابة على سؤالي تقول:
– إن الأطفال يتعلمون التعبير عن مشاعرهم بالسؤال أو بالتقليد، إن كان مقدم الرعاية للطفل مشغول عنه بهمومه ومصائبه سنجد أطفالاً دون معالم.
وكيف سيكبرون.. أي أشخاص سيكونون في المستقبل!
لا أدري حقيقة، الحرب طبعاً شريكة فيما يحدث لهم لكني لست متأكدة أنها العامل الوحيد.
ماذا تقصدين؟
هذا الذي نشكو منه بوصفه ظاهرة غريبة، ربما لا يكون بسبب الحرب، ربما ينشغل مقدم الرعاية بسبب الهروب من الشعور، وبالتالي يولد أجيال تعاني ما لاحظتموه.
وهذا ليس بسبب الحرب؟
حسناً، ليس تماماً، يقول لاش أحد المفكرين الأميركيين واصفاً ظاهرة الفرار من الإحساس، إنها ظاهرة ترافق الإنسان المعاصر نتيجة الخوف من الخيبات ولحماية نفسه من الانهيار، ربما تقويها ظروف كالتي نعيشها لكنها موجودة بالعموم عند الإنسان المعاصر.
لم أفهم تماما! إلى أين يهرب، أو كيف يهرب؟
صراحة الفكرة ليست واضحة تماماً بالنسبة إليّ، لم أجد عنها إلا اللمم حاولت جاهدة أن أصل للمعلومات من خلال النت أو دكاترة الجامعة، لكن المعلومات غير متوفرة بالعربية والدكاترة لا تكاد تعرف شيئاً عن هذه الفكرة، أقصد “الهروب من الشعور”، لو كان الدكتور محمود أو الدكتورة نادية هنا، لكنهما غادرا البلد مع المغادرين.
صمتت حنان لثوان وهي تنظر للأرض، فبدت كأنها في لوحة منفصلة عن كل الجمال من حولها، وكأنها من زمن مختلف! الحقيقة أننا من زمن مختلف عن اللوحة حولنا. تنهدت فانتبهت وأكملت كلامها:
ينتج عن هذا الهروب أمور مثل: اللامبالاة، علاقات حرة دون التزام، علاقات دون تعلق عميق بين الأفراد، عيش الإنسان وحيداً وتنامي الاستقلال العاطفي لديه. هذا ما يسبب بدوره انتشار الإباحية والعلاقات العابرة. وهنا ربما نستطيع تفسير الإباحية وتفكك المجتمع والأسر الذي نراه في المجتمعات التي تعاني من الحروب، أقول ربما طبعا.
يا إلهي! هذا مخيف فعلا. (قالت سارة).
ههههه أجل مخيف.
ما المضحك يا حنان، وما الحل؟
المضحك شر البلية! أما الحل.. الموضوع عالمي يخص الجنس البشري ودراسات عميقة وأغلبها تدخل في إطار النظريات! لا أدري إن كان هذا هو الحل، مقولة فارغة “العائلة هي الجنة في عالم لا يرحم”.
لكن العائلة تتفكك.
اعذري تدخلي لكن هل والداك على وفاق؟
يبدو أن حنان لاحظت احتدام سارة، بينما أنا ألاعب ماء البحرة بيدي وأستمع للحديث.
أجل، ليس والدي الحقيقة، بل أخي يهم بالطلاق من زوجته، وأمي تمنعه، دعيني أخبرك الحكاية:
“تزوج أخي من ابنة جيراننا، كان في الجامعة وأغرم بها، تم الأمر بعد الكثير من المناوشات والرفض من الأهل لأنهما كانا صغيرين. المهم هذا كان قبل عشر سنوات، منذ ثلاث سنوات بدأت الشجارات بينهما ومنذ سنة تقريبا بدأت زوجة أخي تتحدث عن علاقات أخي مع نساء أخريات وتطلب الطلاق في محاولة لتهديده، لكن أخي لم يمانع وهنا كانت صدمتها ومحاولة العودة إلا أن شيئا بينها وبين أخي قد كسر. لديهما طفلان، ولهذا أمي تحاول منع هذا الطلاق، واستمرار الزواج الكارثي على أمل التحسن، فعن أيّ جنة تتحدثين؟
هنا بدأ الطلاق منذ فترة يا سارة، ما يميز العائلة هي المشاعر التي تحيط بالعلاقات، وإلا فحين تتحول العلاقات إلى مصلحة يصبح الآخر مجرّد طرف يحقّق منافعي وأحقق حاجاته، ولا يترتّب علي ذلك أيّ التزامات أو ارتباط عاطفيّ، هنا يبدأ الآخر بوضع حواجز ضد العواطف مع الآخر، ليجنب نفسه التوترات العاطفية”.
من منهما الملام إذن.
تنبهت إليّ سارة فيما يبدو.
أعتذر فرح، أظن أني تكلمت كثيراً واستأثرت بالجلسة.
أبدا أبدا، استمرا يهمني الموضوع.
أنت جنيت على نفسك. الموضوع سيتشعب هذه قصة أخي ولاحقاً ستأتي قصتي.
هههه، آسفة ليس الأمر مضحكاً.
بل كما قالت حنان! شر البلية ما يضحك، إذن أين كنا؟ من منهما الملام برأيك حنان؟
يا إلهي! ليس الموضوع بهذه السهولة! (قالت حنان) ما أعرفه أن ثمة لحظة مؤلمة توقظ في الإنسان نزعة الفردانية، فيصبح من المحرج أن يعرِض الإنسان مشاعره، أن يبكي، أن يُعلن بقوّة عن احتراقه، أو أن يكشف داخله بسرعة، فإنّ هذا من شأنه أن يجعله أكثر عرضة للافتراس وهذا يشعره بالقلق واللاأمان ويصبح الإنسان أكثر تكتّمًا فيما يتعلّق بعواطفه.
مؤلم. قلت.
جداً. أضافت سارة، إذا فيبدو أن وضع أخي مطمئن هههه.
نظرنا أنا وحنان لسارة في دهشة تركت فكينا السفليين يتجاوبان مع الجاذبية فضحكت سارة من منظرنا وشرحت.
حسناً، الأمر أن أخي تعرف منذ فترة قريبة بفتاة تعمل معه، إذن لم يتجاوب مع نزعة الفردانية. لكن الأمر أنه أصبح أشد عزماً على الطلاق، وأمي أشد إصراراً على الرفض لأن الفتاة التي أعجب بها أخي أكبر منه.
ربما يبحث عن أم، قلة هم شبان بلدنا القادرين على الفطام عن أمهاتهم.
أم! هنا أنا أصبحت من صف أخي
لماذا! “بصوت واحد أنا وحنان”
هههههه هنا تبدأ قصتي، هل تذكرون أحمد؟
أحمد الذي كان يعمل معنا في الفريق؟ سألتُ وصمتت حنان.
أجل، منذ فترة بدأت تنشأ بيننا علاقة جميلة، كنا نقضي الساعات معاً في المشاريع أو معاً نتحادث عبر الشبكة، ولأنه مسافر ليهرب من حمل السلاح في خدمة العلم، فقد فاتحني بموضوع مشاعره وأنه يريد أن يتقدم لخطبتي، المشكلة أنه يصغرني بأربع سنوات، والدتي وافقت! لكن والدته اعترضت في البدء استمر تواصلنا عبر الإنترنت وأكد أنه لن يتخلى عني، لكن مع استمرار رفض والدته، لا أدري الهجرة غيرته واختفى فجأة ولم يعد له أثر.
اختفى.
أجل، لم يعد له أيّ وجود على الشبكة اختفى يا فرح وأخذ مني روحي وتركني في حيرة وأسى، طبعاً لا يمكن أن أتواصل مع أهله. بصعوبة تمكنت من الوصول إلى أخيه الذي أجابني أنه بخير وفقط.
تباً! (قالت حنان بغضب)، هذا ما تصنعه علاقات تتأسّس بالعوالم الافتراضية بكبسة زر أو لمسة إصبع. بلمسة أضيف شخصا وبلمسة أقصيه تمامًا من حياتي. وهذا يعني أنّنا نعتاد أن نستسهل إنهاء العلاقات عند أول مشكلة، دون أن نختبر توترات الحب وأن نُجاهد لنبقَ مع مَن نُحبّ، دون أن نسعى لتحسين العلاقة بالطرق الصعبة
هل هذا عالمي أيضا؟ (سألت بسخرية).
أجل، للأسف. الآخرون سوق فيه أنا المُشتري، والآخر إمّا أن يناسبني ويأتي على مقاسي أو أتخلّى عنه بسهولة. وبالتالي نفقد أيّ خبرة ذاتية عن إعادة تقييم ذواتنا. فببساطة نحن لا نراجع ذواتنا، وإنما نعزو فشل العلاقة بأنّ الآخر لم يكن ملائمًا بما فيه الكفاية، علاقات هشّة، وعابرة وسريعة تمامًا مثل وجبات سريعة، وتغريدات مختصرة، وحُب سائل بوصف زيجمونت باومان. لا وقت لدينا لنخبر بكثافة ولا وقت لدينا لنخوض بشجاعة.
هل نحن أمام إنسانية بلا قلب إذن.
أو حسب تعبير غسان كنفاني “إنّ شراستكَ كلّها إنّما هي لإخفاء قلبٍ هَش”.
أجل نحن نمتلك هشاشة إلى أبعد حد. قالت سارة وهي تجلس على العشب، رمت هاتفها بعيداً عنها وغرقت في عالمها بعيداً عنا.
ما الحل برأيك؟ سألت حنان وقلبي يتقطع على سارة.
الحل الذي أظنه، ولست متأكدة، صعب ويحتاج إلى شجاعة كبيرة، كخوض حروب الزمن الأول قد يخرج منها الإنسان بعاهة مستديمة أو جروح كثيرة منتصراً أو شهيداً.
ما هو؟
الحب.