التوأم

مددت بصري في فراغ الحجرة الخالية إلا منى، أجلس القرفصاء في ركن ركين. فبدوت كعصفور جريح مكسور الجناح أخفق في الطيران فانكفأ على نفسه مستغرقا في أنينه.
شد انتباهي طائر جميل وغريب لم أر مثله حط على جدار نافذتي ونقر الزجاج ليقول لي لست وحدك، أنا بالداخل وهو بالخارج يفصل بيننا الزجاج.
عندما اقتربت منه طار فزعا وتركني وحيدة.
بدأ المطر ينقر زجاج النافذة نقرا خفيفا. ثم ما لبث أن اشتد المطر.
كنت آمل أن أستضيف الطائر في حجرتي.
فتحت النافذة على مصراعيها، تدليت لأنظر إلى الشارع.. بدأ المطر في الهطول حتى كاد يكون سيلا أحال الشارع إلى بركة من الوحل، هرول المارة يحتمون بمداخل البنايات والمظلات، اتجه نظري إلى رجل لا أخطئه. هو بعينه بطول قامته المفرط وجثته الضخمة ولحيته الشعثاء وعبوسه المعتاد وعينيه الواسعتين لدرجة مخيفة. يقبض بيده على يد طفلة صغيرة رقيقة يجرّها جرّا خلفه كأنها كبش سيق للذبح، وهي بدورها تجر أوحال الطريق بأطراف ثوبها الطويل الجرجار،
بدا المشهد كأن الرجل ذئب متوحش يقبض على عصفور جريح بين مخالبه.
ناديت عليها بكل قوتي من بوقي الصدئ لأحذرها لكنها لم تسمعني.
لن أنتظر طويلا مكتوفة اليدين حتى تقع الكارثة.
لن أتركها.. إنها توأمي السمراء.
صحت عليه: قف، إياك أن تتزحزح عن مكانك أيها القرصان لن أتركك تفر بها، أعرفك جيدا مهما تخفيت وصبغت شعرك الأحمر الجني بهذا اللون الأسود الكئيب. لن تخدعني مهما تنكرت.
***
أنا مصرة على استرجاع توأمي من بين مخالبك الحادة، قبل أن تنتهك حرمتها وتفترس براءتها وتقتلها، ثم تجلس هادئا تقلب جسدها الغض على الجمر بيدك الموشومة بالدماء في تمهل لتصنع من رفاتها كأسك الشهير وتحتسى فيه خمرك منتشيا وأنت تحتضنه بفرح ألق لأنك استحوذت عليها وحدك، فيصير وجهك وجسدك وشعرك أحمر وعيناك حمراوتين.
هل هذا عشق أم جنون؟
لو أني مت، ماذا ستفعل المسكينة؟
من سيحذرها لو كسر بوقي؟
من سيلملم رفاتها من بعدي؟
أراه واقفا والشمس حمراء فوق رأسه تزيده احمرارا يستند على عامود ضخم من الهواء، يراقبها عن بعد لا يرفع عينيه عنها كضبع يترقب فريسته، يتحين الفرصة للانقضاض عليها والإنفراد بها فلا يتركها إلا بعد أن يصنع من رمادها كأسه المشؤوم.
حتى لو مت ستهرب روحي من قبري وأختلس اللحظة التي ينام فيها رفاقي الموتى وأتسلل خارجة أبحث عنها.
لن أهدأ حتى أعيدها إلى أمي ونجلس سويا في البستان الشرقي.
لماذا فصلونا عن بعضنا عند توزيع التركة؟
أنا البيضاء الشقراء ذات العيون الزرقاء من نصيب أمي التي أشبهها تماما، وتوأمي السمراء التي تشبه أبي إلى حد التطابق من نصيب جدي الذي تشبث بها إلى حد الجنون بعد موت أبي.
وزعنا وقسمنا كما تقسم الأموال والأراضي وبقية الأشياء.
أنا اليوم أصبحت أتمتع بحنان أمي أما توأمي مع جدي
أراها تأفل ولن تصبح سوى جارية، لقد بلغ به هوس امتلاكها حد الجنون، يجب أن ألحق به قبل وقوع الانفجار.
***
هو لا يهدأ أبدا والكأس الذي بين يديه لن يروى عطشه مازال يطلب المزيد.
لماذا فصلونا نحن التوأمين؟ كل شيء يكفى لنا نحن الاثنتين فلماذا قسمونا؟
المهم الآن أن ألحق بها سريعا قبل أن يتم اغتيالها، لن أرحمه هو الذي مزقنا ونزع توأمي منى.
صرنا نقف على ضفتين كل منا ظهره للآخر لا ينظر بعضنا بعضا.
ولو انقلبنا أفقيا صارت إحدانا العليا والأخرى السفلي، هي الخائفة المرتابة دوما تجلس متقوقعة في ركن ركين. وأنا المبتهجة دائما الجالسة على مقعدي الذهبي.
إنها قسمة جائرة. صرخت وبكيتها حتى جفت دموعي، فأفهمتني أمي أنها ستزورني على هيئة طائر غريب، لكن الطائر فزع وطار بعيدا وتركني وحيدة.
لن أتركها بعد أن مرّت من تحت نافذتي كأنها تستنجد بي.
هرعت أجرى خلفهما لألحق بهما قبل أن يغيبا عن ناظري وتتكرر المأساة، ظللت أجري، أجري، أبحث في كل اتجاه، لم أعثر عليهما، لن أسامح نفسي إذا فشلت في العثور عليها، لن أعود إلا بتوأمي.
***
وقفت حائرة، لا أعرف إلى أيّ اتجاه أتجه، لقد ضللت الطريق، لم أستدل على طريق العودة إلى بيتي.. ولا الطريق الذي سلكته توأمي تاهت عن ناظري، وجدت نفسي في أرض غريبة.. أين أنا؟ ومن أيّ اتجاه جئت؟ وإلى أيّ اتجاه أسير؟
الظلام يحيطني من كل جانب، لفّني الصمت الرهيب، حاولت أن أشقه بصراخي حتى بح صوتي وتحشرج، أصابني الرعب أكثر، أغرقني المطر فارتعش جسدي الأسمر النحيل بشده. وجلست منكفئة أنظف الأوحال عن ثوبي الطويل الجرجار.