الجدب الإبداعي واعتزال الكتابة
تختلفُ معايير الإبداع بين جيل وآخر وتتطور أدوات التعبير بين مرحلة وأخرى، وتولد لغة مستحدثة لكل عصر جديد لتُصبح هي السائدة وهي المقبولة وهي المحتضنة لقمّة الإبداع والتطوّر، ولا يمكن أن تفتقر الساحة الثقافية والاقتصادية والفكرية، ولا أن يصيبها القحط والجفاف، لأن المد الإنساني زاخر بتركيبته الغامضة التي وإن اختلفت نسبها إلّا أنَّ الإبداع دائماً يتألّق برمز جديد وبإيحاء مختلف.
فالأدب المكتوب في عصر المنفلوطي وطه حسين وعباس العقاد تختلف فواصله وصياغته ورموزه عمّا قدّمه بعد ذلك يوسف إدريس، غادة السمان، والطيّب صالح.. والشعر الذي اعترف بأحمد شوقي أميراً له، تختلف بحوره وتفعيلاته وشموسه لدى محمود درويش ومحمد الفيتوري وأدونيس.. كذلك النفوس التي كانت تهتزّ طرباً لعبده الحمولي كانت تنظر بريبة وشك إلى الموسيقار محمد عبدالوهاب وإلى السيدة أم كلثوم، باعتبارهما دخلاء صغاراً على الأصالة السائدة في ذلك العصر، وهكذا تتباين وقد تتضاد الصور والأبنية والأوعية التي يضمّها نتاج كل عصر ولكن تبقى كل منها هي المؤثرة في أوانها ذات الدلائل والإسقاطات والموحيات التي تحتاجها كل مرحلة في دفعها الحضاري.
فما كان يستقبل بخوف وحذر وشك ورفض في بداية ظهوره، ويعامل كدخيل يُحارب الأصالة الموجودة، يصبح على مرّ الأيام هو “الجذور الرابضة في الأرض” في وجه القادم الذي سيأتي في مرحلة أخرى، وقد ارتدى رداء عصره وقد استفاد من تجارب وتراث وفكر من سبقوه.. ولا يغيب عن الأذهان أنّه بالرغم من الفراغ الذي سيخلّفه غياب قمم في الأدب أو الموسيقى أو الفكر أو الفلسفة.. الخ إلّا أن أمواجاً قادمة سترفد الشاطئ بمبدعين ومجتهدين ومفكرين جدّد لهم أدواتهم وحرفيتهم وإضافاتهم التي ستحمل عبق تراث مختلف لا يخلو من فنية وجدّة وإبداع.. سوف يكون له عشاقه ومتذوقوه من أجيال أخرى قادمة ستأتي وسيولد معها تقليد متطور يواكب كل جوانب الحياة.
المتابع للمؤلفات الجديدة المتوالية الصدور والطبع يفاجأ بظهور إرهاصات واعدة لأصوات موهوبة لا يتوقع أبداً بروزها، كأنّها خرجت فجأةً من رحم الغيب ويراها تتصدر بتمكن قائمة مبدعي المستقبل في كل مجالات أدب وفن وفكر الحياة بأشكاله المتنوعة. إنّها تخرج إلينا في فترة ما كأنها قدر منتظر حدوثه، أو كأنها حدث جاء في غير زمانه لتخلق هذه المفارقة جيلاً من المبدعين يعزفون حداءَ عصرهم ويصنعون علامته الواضحة.
إنَّ المواهب الحقيقية تتشكل في هدوء ظاهري وتنصهر بين ثنايا بركان داخلي جارف يموج بالانفعالات الصاخبة الشرسة المتصارعة داخل محارته الذاتية ذات المغارات العتيقة والمفاوز القديمة لتنهمر بعد ذلك شهداً من الإبداع يتخطى الذات وينتشر كإبداع حر ملك للمجموع له تاريخه الإنساني المميز وخصوصيته وتجربته وأسلوبه.
إنَّ الإبداع موجة طليقة لا تستشير أحداً عند مدّها وجزرها، ولا تنتظر رهان أحد على تميّزها أو صدقها، ولا يهمّها بأن يترك أيّ كان بصماته عليها أو يهملها. إنّها هكذا تتبلور وتنحت لها أسلوبها ومنهجها الخاص ثم تنضج، ثم تتابع مهمتها الحضارية ودورها المؤثر وجريانها المتدفّق حسب رؤيتها لتطوير واقعها في ظل تداعي الحواجز بين الأمم والحضارات وتحت وطأة حدة الصراع بين النظريات والمصالح والمعتقدات.
إنَّ الحياة البشرية تتطوّر وتتحرك وتتوسع بنقلات تاريخية لا تحتمل التأجيل بل تفرض تحولاتها الاقتصادية والاجتماعية بقوى كونية تحدث التغيير وتلزمه. والمستقبل دائماً واعد يُحبَلُ بالواهب وإن اختلفت أوعيتها وتغيرت أشكالها وأساليبها، ولكن إبداعها يبقى كما هو لا يتغير.. وأضافتها للتاريخ الإنساني وإسهاماتها في التنمية الحضارية للشعوب تبقى شاهداً على أن العقل البشري لا يعرفُ أبداً التحجّر أو الجمود.
وهناك الكثير من الأدباء مرواً بحالة من الجدب الإبداعي، وارتضوا بمصيرهم وانتقلوا إلى أنواع أخرى من الكتابة كحالة من التعويض الذاتي، وأنَّ الأديب وحده هو الذي يمتلك القدرة على قرار اعتزال الكتابة والتوقف عنها.
وطبيعي أن يمرّ المبدع في فترات من حياته بحالات جدب، حيث تستعصي عليه العملية الإبداعية، بداية من تشوّش الفكرة إلى ضعف الصياغة، وربما عدم الاطمئنان إلى المفردة التي تؤدي المعنى، المشكلة في ثبات حالة الجدب.
وإنّ الفنان وحده دون سائر الناس قد يذوق الموت مرتين، حين ينتهي أجله، وموت أدبي حين ينضب معينه، وكلمات يحيى حقي تذكرني بقول تينسي وليامز، وهو من ضمن أعظم الكتاب المسرحيين في الدراما الأميركية “إنّ كل فنان يموت ميتتين، ليس موته هو مخلوقاً مادياً فقط، وإنما موت طاقته الخلاّقة أيضاً، فهي تموت معه”.
وبالنسبة إلى حقي، فقد أضاف إلى تأثّره أنّه توقف عن الإبداع القصصي في سنّ السادسة والخمسين، وهي سنّ عطاء وليست سن توقف.
فمجموعة “الفراش الشاغر” التي كتبها في العام 1961 كانت آخر قصصه القصيرة، لم يكتب بعدها سوى خواطره ومقالاته الصحافية، وقد سأله أحدهم: لماذا لا تعود إلى كتابة القصة، فقال له ببساطته العفوية: تُجهدني كتابة القصة.
إنَّ العمل الفني لا يقبل الوسط، أو التساهل، أو القناعة بالحسن دون الأحسن، إنه يتطلب حشد كل القوى.
والمعروف أن حقي يُعد رائداً لفن القصة القصيرة العربية؛ فهو أحد الرواد الأوائل لهذا الفن، وخرج من تحت عباءته كثير من الكُتاب والمبدعين في العصر الحديث، وكانت له بصمات واضحة في أدب وإبداع العديد من أدباء الأجيال التالية.
وأرجع نجيب محفوظ فترة توقفه عن الكتابة السردية الإبداعية، بعد قيام ثورة يوليو 1952 إلى تصوره بأنه قال كل ما لديه، ولم يعد لديه ما يضيفه، وتحدّث محفوظ عن الأحلام التي بدا أن الثورة قامت لتحقيقها، بحيث انتفى الغرض من مواصلة الكتابة، ولو من خلال الواقعية الطبيعية التي اتسمت بها رواياته منذ “خان الخليلي” إلى “الثلاثية”.
لم يواجه نجيب محفوظ بخذلان الإبداع لأنه حرص على أن يظل في عناقه له، حتى الفترات التي توقف فيها عن النشر، أيام رئاسته لمؤسسة السينما مثلاً كان حريصاً على الجلوس إلى مكتبه، بصورةٍ يومية.
ولعلّي أتصور أن حرص المبدع على فنّه يساوي حرص الإنسان العادي على عضلة ما في جسده، إذا لم يستعملها في الغرض الذي خلقت له، فإنّها ستتأثر، ويصيبها ما أصاب الزائدة الدودية التي كان لها تأثيرها الإيجابي في جسد الإنسان.
إنّ الفنان هو الإنسان الوحيد الذي يمكنه أن يصدر قرار إحالته إلى المعاش من داخله، تفاجئه اللحظة التي نسيها في وقت لم يتوقعه، وتعجبني مقولة “على الكاتب أن يموت ويُبعث”، وهي كلمات لا تخلو من صحة.
فالإبداع ليس خطاً مستقيماً ولا طريقاً تخلو من النتوءات والتعرّجات والعقبات، قد تُقلق المبدع فترات من النضوب، يعاني خلالها التشكك والخوف من فقدان الطريق، لكنه ما يلبث أن يسترد عافيته الإبداعية.
قد يمرض الإبداع، لكنه يعود إلى تعافيه، أما إذا مات، فالعودة مستحيلة، وقد أدرك الياباني يوكيو ميشيما، هو الاسم الأدبي للكاتب الياباني كيميتاكي هيراوكا، الذي كان روائياً وشاعراً وكاتباً مسرحياً وممثلاً ومخرج أفلام. بعد اكتمال ثلاثيته الروائية، أنّه قد أنهى ذروة أعماله، وأنه لم يعد لديه ما يضيفه، وحتى يتخلّص من المأزق فقد قتل نفسه، ربما كان ذلك هو السبب نفسه الذي أملى على إرنست همينغواي، وهو من أهم الروائيين وكتاب القصة الأميركيين، فكرة الانتحار بعد أن فاز بجائزة نوبل على رائعته “العجوز والبحر”، أو “الشيخ والبحر” وقام بتأليفها في هافانا، كوبا في العام 1951، وكانت إحدى روائعه إلى جانب “وداعاً للسلاح”، و”ثلوج كلمنجارو”، و”لاتزال الشمس تشرق”.
تساءل هيمنغواي، قبل أن تشغله فكرة الانتحار: ما الذي يفعله رجل في الثانية والستين؟. اكتشف فجأة أنّه لا يستطيع أن يؤلف الكتب التي حلم بها.
إنّ قرار التوقف قد يفرضه المبدع على نفسه، لاعتبارات قد لا يكون نضوب الإبداع من بينها، ثمّة عوامل خارجية، تفرض على المبدع أن يتوقف، لعل في مقدمتها تبين المبدع أنه لا يستطيع العيش من كتاباته، فهو لا بد أن يعمل في وظيفة ما، تعينه على الحياة بينما يظل الإبداع مجرد هواية تتطلب الإنفاق عليها.