الجدران العازلة
يليق وصف الجدران العازلة بتلك الحدود الصلبة التي وجد نزار قباني نفسه إزاءها مبكرا وفي مراحل حرجة من حياة الشعرية العربية، هي الخمسينات تحديدا، حيث واجه المشروع التحديثي العربي تحديات متعددة المنطلقات متوحدة الأهداف.
الخمسينات كانت ذروة الصراع بين التجديد والتقليد في الشعر العربي، وبداية نهوض الرواية العربية بشكل جماهيري، تعضده السينما والصحافة والمسرح وتيارات التحديث التشكيلية والنقد الأدبي.
لقد شهد كل من تلك الأنواع الأدبية والفنية تحوّلات انعكست في طبيعة النصوص الفنية والأدبية، وفي طرق تلقيها جماهيريا والتفاعل النقدي معها، وقبل ذلك في الخطاب الذي يؤطرها، ويضخ لها سبل الحِجاج، وعناصر الحداثة التي كانت في بدايتها كفاحية دعت نزار إلى أن يسمّي أولى مواجهاته عند نشر قصيدته (خبز وحشيش وقمر) بأنها مواجهة بالسلاح الأبيض بينه وبين الخرافة. وكان مصيباً في توصيفه. فقد مثلت القصيدة والثورات المتعاقبة في بلدان عربية شتى، وحروب التحرير ضد الاستعمار والاحتكار ثورات مصر والعراق 1952 و1958 وحرب السويس والتمهيد النهائي لثورة اليمن واستقلال الجزائر وسواها.. فكانت مقاومة التحديث الاجتماعي والفني وخطابهما يَظهران بقوة إلى العلن، ليمثلا المركزين البؤريين في دائرة الصراع الثقافي -الاجتماعي في الخمسينات، حيث كانت محاولات الرواد العراقيين محل جدل بين رفض وقبول.
لذا مثلت هذه القصيدة وسائر قصائده التالية استفزازا لتلك الثوابت التي تشبه الجدران العازلة بوجه التجديد في الحياة والفن. ولأهمية القصيدة فإنها لا تزال تتلقى تفاعلا من قراء الأجيال التالية في المواقع الإلكترونية كما لاحظت.
حين كتب نزار مذكراته مسترجعا ما قوبلت به قصيدته وما ناله من المتشدّدين عند نشرها نجده يربط خيط الحداثة المستفزة للثوابت، بما تعرض له جده الفنان المسرحي المجدد أبوخليل القباني. فيقول “حين نشرتُ عام 1954 قصيدتي ‘خبز وحشيش وقمر’.. العمائم نفسها التي طالبت بشنق أبي خليل طالبت بشنقي.. والذقون المحشوّة بغبار التاريخ التي طلبت رأسه طلبت رأسي..”.
نشر نزار القصيدة أول مرة في مجلة الآداب عام 1954، وأثبتها في ديوانه “قصائد من نزار قباني” عام 1956. وكان رد الفعل على نشرها في “الآداب” محدودا لعدم إطلاع الجمهور عليها بشكل كافٍ، لطبيعة توزيع المجلة المحدود نسبيا بالقياس مع المطبوع الكتابي، لكن نشرها في الديوان أعاد قضيتها مجددا وبشكل مكثف حتى وصل إلى البرلمان؛ فطالب نواب سوريون بمعاقبة الشاعر ومقاضاته وطرده من السلك الدبلوماسي الذي كان يعمل موظفا فيه، كما نالها من الخطباء والمشتغلين في الفتاوى والمؤسسات الدينية، وبعض الكتّاب والصحافيين أعنف هجوم على نص شعري، وعلى الشاعر ومناصريه، ولم توفر الاتهامات التي جاءت في سياق تلك المعركة أي تهمة ممكنة من المروق، وإيذاء الذوق العام والتقاليد، حتى الخيانة والعمالة!
كان خطاب نزار التحديثي الاستفزازي يتخذ وسيلته من حرية البناء البيتي الجديد، واللغة المباشرة التي تسمي الأشياء بأسمائها دون تردد، فكان يحرج التلقي النقدي أيضا، لا الذوق الجماهيري المكرس بتكرار النصوص التقليدية، ومفاهيم العيب والمنع والعار الراسخة عندهم، بل أحرج النقد الأدبي والصحافة الثقافية، ما دعا مثلا مجلة مصرية، عند عرضها لديوان نزار “طفولة نهد”، إلى أن تحوّر العنوان إلى “طفولة نهر!” في العرض كله! كأنما لتتبرأ من المسمى وتلغيه في عرضها الذي كان منصفا لنزار، ولكن بحجب عنوانه الأصلي المتضمن اسم النهد واستبدال النهر به.
لقد نعى نزار امتثال أهل الشرق للتراخي والكسل وانتظار الغيب بلا عمل سوى الأحلام الواهمة بحدوث الخوارق التي ستغير حياتهم عبر الأساطير والخرافات التي آمنوا بها، فكانت نوعا آخر من جدران عازلة عالية بينهم وبين الشاعر بوعيه الجديد.
وفي مقطعها الأول تقرر القصيدة بوصف موجز مختزل عادات الشرقيين في طقوسهم الجماعية:
“عندما يولد في الشرق القمر..
فالسطوح البيض تغفو
تحت أكداس الزهرْ..
يترك الناس الحوانيت ويمضون زمرْ
لملاقاة القمرْ..
يحملون الخبزَ.. والحاكي.. إلى رأس الجبال
ومعدّات الخَدَرْ..
ويبيعون.. ويشرون.. خيال
وصُوَرْ..
ويموتون إذا عاش القمرْ..
وتدل زمنية النص واستهلاله بـ”عندما..” على تأكيد الشاعر على تكرارية هذا الوهم ورسوخه في العقلية المتوارثة عبر الأجيال. لكنه في المقطع التالي يتساءل عن مغزى هذا الهوس بالخرافة، والتواكل وانتظار ما في الغيب و”استجداء السماء”:
ما الذي يفعله قرص ضياءْ؟
ببلادي..
ببلاد الأنبياءْ..
وبلاد البسطاءْ..
ماضغي التبغ وتجار الخدَرْ
ما الذي يفعله فينا القمرْ؟
فنضيع الكبرياءْ..
ونعيش نستجدي السماءْ..
تتسم القصيدة بهيجان لغوي وصوري يتصاعد في مقاطعها الأخيرة، فيكيل نزار هجاءً مباشراً لناس البلاد البسطاء كما يسمّيهم، وينتزع إشارةً بالغة الدلالة من طقوسهم هي التواشيح الطويلة، ويرى أنها – بمبالغة لا تستوعبها التواشيح التي هي مظهر للتخلف لا جوهره- تجتر أحلاماً مثبطةً للعزم وكسولة! حدت بالبلاد أن تبحث عن بطولاتها في بطولة ماضية عن أبي زيد الهلالي:
لوحة: جان حنا
في بلادي..
في بلاد البسطاءْ..
حيث تجترّ التواشيحُ الطويلة..
ذلك السلّ الذي يفتك بالشرقِ..
التواشيح الطويلةْ..
شرقنا المجترّ.. تاريخاً..
وأحلاماً كسولةْ..
وخرافاتٍ خوالي..
شرقنا الباحث عن كل بطولةْ..
في أبي زيد الهلالي..
وإذا كان هذا سر اصطدام نزار قباني في خطابه الشعري بالوهم الاجتماعي والتخلف كجدران عازلة للوعي الجديد، ومحددات توصيل هدفه، فإن ثورته على السلطات الممثلة بالأنظمة، وبما تقترفه في بلدانها من قمع للحريات وتخاذلها وخسارة الحروب الوطنية، والتقهقر نحو الماضي، والعيش فيه كان الضلع الثالث في تجديد خطاب نزار. ولقد كانت نكبة 1967 أو هزيمة العرب أمام إسرائيل، ونهب الصهاينة للمزيد من الأراضي العربية، وهيمنة الاحتلال وتوسّعه خارج فلسطين بعد النكبة الأولى عام 1948، سبباً في تغيير خطابه من الأمل الذي تمثله قصائده في فلسطين، وما كتب لها مبكرا، ثم تكريسه لقصائد كثيرة، وما ديوان هوامش على دفتر النكسة إلا مثالا لها:
إذا خسرنا الحربَ لا غرابهْ
لأننا ندخُلها..
بكلِّ ما يملكُ الشرقيُّ من مواهبِ الخطابهْ
بالعنترياتِ التي ما قتلت ذبابهْ
لأننا ندخلها..
بمنطقِ الطبلةِ والربابهْ
السرُّ في مأساتنا
صراخنا أضخمُ من أصواتنا
وسيفُنا أطولُ من قاماتنا
خلاصةُ القضيّهْ
توجزُ في عبارهْ
لقد لبسنا قشرةَ الحضارهْ
والروحُ جاهليّهْ…
بالنّايِ والمزمار..
لا يحدثُ انتصار
لقد أحدث نزار تزاوجاً وتركيباً مضمونياً في خطابه بين ما هو رفض اجتماعي واختلاف مع الآخرين في مسيرهم وقناعاتهم، وبين الرفض السياسي وفضح الخطاب الذي يرى نزار أنه هو الذي أوصل العرب للهزيمة والنكبة الجديدة. وهو خطاب عنتري فارغ ثبت فشله في المعركة.
فهو مثلاً يؤكد أن النصر لا يتم بالتهريج والديماغوجية اللذين يضللان الشعوب ويوهمانها بأن الهزائم انتصارات. فالطبل والناي والمزمار نالتها هجائيات نزار بسبب التشفير الدلالي واتخاذها مؤشرات للهزائم التي تصاحبها، وكذلك في النقد الاجتماعي يفضح نزار الازدواجية والتناقض بين بداوة متأصلة باقية بعيوبها داخلنا، وبين قشرة الحضارة التي لبسها العرب عبر ما يصلهم من مظاهرها الخارجية.
أما الضلع الثالث في خطاب نزار فهو خطاب المرأة المتحررة التي عاملها بعدة مستويات، أعتقدُ جازماً أنها سبب الخلل الذي أصاب الخطاب في تمثله وتمثيله للمرأة، وصورتها التي قدمها بخصوصية، ولكن بتعميم كثير. فهي ذات وجوه عدة تبعاً لصلة الشاعر بها، أو بصورتها الشعرية المتوهمة:
- فهي في أحد المستويات حبيبة مشتهاة، كقصيدة “أنت لي”.
- ومُحبة متمردة لا تقف أمام حبها حدود، كقصيدة “مذكرات امرأة لا مبالية”.
- وموضع للجنس والاشتهاء من حيث جماليات جسدها وامتلاكه: “إلى أجيرة”.
وهي متغطرسة ذات كبرياء زائف ونزوات وربما شاذة في عواطفها: “القصيدة الشريرة”.
وتمثّل ذلك نصوص كثيرة في شعر نزار يطول المقال إن نحن استشهدنا بها. لذا اكتفيت بالإشارة إليها كنماذج فحسب.
لقد كان نزار يستفز المجتمع من أضعف نقاط خطابه البالي وهي المرأة، والنظر الذكوري الدوني لها، فعاملها حبيبة مشتهاة عاطفة وجسداً لا يريد التقليديون في المجتمع أن يروه، فيضعون أمامه جدراناً عاليةً تسلقها نزار وهدّمها ليكشف ما يرونه في خطابهم عورةً بأنها واحدة من أبشع عوراتهم. ويربط ذلك بتوارث هذه الصورة عن المرأة، فيمزج معها تقليداً اجتماعياً بالثورة من أجل الحب وقطبها الثاني المهمّش: المرأة.
يكتب نزار عام 1957 مقالة بعنوان “الله والشعر” يؤكد أن نساء نزار في النهاية هن ما كونته فكرته عنهن. إنهن كائنات ورقية صنعها في قصائده وثار عليها أحياناً، لكنهن ملكه هو، فيقول “والأشياء الصغيرة الصغيرة التي تمتلكها حبيبتي هي ملكي، قواريرها، عطرها، مروحتها، أمشاطها، ثوبها الجديد المنقول عن شجيرة دراق مزهرة.. كل هذه الأشياء ماذا تكون لو لم أصبغها بدمي.. ودم قصائدي؟) مؤكدا ما وهبته قصائده لصورة المرأة من مزايا ومواقف، أرى أنها صارت جزءاً مضافاً إلى الجدران العازلة التي وضعها أمامها الآخرون.
لكنه لا يتوانى في قصيدة مثل “طوق الياسمين” أن يهجو العاشقة التي لا تفهم الحب، فتدع هديته – طوق الياسمين- مرمياً بمهانة تحت أرجل الراقصين، لا تبالي به وبمهديه لها:
“وبدأت أكتشف اليقين
وعرفت أنك للسوى تتجملين
وله ترشين العطور
وتقلعين وترتدين
ولمحت طوق الياسمين
في الأرض .. مكتوم الأنين
كالجثة البيضاء تدفعه جموع الراقصين
ويهم فارسك الجميل بأخذه
فتمانعين
وتقهقهين
لا شيء يستدعي انحناءك
ذاك طوق الياسمين”
تلك القسوة في عواطف المرأة تجسدها تراكيب ومفردات ذات طابع مندفع إيقاعياً، وبلغة يسودها الهيجان، وينعكس ذلك على بنائها الفني، رغم السرد الذي يكون خيطا ينتظمها بدقة، من حدث لآخر، وبشخصيات وحوارات جذابة، ونهاية مؤثرة.
وذلك يفسر حفاظ نزار على إطار موسيقي عالي النبرة لخطابه الشعري، مجَسَّداً في النصوص بشكل قوافٍ متكررة، وأوزان ذات إيقاع سريع أو مكثف، لا بالقافية وحدها بل بالتفعيلات كثيرة الحركات والسكون.
لقد كان نزار من أهم الشعراء الثوار متعددي المراجع: شعراً وفكرا.. وهذا ما أعطاه تلك المكانة الجماهيرية التي ظلت له مع توالي المدارس والأساليب والتيارات. تساعد في ذلك الحضور حركة المجتمع البطيئة في التحرر والحداثة، وثبات صورة المرأة المتوارثة في الوعي الجمعي.