الجنة المفقودة
زقاق الجن
كانت المرة العاشرة، وربما أكثر، تلك التي أصطاد فيها سمكة زرقاء، في المرة الأولى لم أملك نفسي عن جعل أمي ترى ما اصطدت، أعني السمكة الزرقاء التي كانت “متخصصة” بتحقيق الأماني والأحلام، ولكن أمي وكانت قد استمعت إلى حكايات الملك سيف بن ذي يزن معي، وسمعت بحكايته عن العثور على السمكة الزرقاء التي تستطيع تحقيق جميع الأماني المخبوءة في الصدور. ولكنها ما إن رأت السمكة حتى ضحكت وقالت “ألا ترى هذه السمكة ليست زرقاء ولا خضراء” وأكملت ضاحكة “وربما لم تكن سمكة أصلاً”.
نظرت منكسراً إلى أمي، وقسوتها، وقدرتها على تحطيم الأمنيات، ثم إلى السمكة لأرى أنها ليست زرقاء فعلاً، بل بنيّة شاحبة وحتى البنيّ فيها كان شاحباً، وتكاد تكون شاحبة اللون ككل – وكانت بالطبع قد ماتت – رغم أنها في ساعة القبض عليها كانت تتقافز، وتكاد تصرخ وهي تتلوى وتقول: أنا لست سمكتك الزرقاء، بل ولا حتى الحمراء، ولا الخضراء أنا سمكة متواضعة بنية اللون، فدعني وشأني.
كنت قد سمعت في مجالس الحي عن احتيالات السمكة الزرقاء، وادعاءاتها، وتنكراتها بكل الألوان، وأنها تفتعل هذا لتتهرب من العبودية أو للعمل خادمة لدى القابض عليها، فهي حين يقبض عليها تتحول إلى موزعة أحلام وأمان لبني البشر الذين يعيشون حالمين، ويموتون حالمين، وتكون النتيجة أن تتحول إلى سمكة لا عمل لها إلا تحقيق الأماني للفاشلين في حيواتهم، فكانت كما ذكر الكتاب الوحيد الذي تحدث عنها تحوّل نفسها لدى الإصرار على موتها إلى سمكة ميتة لا يستفيد منها أبناء الحالمين.
كنت لغيظي من تصرفها الرافض لمساعدتي بتنكرها باللون البني قد رميتها بكامل قوتي إلى السطوح في بيتنا لتجف وتتعفن بدل أن أرميها كما تتمنى في بالوعة البيت، فترتد إليها الحياة، وتنسل وهي تشير إلينا بإصبعها الوسطى، تشير إلينا به ساخرة من عجزنا عن استغلال القبض عليها لإجبارها على تحقيق أمانينا في الثروة والنجاح في الحياة.
عشر مرات قبضت عليها من نهر كفرسوسة المسمى (الكفرسوساني) ومرات من (الديراني)، وكانت في كل مرة تبدل لونها بعد القبض عليها مباشرة لتصبح بنية أو بيضاء صافية اللون، ولما كنت لا أسعى وراء لونها الأبيض القابل للتغير بعد القبض عليها، وأعرف أن تحولها اللوني ليس إلا الجواب على ما أحلم به من تحقيق الأماني بعودة الأب إلى البيت ونسيان الغضب الذي حدا به إلى ترك البيت والسكنى كما عرفت من الشيخ بهجت فيما بعد معايراً لي عن السكني في التكية السليمانية، تلك التكية التي زرتها عدة مرات فيما بعد معرفتي من الشيخ بهجت بمكان إقامته بعيداً عن زوجه وابنه.
لم أستطع التقرب منه أو الحديث إليه في التكية، وكنت خائفاً في الوقت نفسه من معرفة أمي بمحاولاتي الفاشلة، لذا كنت أرمي السمكة في كل الأحيان على سطح البيت الطيني لتيبس، وتجف على السطح، فلا يفيد منها أحد.
كانت لديّ قائمة طويلة وضعتها بعد رميتي الأخيرة للسمكة بلونها الأبيض تتظاهر بلونها الجديد بالبراءة من كل مشاركة في صنع القدر، ولكني أبداً لم أنخدع بلونها الجديد الذي تحولت إليه منذ البني الفاتح، وصممت على أن لونها هو الأزرق، والأزرق فقط، فقد كنت أعرف جيداً مكان العثور عليها بلونها المرغوب فيه منذ المرة الاولى لقبضي عليها وتحولها في الألوان لتخدعني، فكرت ملياً وتخيلت وجودها في النهير الصغير المتفرع عن بردى، في النهير الضحل العابر لحي زقاق الجن حيث لا بشر بعد، قد دمروا روح وأرواح بساتين الشام، هناك حيث لم تزل القوة السحرية للغوطة، للأشجار، هناك حيث كانت الجن تتراقص ليلاً، وتقيم أعراسها، وحفلاتها، بعيداً عن أعين البشر المخربين، مرة قال لي عجوز في الحي إن الجن لطيفون جداً، وأنهم يقيمون بيننا، وهناك في بستان زقاق الجن ليلاً يمكنك سماع غنائهم، وحنينهم لبعض، يمكنك أن تستمع إلى مشيهم وأحاديثهم، وأردف أن جنياً شاباً أحب جنية فاتنة في غاية الجمال، فرفضته، فذهب إلى أهلها، ولكن أهلها رفضوا تزويجها له، فبات يتبعها ويلحق بها من مكان إلى مكان، وحينما علم أنها عاشقة لرجل من الإنس، غضب غضباً عظيماً، وكان يشاهدها تتلبس في جسمه، وتحاول إنجاب الأطفال منه دون علم أهلها، فجن جنونه وهاجت ثائرته، فعزم على منع البشر من الدخول إلى منطقة الجان، وبات كل إنسان يعبر زقاق الجن يتعرض للحجارة والصراخ منه ليلاً أو فجراً.
حتى عادت حبيبته الجنية إلى الديار، ولكنها كانت مشوهة، وحينما سألها ما الذي حصل معك، قالت له بأن مشايخ البشر أعملوا ضدها آيات قرآنية، ودعوات وصراخ، ففزعت، وخرجت من جسد من تحب، وحالما خرجت دلقوا عليها جمراً مشتعلاً أصاب وجهها الجميل..
وهكذا احتضنها حبيبها وعاشا في آخر الزقاق مع بعضهما، بعيداً عن أعين الجن والإنس، مما جعل الطيور والحشرات والأسماك وباقي مخلوقات الغوطة تلتجأ إليهم، هرباً من قسوة البشر.
مضيت إلى زقاق الجن، باحثاً عن السمكة في مكانها الذي لا تستطيع له مفارقة، فدخلت الطريق المهجور، منذ كثرت المصائب فيه بعد اصطدام ساكني أجناب الحي بسكان الحي من الجن.. مضيت دون تردد عارفاً ألا وجود لإنسي في ذلك الطريق، وكانت لا تحاول الاختباء، فقد كانت خديعتها قد أصبحت معروفة منذ فشلت أمامي في مرة ماضية، وكنت خبيثاً إلى حد ما، فلم أهد أحداً من الزملاء أو من رفاقي في المدرسة إلى خديعتها في تغيير اللون، وفي الرفض لرجاءاتي الكثيرة في تغيير حياتي.
كان أبي الذي أعرف بوجوده في المدينة من الحكايات التي تروى عن مغامراته العقلية، وعن مقالاته التي يحملها إليّ الشيخ بهجت ليذلني في هجره لبيتنا لأمي، ولي. يرفض مثل هذا الكلام، ومرة وبخني بشدة لأني سألته عن السمكة الزرقاء، ولكنني الآن حر منه، وأستطيع فعل ما شئت.
وها أنذا، قرب نهير زقاق الجن، وحيداً، ليس حولي إلا الشجر والأغصان المكسرة، والطريق الوعر، وأمامي الماء السلسبيل يترقرق.
وقفت فوق جسر خشبي متهالك، ونظرت إلى الأسفل.
كنت أراقبها وهي المستسلمة للماء الهادئ يؤرجحها رأيت المعجزة، وكأني بها تلمحني أراقبها من فوق الجسر، فأرى لونها يتغير فجأة، فتتحول من الأزرق الزاهي إلى البني الكابي، وبهدوء هبطت المعرفة عليّ كوحي إلهي، فتغيرها إذن هو السلاح الذي تدافع فيه عن وجودها كأمل للضائعين حيث لا أب يلجأون إليه ليدلهم على الطريق السوي، وما القشرة المتلونة التي تضعها حين يتهدد وجودها إلا سلاحها الأخير أي حين ترغب في أن العون الإعجازي ليس للمتوحش القابض عليها بل للصياد المسكين الذي يبحث عن رزقه فلا يتبقى أمامها من أمل إلا بتغيير اللون حتى لا تهدر طاقتها وأحلامها، وحتى لا يطمع الوحش القائم على رجلين بها.
كانت المعجزة الحقة في أن أفهم أن رسالة تغير اللون هي السلاح الأمضى، وليس في الصيد المخفق كما حدث معي عدة مرات، ولكن العناد الجلف تملكني، فسأقبض عليك وأحبسك في قطرميز شفاف أرقبك من خلال جدرانه ليل نهار حتى أعرف متأكداً متى تعودين إلى الزرقة، وتصبح القادرة على عوني على تجاوز مشاكلي كلها، وفكرت مستبشراً أن أول هذه المشاكل هو في استعادة أبي إلى البيت، وإصلاح أسباب الفرقة بينه بين أمي، وعودة البيت إلى طمأنينته، وعودته إلى غرفته المزينة بآلاف الكتب وبمشاكل العلم التي صارت مناطحة الجبل أسهل علي من مناطحتها.
نزلت إلى النهير الصغير، كانت المياه باردة جداً وعذبة، نظرت إلى عشب النهر يتموج في الماء كأنه قماش يرفرف بهدوء في ريح الصيف، ولمحتها من جديد، حملت قطعة خشب وانقضيت بجسدي عليها، وأمسكت بها، نعم لقد أمسكت بها، وهاهي السمكة الزرقاء بين يدي، أخيراً، وضعتها في علبة تنك مرمية على جانب شجرة الزيتون، بعد أن ملأتها بالماء، ومضيت.
كانت وسيلة السمكة الزرقاء للتخلص من زنزانتها الشفافة عادة هي، الموت، والطفو على سطح الماء في القطرميز الذي كان يستخدم للمربيات!
في اليوم التالي وقبل أن تصحو أمي من نومها صعدت إلى السقيفة حيث كنت قد حفظت القطرميز والسمكة التي كانت ترفض العودة إلى اللون الأزرق، ولكني تعثرت بشيء ما على السقيفة قبل الوصول إلى القطرميز، واصطدمت بالسحارة الحاملة للقطرميز، فطار القطرميز من مكانه الأمين، وانسكب ما فيه من ماء، أما السمكة الزرقاء، فلن أجدها رغم البحث الكثيف عنها ولم أجد سمكة لا زرقاء ولا بنية، بل اختفت ببساطة.
تحول البحث عنها إلى هوس وإلى عقدة متملكة، وأخذت في البحث عنها في الأنهار والنهيرات بل في المستنقعات، وصارت المجاري المائية، كل المجاري المائية مجالا للتحديق، ومحاولة للاكتشاف. وصار بردى شغلي الشاغل فهوايتي وهمّي انحصرا في التحديق بحثاً عن السمكة الزرقاء، وصرت أتنقل بين نهر القنوات… وبين نهرالديراني ونهر تورا، ونهر المزَّاوي. ونهر يزيد ونهر بانياس، ووصلت حتى الدمَّراني، لكن السمكة الزرقاء اختفت، ولوهلة تساءلت أتراني فعلاً قبضت عليها وحملتها إلى السقيفة لأحبسها في قطرميز المربى، أم أن كل هذه المغامرات ليست إلا وهماً وهمت به.
كان يمكن أن أقضي العمر في البحث عن تلك السمكة التي علقت الآمال عليها، فالنصر المحلوم به كان معلقاً على العثور عليها ورضاها لنا بتحقيق أمانينا، والثروة كانت معلقة على رضاها، وحتى النجاح في الحياة فقط بل النجاح عند الشيخ بهجت كانا معلقين على رضاها وخروجها مستسلمة لقدرها القاضي بالسماح لي بتحقيق الأماني ولو ضؤلت حتى تمني عودة الأب الضال إلى بيته.
وفجأة تذكرت قصة العجوز الذي حدثني عن لعنة زقاق الجن، وعن الجني الشاب الغاضب من أجل حبيبته الجنية، هل من المعقول أن يكون هو من أتى وأخذ السمكة بعيداً؟ ربما، ولكن كيف؟ شعرت بخوف شديد ومرت الأيام وأنا في حيرة من أمري.
العيد في القنوات
استيقظت مبكراً، فلقد كان اليوم هو العيد، الذي انتظرناه لشهر طويل، شهر عشته مع أمي دون طعام طيلة النهار، ودون شراب، أيّ شراب حتى لو كان مجرد ماء، وكانت أمي حريصة على صومي وصومها في شهر رمضان الحار، وكانت جملتها التي ما أزال أرددها: الأجر على قدر المشقة. وكان أبي غائبا كالمعتاد، وفي هذا الشهر كانت جدتي ملجأنا. إلى بيتها نمضي، وفيه قد ننام، وإلى حكايات جدي عن الترعة وحربها قد نستمع، وعن الهند التي قضى السنوات فيها يحدثني، وكانت النساء أي جدتي وأمي ينصرفن عن حديثه، فلقد سمعنه حتى السأم، كانت الحكاية التي يرويها الجد أكثر من مواعظ الأب سحراً ورواية وحساً بالتاريخ، وكان معاصراً للحياة اليومية ولغتها أفضل بكثير مما كان الشيخ بهجت يرويه لنا. كانت رواية الأخير متخصصة في الحروب العادلة، والتي تنتهي دوماً بانتصار المسلمين على الأعداء، وسأكتشف فيما بعد وبعد قراءتي لكتب أبي المحفوظة في مكتبته أن الشيخ بهجت لم يكن علمياً، أو عادلاً تماماً في رواياته التاريخية، فقد كان العالم بالنسبة إليه عالم عدل، وعالم ظلم، أما الأول فقد كان الـ”نحن”، عالمنا العادل، وأما الظالم فقد كان الـ”هم”، وقد كنت حتى في سنيي المبكرة شكاكاً لا أبتلع ما يقول باستسلام، وكثيراً ما اصطدمت معه حين أعترض على حديثه، فكان يغضب ويعاقبني على طريقته: اليوم فقط أرى “الطرافة في هذه العقوبة” حين كان يجلسني في الكتبية وهي رفوف من خشب يبدو أن تصميمها المبكر كان لرصف الكتب فيها، ولكن الشيخ بهجت حولها إلى مكان للعقوبة فكان يرفعني بقسوة ويجلسني على رف المكتبة السفلي ليصبح رأسي مضغوطاً بالرف الأعلى ومؤخرتي مضغوطة بالرف السفلي فأصبح عالقاً بين رفي المكتبة كالفلافل بين شقي الرغيف، ثم يأخذ بالغناء وأنا ما أزال أذكر غناءه لأغنية شعبية شاعت في تلك الأيام تقول “يام العباية.. حلوة عباتك (عباءتك)”. ولكنه لم يكن يعبأ بحقوق الملكية وبكونها أغنية معروفة فيغير من كلماتها لتصبح يا ابن عمي يركبك همي، ويا ابن خالي يركبك حماري الخ.
والغريب أن غناءه كان يثير في التلاميذ النفور على عكس ما كان يريد، فقد كان يحاول السخرية مني، أي ممن يعترض على مقولاته، إذ كان يغني ويوقع بالعصا النحيلة بقوة على ظاهر كفي المتكئتين على فخذي إن استطاع خداعي وأشغلني عن حمايتهما بالاستماع إلى صوته المشايخي يغني، وأكون منشغلاً بإبعادهما عن مرمى عصاه، وإلا فهو الألم الشديد في ظاهر كفيّ.
ولكن العيد رغم غنائيات الشيخ بهجت هلّ، والفرح حلّ، فبالأمس فقط علمت من جارنا بالحارة وكنت أملأ سطلنا بماء الفيجة النقية الشروب، والحديثة على حارتنا، فأخبرني الجار الصبي الذي يكبرني بعامين أنهم قد جلبوا دباً سوريا للعيد، وسيعرضونه في دكان بحي الدرويشية القريب جداً من حارتنا، وحين أخبرني الجار بذلك، فلأنه يعرف عن ولعي بالحيوانات، وخاصة الوحشي منها، وحين أخبرت أمي بالخبر المفرح فوجئت بعدم اكتراثها، ففكرت: امرأة كبيرة ورأت الكثير، وربما رأت الدببة أكثر من مرة، وليس في رؤيتها لمرة أخرى ما يثير.
وقالت تحرضني على عدم الاهتمام بالمضي لرؤية الدب، فهي لا تعني شيئاً، ثم أضافت وكأنما تضرب ضربتها القاضية على تحمسي لرؤية الدب في الدكان المقام على عجل في الخرابات التي خلفها الحريق الكبير الذي أعطى للحي اسم “الحريقة ” فقالت: وهل رؤية مثل هذا المسكين في الأسر تستحق إنفاق عشرة قروش؟ ورأت جمودي غير المبالي بقولتها، فقالت تتظاهر بعدم اهتمامها: وأنت حر على أيّ حال!
كانت تجربتي مع الدب منذ سنوات مخيفة بالنسبة إليّ، ولكن وجود عدنان معي سيخفف من خوفي، وخصوصاً أننا في مكان مغلق موجود في خرابات حي سيدي عمود، وليس في الشارع حيث المزاح الثقيل.
ثم وعلى سفرة الإفطار قالت: من سيصحبك إلى هذه الفرجة، فلما أخبرتها أنه عدنان ابن الحلاق، نفرت في غضب، وقالت: تخاطر بنفسك وحيداً؟ فذكرتها أني قلت لها إني سأمضي برفقة عدنان، فقالت: وكأنك برفقته تمضي وحيداً! ثم أضافت في عنف لم يكن لها به عادة: من يمضي للقاء الدب صغيراً أعزل! هل جننت؟ وحدثتها حديث الواعي العاقل يخاطب طفلة لا تعرف الكثير عن الحياة، قلت إن الدب سيكون مقيداً ومكمماً لا يستطيع العض. قرع الباب الخارجي فجأة، فأشرق وجهها، وقالت: لعله أبوك قدم لمعايدتنا! إمض فافتح الباب، واتجهت جالسة إلى المرآة تتأكد من زينتها صباحاً. مضيت غير سعيد بمقدمه في هذا الوقت الذي كدت أقنعها فيه.
لكن نظرة سريعة إلى قفص الفئران مفتوح الفم الواسع وأنا في طريقي إلى الباب، هذا الفخ الحديدي الذي كان مستضيفاً لزوجَيْ الحسون ذكرني بأنها سلكت سلوكها التقليدي الكاره لكل عنف ضد المخلوقات البرية، ولا يمكن لها سلوك غيره، فهي أطلقت الحسونين من الشرشف دون اكتراث بما سيترتب على فعلتها، ولولا حضور الوالد، وقرعه الباب في الوقت غير المناسب فلربما كان الوضع أسوأ بكثير.
فتحت الباب الخارجي وقد جهزت نفسي لاحتضان الأب، وقبلاته الدبقة، ولكن ما إن فعلت، حتى رأيت جدي يملأ فراغ الباب، وكان بلحيته الرمادية وضحكته العذبة كماء انسكب على ناري التي هيجتها الوالدة قبل قليل. قلت وهو يحتضنني محاولاً حملي رغم تملصي من يديه الكبيرتين: يا جدو أنا كبرت! ضحك في سعادة قائلاً وهو يتجه إلى الباحة: ستظل الطفل في عيني حتى لو تزوجت! ولكنه لم يكمل، فقد وصلنا إلى حيث أمي التي فرحت فرحاً غامراً بمجيئ جدي، وقد لاحظت وإن احتفظت بملاحظتي بعيداً عن الثرثرة أن سعادة خاصة قد غمرتها.
وما كادت تنهي ترحيبها الأولي بجدي حتى قرع الباب، فتمتمت منشغلة البال: خير ياطير! ثم أكملت: الله يجعله خير، وأرادت أن تمضي إلى الباب فتفتحه حين سارعت إلى الدهليز، فالباب، وكانت المفاجأة في أن القادم كان عدنان ابن الحلاق الذي هتف في فرح: هذا أنا. وأكمل من هذا الذي كنت تتوقع قدومه حتى هرب الفرح من وجهك؟ فهمهمت بكلام لا معنى له.
وانطلق صوتها قوياً تسأل مين؟ مين ياماما؟ فدعوته إلى الدخول، وصرخت مبلغاً أمي وجدي: إنه عدنان. فقالت: دعه يدخل ويسلم علينا! وغمزت له ليدخل ولكنه همس: ألا تريد الفرجة على الدب؟
فيما بعد وبعد سنين طويلة سأمضي إلى القاهرة لإكمال تعليمي وعلى غير تخطيط مني حدث أن سكنت مع طالب سوري من إدلب، وحدث أيضاً أنه كان يحب القراءة، فلما عرف أني دودة كتب تنازل عن مساومتي على الأجرة، وقبل بما عرضت عليه من قليل المال الذي أملك.
في يوم الجمعة كنت قد أعددت نفسي لزيارة حديقة الحيوانات، وبينما كنت أغير ثيابي للمضي إلى حديقة الحيوانات سألني وهو يحلق لحيته: كيف ستقضي يوم الحمعة المباركة هذه؟ وفوجئت بأن يوم الحمعة عنده يوم مبارك، ويجب ألا يقضيه المرء منفرداً بنفسه!! فحدثته عن برنامجي في زيارة حديقة الحيوان في الجيزة، فهز رأسه في موافقة، وقال: سنمضي إلى حديقة الحيوان معاً إذن! فلقد كنت حائراً في كيفية قضاء هذا اليوم، ولما كان اصطحابه إلى حديقة الحيوان ليس من مخططاتي، فلقد صمتّ محرجاً، فتابع: سنزور حديقة الحيوان معاً وسنتفرج على الحيوانات الموجودة فيها.
درنا في الحديقة صامتين نتفرج، وكان شبان مصريون أو من لست أدري بهويتهم يرمون للحيوانات في الأقفاص ببقايا الساندويشات التي كانوا يأكلونها قبل قليل رغم الإعلان الصريح من المسؤولين في الحديقة عن رجائهم للزوار بعدم إلقاء الطعام أو بقايا الطعام للحيوانات، الأمر الذي سيغير من برنامجهم الغذائي، ولكن من كنت أرى كانوا يرمون للحيوانات بعض الفستق السوداني أو مما فضل من السندويشات.
وكان بين الشبان واحد يحمل كيساً ورقياً صغيرا، وكان الكيس يبدو وكأنه يحمله للتسلي به، وفجأة انضمت إليه صبية مصرية، وبعد التحيات والسلامات وصلا إلى قفص مكتوب عليه “الدب السوري” وكان الدب متوسط الحجم بني اللون يكاد البني في لونه يصبح أسود، وقد ذكرني بالدب الذي كنت قد رأيته قبل عمر في الدكان المنتزعة من الخرائب المحترقة المحيطة بقفصه، وكان الزمن عيد نهاية رمضان. وعندئذ نفر الشاب عن إطعام الدب الفستق الذي كان قد اصطحبه معه، وقال بصوت مسموع للجميع وللفتاة التي انضمت اليه ما جعلها تقهقه ضاحكة: لا أنت انفصالي وأنا موش حاديلك تاكل! وتجاوزا القفص ضاحكين.
كنت أعتقد أني الوحيد الذي كان يلاحظ الشاب المصري، ورميه الفستق للحيوانات، ولكن حين ابتعد صديقي الإدلبي عني ليخرج من الحديقة في احتجاج على شيء ما لحقت به متسائلاً: إن كان سيتركني ويعود إلى البيت، وحاولت المزاح للتطرية، فأضفت: وتتركني وحيداً في هذا اليوم المبارك! ولكنه رجاني في صرامة العودة إلى حيث الدب، فهو سيرجع خلال دقائق. ورجعت أتفرج على ما في الحديقة وقد كانت جميلة مبهرة في تلك الأيام.
عاد شريكي في الشقة يحمل كيساً متوسط الحجم ومضى مباشرة إلى قفص الدب، ثم فتح الكيس ورمى بما فيه من فستق سوداني في القفص وهو يصرخ: كول كول ابن بلدي! أنت موش انفصالي. الدواب بس همه اللي عملوا منك انفصالي. كول ابن بلدي كول.
وكانت موجة من القهقهات المصرية قد محت كل تأثير لغضب الإدلبي.
في دكان الدرويشية المنتزع من الحريق الكبير كان هناك عدد كبير من الصبية والبنات ينتظرون دورهم للدخول إلى دكان الدب كما سموها، ورؤية العدو المخيف في الأسر، والغريب أن يكون على مبعدة أمتار أخرى صبي صغير يصرخ داعياً إلى الفرجة على “الضبع الذي أكل بياع الحلاوة على طريق جوبر” كانت دكاكين الحريقة التي دمرت أجمل أحياء دمشق قد تحولت إلى حديقة حيوان مرتجلة، فيها الوعل والذئب، لم تستمر هذه الحديقة طويلاً ولم يتجاوز عمرها سنتين حيث أن مشروع إعمار الحريقة سيبدأ ويظهر علينا حري الحريقة.
كنت أفضل لسبب ما في داخلي رؤية الدب على رؤية الضبع الذي أكل شخصاً ما.
وكنت منذ أمد طويل، أي منذ غادر أبي البيت باحثاً عن “رأسه” كما كان يقول ويكرر، فاضطر الصبي فيّ إلى الكبر بسرعة والتحول إلى “عاقل رزين” متنكراً، أو متظاهراً بالصبا العاقل، كثير الجدل، يناقش ويحلل ما يرى، ويختزن لسنين كثيرة قادمة مشاهد الصبا. وحلت الضجة مفاجئة في دكان الدب الذي جئنا لرؤيته، وعلا صوت الصبي المنادي يدعو المتجمعين عند باب دكان الدب إلى الفرجة على الدب الذي قتل عدداً من الرعاة والصيادين الذين طمعوا في صيد الدب الكاسر صانع الأرامل وميتّم الأطفال.
وتزاحم الأطفال عند الباب حيث كان رجل صامت يجمع الفرنكات، وأنصاف الفرنكات، وكان يثور وينزعج حين يقدم إليه طفل قطعة نقدية ” فرنكان” أو” ربع ليرة” ثم يطلب الباقي، ويصرخ فجأة: شو هربنا؟ انتظر قليلاً. ويستدير جامعاً الأجر من باقي الفتيان والفتيات تاركاً الصبي يدور من حوله راجياً إعادة الباقي إليه دون اكتراث بصوته الذي يشبه صوت القطة.
دخلنا الدكان ورأينا قفصاً على قد الدب يحتويه، ولا يترك له مكاناً لحرية الحركة، كان مخلوقاً واضح التعاسة والجوع، ذليلاً قد أضاع كل حس بعزة وعنف الحيوان البري، فهو جائع، والجوع مفقد للعزة، والدب مخلوق يشبه البشر في ضعفه أمام الجوع.
دفعت بيدي في جيبي باحثاً عن شيء أقدمه للدب رغم تحذيرات صاحبه الذي كان يصرخ طيلة الوقت داعياً المتجمعين من الأطفال والمعيّدين إلى الدخول والفرجة على الدب الذي قتل عدداً من الصيادين، ولكن الحظ وقوة الصياد جعله أخيراً يدفع ثمن العدوان وصرخ: “تعا تفرج تااااع.. اليوم فيه، بكره ما فيه”. كان منشغلاً بصوته الصارخ، وبالأولاد المتجمعين أمام مدخل الدكان، محاولاً الجمع بين حراسة الدب في قفصه، وبين استقبال الشبان الصغار الراغبين في الشماتة بالقبض على هذا المهدد للأمن وطمأنينة البلد. وكنت أبحث في جيوبي حتى وجدت ما كنت أبحث عنه. علبة بسكويت مالح وقبل أن أضعها أمامه أو أرميها له، فينتزعها مني تذكرت أن الدب ربما لا يحب الطعام المالح، ولكني قررت المغامرة، فطلبت من عدنان أن يغير وقفته بحيث يجعل من جسده حاجزاً بيني وبين حارس الدب فلا يراني، وتحرك عدنان اللطيف جداً دون أي تساؤل، فأخرجت علبة البسكويت المالح، ووضعتها أمام أنف الدب من خارج القفص ليتشممها ويتشهى. وكان ما توقعت، فما إن شم رائحة البسكويت حتى جن جنونه فخفت أن يكسر القفص ويخرج إلى حيث أنا وعدنان، والأطفال الآخرون المتجمعون من أربعة أطراف المدينة، فرميت العلبة في قفصه، ورآها، فسعدت أن كل هذا يتم والمنادي لا يعرف بما يجري تحت أنفه.
انحنى الدب يحاول التقاط العلبة، ولكن القفص كان شديداً عليه فتمطى وانحنى، وسمعت صوت القضبان تتلوى وانحنى يلتقط علبة البسكويت، ثم يضعها كاملة ومغطاة بالورق في فمه، وعندئذ انتبه المنادي إلى أن الدب يمضغ، فاقترب منا وسأل: من أطعمه؟ ولكن جواباً لم يتلق، فطردنا جميعا من الدكان المصنوع من خشبات وقماش قاس. حاولنا الاعتراض على الطرد، ولكنه صمم، وحمل عصا المكنسة مهدداً، ففررنا أمامه إلى خارج الخيمة/الدكان.
كان الدب الذي رأيته في الحريقة، مختلفاً تماماً عن الدب الذي رأيته في القنوات منذ سنوات طويلة، فكأن بهذا الدب الذي كان شرساً أن روض، وحبس في القفص وجوّع حتى الإنهاك والذل، نظرت إلى ذلك الدب الذي أسموه بالسوري، كيف كان برياً حراً ومن ثم ساقوا عليه السلاسل وبعدها الأقفاص ومن ثم رحلوه إلى مصر ليوسم بالانفصالي، وبعدها سينقرض تماماً في سوريا ولن يظهر أيّ أثر له مجدداً إلا في سنوات الثورة الأولى في القلمون حيث لم يعد لسلطة الانسان أثر على الطبيعة.
لوهلة شعرت أن ذلك الدب هو كل شيء في سوريا.