الحدث‭ ‬يثري‭ ‬الشعر

الخميس 2015/10/01

لا ينفصل دور الشاعر عن دور المثقف عموما، والذي يعني في أبسط معانيه تقويم الحياة الإنسانية، وإثراء تصوراتنا عن العالم، فالثقافة هي التي تميز العالم الإنساني من العالم الحيواني، وهي التي صنعت الفارق المذهل بين العالمين، والشاعر واحد من أصحاب الأدوار الضرورية لنقل الإنسان من الوحشية والبربرية، إلى فضاء إنساني أجمل وأرقى، وقد مارس هذا الدوار بامتداد التاريخ، وسوف يواصل ذلك الدور مهما كانت تصوّراته عن الشعر، ومهما انسحب من مشاغل الجماعة لشأنه الذاتي والفردي معتقدا بأنه الأقرب لطبيعة الشعر، فالهوية الفردية للشاعر مهما كانت عظمتها لا تستطيع الاستغناء عن الهوية الجماعية، والهوية الإنسانية، وكل فرد هو مركب من تلك الهويات الثلاث شاء أم أبى، والشاعر في تفاعل دائما مع العالم من خلال تلك الهويّات الثلاث، ومن هنا يتفاعل الشاعر مع كل حدث إنساني أليم حتى لو ظن نفسه يعطي ظهره للحدث، فالشاعر واحد من صناع الضمير الكبار، وواحد من صنّاع الروح الإنسانية في أرقى وأجمل وأعمق تجلياتها، وتأتي الأحداث التي ترتبط بالحرية في مقدمة تلك الأحداث التي تثير الشاعر، فلو كانت هناك غاية وحيدة للشعر، فلا يمكن أن تكون إلا الحرية، فالشعر في جوهره تحرير للذات، وتحرير للغة، وتحرير للعالم من تصوراتنا عنه‭.‬ والمشكلة التي يمكن أن تواجهنا هي تداخل علاقة الشاعر بالحدث مع علاقة الإعلامي بالحدث، وهنا يكمن الخطر على الشعر، فقد تلتهم الهوية الإعلامية للحدث هوية القصيدة‭.‬ والشاعر الحقيقي لا يقبل أن يكون مجرد بوق إعلامي‭.‬

يتميز الشاعر عن الإعلامي، وإن انطلقا من حدث واحد، والخطر في تجاهل ذلك التميز، وقد عاش الشاعر طويلا يلعب دورا إعلاميا، لكن دور الإعلامي للشاعر في العصر الحديث بات من مخلفات الماضي، فالشعر لا يستطيع مجاراة الإعلام في تناول الحدث برؤية إعلامية، لكن الشعر يملك من وسائله الخاصة ما يجعل تناوله للحدث فريدا ومتميزا، الشعر يتميز بالعمق، وسبر أغوار الحدث، على نحو لا يمكن أن يحدث بوسيلة سواه‭.‬

الشاعر يتميز أيضا بالنزاهة، وكل شاعر لا ينحاز للإنساني والنبيل شاعر معطوب، ومن هنا يصبح التفاعل مع الأحداث الأليمة واجبا لا أمرا مستحبا، ولا يمكن التخلي عن ذلك الواجب تحت أيّ شعار حداثي، أو أيّ رؤية خاصة للشعر، وكل ما ينبغي على الشاعر هو عدم السماح للحدث بسحق هوية الشعر، فالشعر فن، والتفريط في هويّتة الفنية يعني تجريده من أهم خصائصه وأكثرها كفاءة وتميزا، فما يمكن طرحه في مقال لا ينبغي طرحه في قصيدة، وتلك من البديهيات‭.‬

الشعر يتفاعل مع الحدث لا لينقله، أو لينشره، أو ليعلق عليه، بل يسبر أغواره ويزاوج بينه وبين الفن ليظهر مولودٌ جديدٌ، يثري وعينا بالحدث على نحو لا تحققه وسيلة أخرى، ويحرك مشاعرنا من أعمق نقطة ممكنة لا من القشرة الخارجية، ولهذا تبقى القصيدة الجيدة صامدة في مواجهة الزمن أكثر من كل وسائل الخطاب الإعلامي‭.‬

إن تفاعل الشعر مع الأحداث يتجاوز كونه واجبا على الشعر تجاه الأحداث، حتى ولو كان ذلك الواجب ينبع من جوهر الشعر والثقافة عموما، بل هو واجب من أجل الشعر نفسه أيضا، فالشاعر بتفاعله مع الأحداث لا يثري موقفا إنسانيا نبيلا فقط، بل يثري الشعر نفسه‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.