الحصون الهشّة
اثنتا عشرة مقالة صحافية انطباعية هي جلّ محتوى كتاب “خرافة التقدّم والتخلّف” للمفكر العربي المرموق جلال أحمد أمين. ليس من باب الهجاء أو الهمز بأن ثمة ضعفا تمّ ترصّده، أو توجيه نقد لاذع للكتاب، بقدر ما هي محاولة لتشخيص طبيعة المقولات التي قامت عليها فكرة الكتاب أصلا، أو بالأحرى “العنوان” المحتفى به في الأوساط الثقافية العربية! وأكاد أجزم أن العنوان اللافت والبرّاق والإشكالي جاء بناء على لحظة لقاء الكاتب بالناشر، هذا الأخير الذي طالب المؤلف بوحدة موضوع للمقالات آنفة الذكر. الأمر هنا يقوم على أهمية تجنّب تحميل هذا الكتاب ما لا يطيق، باعتبار أنه منتج فكري لقامة فكرية لا يختلف حولها أحد. وانتظار الوقوف على التحليلات والتنظيرات والخلاصات الجوهرية. الأمر أبسط من هذا بكثير، والواقع أنّ الكتاب مُمتع وسلس ويمكن إدراجه ضمن نوعية كتب الـ”take away”، وهي بالمناسبة شديدة الأهمية والقيمة لدى جمهور الثقافة.
تكشف مقدمة الكتاب عن الطبيعة السلسة لهذا المنتج الفكري، والذي يفصح عن طبيعة التعاطي مع عقلية فكرية احترافية، لا سيما أنّ الكاتب يستهل مقدّمته حرفيّا “هذا الكتاب يُثير شكوكا كثيرة حول صحة الاعتقاد بفكرة التقدّم والتخلّف، وفيما إذا كان من الجائز وصف دول أو أمم بأنها متقدّمة وأخرى بأنها متخلّفة”. لكن هذه الشكوك الكثيرة سرعان ما تتهاوى تحت سطوة المصطلح وطريقة التعاطي معه. فالمؤلف لا يتردد عن الإشارة إلى أن الأمر لا يخرج عن مستوى الإنجاز، مع الرفض القاطع للتعميم في طريقة التعاطي مع وصف “التقدّم والتخلّف”، والتطلّع نحو تعميق دالّة أو زاوية النظر في مسألة الإصلاح والتحديث، وأهمية الفصل بينهما والعمل على وضع التحديدات والتمييزات الدالة والقارّة في ما بينهما. هذا الطرح سيجعل من المتلقي يدور في دوّامة السؤال المباشر حول طريقة التعاطي مع العالم الراهن، حيث الإنجاز اللاهث والمتسارع في ظل الثورة المعلوماتية والمعرفية، والذي راح يعمّق الفجوة المعرفية بين أمم كانت تصنّف قبل أشهر بالمتقدّمة، باعتبار حضورها التقني والبرمجي. لكن المدّ المذهل لتسونامي البرمجيات، راح يُطيح بموقعها الذي حصدته.
طرح يحاول إسقاط المقارنة أو التمييز ما بين متخلّف وآخر متقدّم، فيما العالم يطوي المسافات ويختصر الأزمان ويرفع الحواجز بين الأمم. وينتقل بالعالم من قرية ماكلوهان الكونية، إلى التليفون الذكيّ الأصغر من الكفّ من البشري، والذي يختصر مُجمل تقنيات البشرية من كتب، تلفزيون، إذاعة، تليفون، ولك أن تضيف ما تشاء من أجهزة تفاخر بها العقل الإنساني على مدى عقود من الزمان، سرعان ما أضحت عبارة عن ملحق ضئيل الأهمية في محمول علي بابا العجائبي، ذلك الذي يتنادى صائحا “شبّيك لبّيك” من خلال محرّك البحث Google.
العالم الراهن أضحى مدهشا خلاّبا! عبر المحمول الذكيّ، ذلك الذي عمق دالة العالم الافتراضي وراح يعمل بتؤدة يحسد عليها في تدمير آخر قلاع وحصون العالم الواقعي. لم يعد من المُجدي الحديث عن البنى التحتية، الناس كل الناس مثبّتة عيونها في شاشة المحمول، وهم منشغلون عن متابعة ما يحدث حولهم، حتى من يقود المركبة تراه وقد تعلّق فؤاده شغفا برسالة يبثّها برنامج Whats App، فيما يضرب صفحا عن متابعة إشارة المرور أو حتى ما يجاوره من مركبات تسير بالقرب منه! المدارس ومؤسسات التعليم منشغلة حدّ الذهول والوله بمقاييس الجودة، التي تضعها مؤسسات عالمية استمدت المعايير من تجارب لها إنجازها الذي يختلف اختلافا جذريّا عن القيم والأفكار والمعايير عن المؤسسات المحليّة، والعمل على احتلال موقعها في قائمة الألف أو الخمسمئة المتقدّمة في العالم. الأمر هنا يتبدّى في منتهى اليُسر والتبسيط، أنت لا تحتاج سوى الالتزام بمعايير يمكنك الوقوف عليها من خلال موقع إلكتروني لمؤسسة تربوية أو علمية، ولا ضير من التعاقد معها في ما بعد حفظا لحقوق الملكية. لتبدأ مسيرة الخروج من دوّامة التخلّف والانخراط في تجليّات التقدّم؟! يا الله ما أسهل العالم!
لا يتوانى المؤلف عن التوجّه نحو رسم الخط الفاصل بين الإصلاح والتحديث، والعمل على جعله مثابة يتمّ من خلالها تمييز المثالب والأخطاء التي وقعت بها الأمة. على اعتبار أن العالم الإسلامي إبّان الدولة السلطانية العثمانية في طريقة تعاطيه مع الغرب المتقدّم، سارع نحو تلقّف تجربة التحديث، دون إمعان النظر في أهمية مشروع الإصلاح. وكأن الواقع يعيش مسار الخيارات المفتوحة، ويمضي المؤلف في صبّ جام غضبه على “فكرة التقدّم” في الفصل الأول من الكتاب محمّلا إياها وزر “اهتزاز الثقة بالنفس″. فيما غاب عنه، وهو الاقتصادي البارع وأستاذ الأساتيذ دون مُنازع، أحوال اشتداد المنافسة بين الإنتاج الصناعي الأوروبي الذي راح يدكّ حصون الإنتاج الحرفي اليدوي في الشرق، حتى بلغت بنا الأحوال أننا بتنا نستورد سجادة الصلاة من الصين!
لا يهم إن كانت فكرة التقدّم خرافة بحدّ زعم المؤلف، وأنها لم تكن قديمة بل جديدة، أو التقدّم هو مسار متواصل أم منقطع، والعمل على تفضيل الحاضر مقارنة بالماضي، وأن المستقبل مفضّل ويتحسّن باستمرار، أو الانخراط في تجليّات مقولات فوكوياما والتي تشير إلى أنّ نمط الحياة الأميركي هو نهاية التاريخ. الأمر برمّته لا يحتاج إلى برهان مستمد من فكر ابن خلدون أو فلاسفة اليونان حول فكرة التطوّر الدائري.
الطامة الكبرى حين يقع مفكّر مرموق من نوع جلال أمين في فخّ الأماني المُجهضة، حين يستنجد بهذه الـ”لو” حين يرسم سيناريو متخيّل حول ولادة جديدة لرجل كان يعيش العصر الذهبي في بغداد، وقدّر له أن يسير في شوارع المدن الأوروبية أو الأميركية المعاصرة ويبدأ في مقارنة بين النموذجين، ليقف المؤلف على استنتاج “إن من المشكوك فيه أن هذا الرجل سوف يحكم إيجابيّا على المدينة الجديدة مقارنة بمدينته القديمة”! لا يفوت المؤلف الاستنجاد بـ”ربما يندهش من مظاهر الحضارة المعاصرة”، وقد ينبهر بالعمارات والبنايات العملاقة، وسوف يُسّر من كثرة عدد قراء الكتب، لكنه سيندهش من الأعداد الضخمة لأشجار الغابات التي تقطع في سبيل تصنيع كميّات الورق التي تدخل في صناعة الكتب والجرائد؟! ولا يتردّد من الاستعانة بمقولة ابن خلدون “المغلوب مولع بتقليد الغالب”. لتكون الإشارة إلى “عقدة الخواجة” التي تعرّشت بين ظهرانينا باعتبار تحصّل هذا الغرب على القوة والرخاء الاقتصادي والتقدّم التقني والكفاءة والغذاء والملبس والمسكن والعمل والسلع والخدمات والتفوّق الثقافي والفني والفلسفي والقوة العسكرية. ليعقب كل هذا في إنشاء جملة “فما أسهل أن ينخدع المرء بأنّ هذا يعني بالضرورة تقدّماً في كل شيء آخر”.
وإذا كان المؤلف قد استحضر شخصية من ألف عام، وجعل منها وسيلة إيضاح للمقارنة بين فكرة التقدّم والتخلّف، فإننا نستحضر حوارا بين شخصيتين حيتين تتنفسان وتعيشان العصر. إذ بادر أحد الغربيين إلى سؤال صديقه العربي عن أحلامه، فكان الجواب “حلمي الكبير أن أحصل على عمل ومسكن”، أجابه الغربي قائلا “صديقي العزيز أسألك عن أحلامك لا عن حقوقك!”.
العالم وقد حدّدت ملامحه الكلمات، التقدّم– التخلّف، الحقوق– الأحلام، الحقّ– الباطل، إنما تستمد قيمتها من السياق. وهكذا هو الواقع يكشف عن الهيمنة المطلقة لاستحكام عقدة الخواجة، تلك التي تبقى تُلقي بظلالها الكثيفة على حياتي من خلال عدسة نظارتي الألمانية وإطارها الفرنسي وأنا أطالع التلفزيون الذي أنتجته المصانع اليابانية، جالسا على الكرسي الإنكليزي، وهكذا هي جدليّة التقدّم الذي تميّزه ملامح الإنجاز، بإقرار المؤلف الذي يطلق عليه وصف خرافة، ليتبدّى الواقع وكأنه حديث خرافة يا أم عمرو!