الخطاب الثقافي وعسف تراث الإسلام السياسي
شبكة من الخيوط المتداخلة لا تزال تُحاصِر المرأة في العالم العربي، وتضيّق عليها الخناق، وعبر عقود وسنوات لم تستطع المجتمعات العربية تخليص المرأة من تلك الشبكة العنكبوتية التي أحكمت خيوطها عليها حتى بات الفكاك منها صعب المنال، وصارت النساء في المجتمعات العربية قابعة وراء نسيج مُحكم لا ترى من خلاله سوى ضوء شحيح يتخلل تلك الخيوط متقنة الصنع بين الفينة والأخرى.
ما الذي ساهم في إحكام القبضة على المرأة العربية لعقود متتالية إلى أن صارت أقرب إلى التماهي مع القمع والانسياق لمعطياته؟ ولمَ بات الخنوع والنكوص والتخلف الفكري سمة تطبع حال المجتمعات العربية؟ وهل من أمل يمكن أن يُعوّل عليه المثقفون العرب للخروج من تلك الدائرة والتخلص من ذلك الحصار؟
أسئلة لا تزال تطرح في الثقافة العربية، لم تتغير بمرور ربع قرن بل أبعد من ذلك، القضايا والإشكاليات ذاتها لا تزال تُطَرح في الخطاب الفكري العربي، والحلول المُقدَّمة من قِبل المفكرين العرب تتصارع ولا تتضافر، ليواجه العقل العربي بمعضلات نكوصه ويكرر إخفاقاته في الخروج من مأزق “الأنثى” التي طالما شكّلت خطابًا محوريًا في خطابات متأزمة تضعها في دائرة “اللافعل”، لم يغير منها مكتسبات طفيفة تنتزعها تارة، فيما تُمنح لها تارة أخرى، وفي الحالتين تبقى المرأة في حالة انتظار.
الغوص في عمق الأسباب التي أحكمت الخناق على الأنوثة سيظل بمثابة ضرورة قصوى لتقصّي عمق المشكلة وأبعادها المتجذرة في التاريخ، فالواقع الراهن ما هو إلا نتاج تراكمات فكرية واجتماعية وسياسية ساهمت في وضع أسس تلك الثقافة التي همشت المرأة في خطابها باعتبارها ووضعتها في مرتبة أدنى من الرجل. بل إن بعض الخطابات الفكرية الحديثة ما انفكت تبرر تلك الوضعية الدونية محاولة ردها لاعتبارات بيولوجية، سرعان ما كشفت الأبحاث العلمية عن تهاوي حججها وزيف منطقها، فيما ذهبت أطروحات فكرية أخرى إلى الدفاع عن دونية المرأة باعتبارها الحافظ لمركزية الأسرة التي خلخلتها الثقافة الغربية باختيارها المساواة بين الجنسين.
مرتبة “الأقل” في الخطاب العربي وجدت دومًا من يدافع عنها ويبرّرها حتى من قبل النساء أنفسهن، اللاتي نجحت خطابات دينية وأخرى اجتماعية، في أن تمنح لهن كثير اً من الرضا عن دونيتهن، أو الإقناع بقدراتهن المحدودة باعتبارهن “قوارير” حينًا ودفاعًا عن عفتهن المصونة حينًا آخر، ليصير خطاب “الشرف” أداة لا يتوانى الرجل في أن يُلوِّح بها، ولا تتوانى كثير من النساء في أن ترضخ امتثالًا للمتطلبات والأباطيل الذكورية.
الفكر الديني الذي تمّ تكريسه ثقافة عامة على مدار عصور متتالية، والذي اختلفت معطياته باختلاف العصر والسياقات التاريخية والمجتمعية، لا يزال يستخدم كورقة ضغط لمحاربة الأفكار التحررية حفاظاً على سيادة الأفكار النكوصية المهيمنة.
هناك بين المثقفين من يرى أن الخطاب الديني المنتشر أو الشائع ليس هو بالضرورة من أسس الدين كوحي مُنّزل، ومن ثم قد لا يكون النص في حد ذاته هو الذي عزز دونية المرأة أو النكوص الحضاري بشكل عام. وهناك من يرفض هذا الرأي ويعتبر النص مرجع جميع الخطابات المعادية للمرأة. وهذا الجدل دفع بعض المفكرين إلى تتبع فكرة السياقات التاريخية للنصوص المنزلة والتفرقة بين الدين من حيث هو وحي والتدين من حيث هو نتاج لتفاعل النص مع المجتمع وزمنه التاريخي.
من جهة أخرى، حاول بعض المفكرين إثبات فكرة مفادها أن المرأة في سياق النص التوراتي والإنجيل تم تهميشها وتحقيرها، فيما كرمها الإسلام ممثلًا في النص القرآني. استغراق طويل آخر من قبل كتابات عربية حاولت أن تعيد تفسير النص تفسيرًا حداثيًا انطلاقًا من ضرورات العصر وحاجاته، لكن الصوت الأعلى ظل مكرسًا من قبل “فقهاء الظلام” وممتلكي الحقيقة المطلقة في الأديان الثلاثة.
هل ثمة خطابات أخرى لا تزال مسؤولة عن ترسيخ ذلك الوضع وتلك الصورة المشوهة؟ ربما ساهمت الخطابات الموازية هي الأخرى في تحقير “الأنوثة” باعتبارها معادلا للضعف والخنوع، واحتقار كل مظهر ينمّ عنها باعتبارها مضادة لرمز القوة “الذكورة” فأنتجت وفق ذلك خطابات نسوية ضد “الأنوثة”. فيما ساهمت خطابات أخرى في تسفيه المسألة برمتها ووضعها في إطار المعارك بين الرجل والمرأة التي يجب أن تكون الغلبة فيها لأحدهما. هذا فضلًا عن الانغماس في نقد أو مجابهة تمظهرات فرعية باعتبارها المُشكل الأساسي في خطابات أنتجتها الثقافة العربية وأصرت في أحايين كثيرة على أن تحتل واجهة الحوار، فيما بقي لباب المشكلات كامنا في قاع المجتمعات العربية، وفي اللاوعي الجمعي للثقافة العربية وناسها.
ما هو السبيل إذن للفكاك من تلك الدائرة متشابكة الخيوط؟ هل يمكن أن تضع الثقافة العربية خطاب الأنوثة ومكانتها المهدورة كأولوية لها في ظل نظرة شمولية لا تموضع كل ما يتعلق بالجندر باعتباره مسألة هامشية وثانوية؟ وكيف يمكن إنتاج ذلك الخطاب المأمول في سياق معركة القوى الجديدة في المجتمع طلبا للتحرر من سطوة الخطاب القمعي والتهميشي لإنسانية المرأة وحقها في حياة متوازنة لا تحصرها في وظائفها البيولوجية ولا تهدد إنسانيتها الكاملة؟
ما السبيل لتجاوز تلك العقبات الحائلة دون وجود خطاب ثقافي فاعل في الوعي العربي يواجه الأفكار السائدة والمتجذرة في ثقافة الناس، سواء في نصوص الثقافة العربية السائدة أو في الوعي الشعبي؟
هل يمكن الارتكان إلى فكرة “إيجاد نصٍّ بديلٍ وتامّ الغربةِ عن النصّ التراثيّ” كأساس لمحو كل الترسبات التي أفرزها الخطاب الأصولي باعتباره الفاعل الأبرز تأثيرًا في كثير من المجتمعات العربية؟
“الجديد” تواصل في هذا الملف النقاش حول “الأنوثة المقموعة” مع عدد من الكاتبات والكتاب العرب في محاولة لقراءة النص مقروناً بأثره الفكري في المجتمع، والدعوة للتفكير والنقاش في سبل إنتاج خطاب بديل لتلك الخطابات المهترئة التي ساهمت عبر عقود في تكريس دونية الأنثى وخطابات الأنوثة وهامشية حضورهما في الثقافة والاجتماع.