الربيع المغدور
هل يمثل “الربيع العربي” كظاهرة فعلاً ثقافياً؟ هل يمكن أن نعتبر مصطلح “ربيع عربي” تسمية لثقافة محددة خلقها وحملها جيل الشباب الذي صنع الربيع المذكور ومن ثم قدمها للشارع العربي العام وللعالم في الثورات التي أشعلت ساحات العديد من البلدان العربية منذ عام 2010 فصاعداً؟ هل من المصيب حتى أن نربط في المبدأ بين فكرة “الثقافة” و”الربيع العربي”؟ وبالمقابل، هل يمكن الحديث عن تبدّلات ومتغيرات عميقة وبنيوية طرأت على الثقافة العربية وقادت لتغييرات جوهرية فيها بسبب تداعيات “الربيع العربي” ونتائجه؟
تلك الأسئلة وأخرى سواها بدأت تشغل تفكير عدد لا بأس به من المهتمين بالفكر والثقافة والشأن العام في العالم العربي ومن بدأوا يتطلعون في ظاهرة “الربيع العربي” ويحاولون تفكيكها معرفياً وتحليلها نقدياً بغية تقييمها وقياس أبعاد وتأثيرات نتائجها المختلفة وشاسعة التنوع: من نجاح جزئي وتدريجي قاد إلى سيرورة مدنية شعبية تعبر إرهاصاتها الخاصة (تونس)، إلى صراع تبادلي يعبر سيرورة تشابك وتبادل أدوار ونزاع على سلطة ومحاولة خلق حالة من الاستقرار والديمومة (مصر)، إلى تشظية وتفتيت وجشع للسلطة ورغبة بالهيمنة عليها (ليبيا)، إلى صراع دموي ارتدادي للانتقام ممّن أسقطوا الممسك بالسلطة وخلق حالة من الفوضى خدمة لأجندات خارجية (اليمن)، وصولاً إلى مقتلة مأساوية وحمام دم وحرب شعواء ساحقة ماحقة دمرت بلد برمته وحياة أمّة بأكملها بصورة لم يعرف مثلها التاريخ الحديث (سوريا). واحد من الأسئلة الكثيرة التي تشغل المهتمين العرب وغير العرب هو السؤال عن علاقة ظاهرة “الربيع العربي” بتنوع أنماطها سيروراتها وتمظهراتها بمسألة “الثقافة” ونشوء الثقافات في تاريخ البشر. ومعظم الباحثين عن أجوبة حول تلك العلاقة ينطلقون من تساؤلات تشبه كثيراً ما ذكرته في الأعلى. بالنسبة إليّ، أخوض في مضامير هذه المسألة من نفاذ تساؤلات مختلفة قليلاً وأكثر قواعدية ومبادئية تعود في ماهيتها إلى اكتناه أفلاطوني وهايدغري لطبيعة الأشياء. أسئلتي هي: هل من المصيب أصلاً أن نعزو لـ”الربيع العربي” علاقة من أي نوع بأي نمط من أنماط الحراكات ذات الماهية “الثقافية”؟ ما هو مفهوم “الثقافة” المقصود في مسألة تقصينا لعلاقة محتملة بين تلك الأخيرة وبين “الربيع العربي”؟ ماذا لو كانت ظهورة “الربيع العربي” تعبيرا عن صدام وصراع مميت مع حالة “ثقافة”، أو حتى مع حالة “لاثقافة”، موجودة على الأرض، بدلاً من أن يكون مصدر خلق لثقافة أو عملية وضع حالة ثقافة في مواجهة مع حالة ثقافة مضادة؟ لن أخوض في مقالي هذا في تقديم تعاريف وتفاسير لظاهرة “الربيع العربي”، فهذه مسألة تحتاج لدراسة أخرى بحد ذاتها (سبق لي وكتبت الكثير حول هذه المسألة). ما أرغب بالتركيز عليه هو محاولة تقديم بعض التفاسير والشروح لفكرة “الثقافة” لأنها بيت القصيد في المقال الحالي. أما سياق هذا الانتباه التاريخي والسوسيولوجي والاختباري البشري لظاهرة “الثقافة” فهو “الربيع العربي” في فضاء ما يُعرف باسم المشرق أو الشرق الأوسط العربي.
“الثقافة” ماهوياً هي حراك تراكمي تاريخي الطبيعة: يبدأ هذا الحراك كفكرة أو توجه معرفي ذو هوية بنيوية وإطار إبيستمولوجي وخلاصات استنتاجية معينة ومحددة الخواص. وحين يتمكن هذا الميل المعرفي من خلق تداعيات وتطوير إرهاصات تؤثر على جوانب الوجود الإنساني الفكرية والمجتمعية والسياسية والاقتصادية والعلمية والدينية والوجودية والطبيعية لمجموع بشري ما في سياق جغرافي وحياتي محدد، يتحول هذا التوجه من حراك خاص لحظي إلى سيرورة تاريخية عامة ذات تأثير جمعي وتأريض مجتمعي نسميها وقتها “ثقافة ذاك المجموع″.
على سبيل المثال، حين تحولت مدرسة التفكير التنويرية في أوروبا في مطلع القرن الثامن عشر من مجرد توجه فكري إبيستمولوجي تجريبي معين (Aufklaerung) -بفضل المثالية والذاتوية الميتافيزيقية الألمانية من جهة، والواقعية الأمبريكالية البريطانية والرومانسية التشكيكية الفرنسية، من جهة أخرى- إلى حراك فكري جمعي مؤثر وفاعل في حياة أوروبا (وشمال أميركا) على كافة المستويات، تـأرضت التنويرية في التاريخ المجتمعي العام للمجموع البشري الموجود في تلك الجغرافيا وخلقت سيرورة تاريخية نسميها في أدبيات وأبحاث تاريخ الفكر الأكاديمية “ثقافة الحداثة”. نفس الشيء حدث في أواسط القرن العشرين، حين عمل مفكرو أوروبا على نقد ثقافة الحداثة وخلقوا حراكات معرفية جديدة، مثل حراك إعلان موت الفلسفة وتجاوزها إلى علوم الاجتماع في الفكر الأميركي، وتجاوز الفينومينولوجيا وتفكيكها أنطولوجياً في الفكر الفرنسي، وتجاوز الوجودية الهايدغرية والاستعاضة عنها بتشديد على النهلستية النيتشوية في ألمانيا، وتجاوز التحليلية الكلاسيكية باختزال المعرفة إلى لعبة لغويات فتغنشتاينية في بريطانيا. وحين ألقت تلك الميول المعرفية بتداعياتها على كافة مستويات الوجود الجمعي البشري على جانبي المحيط الأطلنطي تحولت إلى سيرورة تاريخية نسميها في أدبيات الأكاديميا اليوم “ثقافة مابعد-الحداثة”. واليوم في العقد الأول من القرن العشرين، هناك مفكرون وباحثون غربيون – نيو-أورثوذكس ونيو-ليبراليين ونيو-فينومينولوجيين- يتحدثون عن بداية خلق توجه أو حراك فكري جديد في العالم الغربي يسمونه “مابعد-مابعدالحداثة”، إلا أنهم لا يتحدثون عنه على أنه أصبح “ثقافة” لأنه برأيهم (أو باعترافهم) لم يتحول بعد إلى سيرورة تاريخية عامة وفاعلة على كافة مستويات الحضور البشري الجمعي في ذاك الجزء من العالم.
أسمح لنفسي بالزعم بأنَّ ما شهدناه من ثورات وانتفاضات عارمة وتاريخية في بلدان المشرق العربي منذ عام 2010 وحتى الآن لم ينطلق من أيّ سيرورة تراكمية تاريخية معينة ومحددة يمكن أن نسميها “ثقافة”
لنعد الآن إلى المشرق العربي أو الشرق الأوسط تحديداً لنرى ما إذا كان هذا الفهم لطبيعة وماهية الثقافة وتكوّنها التاريخي ينطبق على أي توجه أو حراك فكري شهدناه في المجتمعات العربية. برأيي العلمي المتواضع، أعتقد أننا لم نشهد بعد في عالمنا العربي أيّ نوع من أنواع التحول من حراك/توجه فكري إلى سيرورة تاريخية نسميها ثقافة عامة جمعية في ظهرانين العالم العربي. لهذا أتردد كثيراً في الحديث عن أيّ شيء أو توجه فكري في العالم العربي المعاصر تحت تسمية “ثقافة عربية”. تكوَّنت في العالم العربي المعاصر توجهات فكرية وحراكات معرفية عديدة. ولكن لم ينجح أيّ منها (ليس بعد في طبيعة الحال) في التحول إلى فعل فكري معرفي ذو إرهاصات وتداعيات مؤثرة وبنيوية في الحضور الجمعي البشري في العالم العربي ولم يتمكّن أحدها من تشكيل ماهية مستويات الوجود الإنساني المختلفة في هذا الجزء من العالم. السيرورة التاريخية الفكرية الوحيدة التي يمكن أن نقول عنها أنها “ثقافة” في العالم العربي هي إرث معرفي ثقافي إسلامي-عربي يعود في تاريخ نشوءه وتطوره، وتعود طبيعة إرهاصاته وأدواته ورؤاه، تاريخياً إلى القرون الوسطى، إلى مابعد القرن العاشر ميلادي تحديداً. وهي ثقافة فقهية دينية دوغمائية وتشريعية (من شريعة، وليس من تشريع) مغلقة وتصنيفية بطبيعتها، إذ تعود تلط الطبيعة إلى الظروف السياقية والتاريخية والسياسية والسوسيولوجية التي خلقتها ذاك الزمان. هذه الثقافة عبرت محيطات القرون ونجت من عواصف التاريخ وتبدّلاته ووصلت إلى عالمنا العربي المعاصر بسبب عملية الحفاظ عليها وتقديسها وتحويلها إلى فكر مقياسي مرجعي له صفة الحاكمية والإطلاق والعصمة عن الخطأ أو التقييم أو النقد أو إعادة التشكيل. بدأت عملية التقديس أو التنزيه تلك كردة فعل سياقية وسيكولوجية على وصول الصليبيين إلى شواطئ العالم العربي الإسلامي، واستمرت كأداة سلطة وهيمنة عبر قرون الحكم العثماني، ومن ثم وجدت لها مستثمرين خارجيين استفادوا منها ووظفوها للتحكم بسياقها الحاضن في العصر الكولونيالي كما وجدت أنصارا محليين ركنوا إليها هروباً من الحداثة والتاريخ بدءاً من مطلع القرن العشرين وفي عصر دوليات الاستقلال. أما الحراكات المعرفية، التي ادّعت أنها بديلة أو مضادة للإرث القروسطي، والتي حاولت خلق سيرورات ثقافية قوموية (القومية العربية والسورية) أو دينية (الهوية الإسلاموية) أو مدنية (اليسار والماركسية والليبرالية)، فبقيت كلها مجرد اجتهادات معرفية مؤقتة ومحدودة التأثير وفشلت في تحويل نفسها من حراكات وتوجهات إلى سيرورات تاريخية يمكن تسميتها “ثقافة” بالمعنى الذي نسمي فيه “الحداثة” أو “مابعد-الحداثة” ثقافة في العالم الغربي.
أنا شخصياً أقرأ علاقة الثقافة بظاهرة “الربيع العربي” الأخيرة في المشرق في إطار الفهم آنف الذكر لماهية “الثقافة” وأمثلتها المتوافرة لدينا، سواء في تاريخ العالم الغربي أو تاريخ المشرق العربي. في ضوء قراءتي المذكورة، أسمح لنفسي بالزعم بأنَّ ما شهدناه من ثورات وانتفاضات عارمة وتاريخية في بلدان المشرق العربي منذ عام 2010 وحتى الآن لم ينطلق من أيّ سيرورة تراكمية تاريخية معينة ومحددة يمكن أن نسميها “ثقافة” أو نتحدث عنها على أنها “ثقافة الربيع العربي” أو “الثقافة المولدة لفعل الربيع العربي”. السبب في ذلك، كما حاولت أن أبين في الأعلى، هو أن شباب وشابات تلك الثورات لم يكونوا يملكون مثل تلك “الثقافة” التراكمية التاريخية كي يتأثروا بها ويبنوا عليها رؤيتهم ومنطلقاتهم الوجودية للانتفاض والثورة العامة، أو كي يعمموها ويدعون لها ولاستخدامها في إعادة بناء المجتمع والدولة.
لم يكن هناك مثل تلك الثقافة كي يركب الشباب الثائر موجتها. أو على أقل تقدير، لم يكن هناك تراكم تاريخي معرفي جمعي (ثقافة) معاصر ومن صلب واقع وحياة وتاريخ جيل الشباب في العالم العربي كي يلتفت هذا الشباب إليه ويبني عليه ويعتبره أداته المعرفية الناظمة في الانتفاض والتمرد والثورة. حين ثار الشارع الفرنسي الشاب، مثلاً، ضد الملكية في الثورة الفرنسية العظيمة، كانت هناك بذور فكر التنوير كي يهتدوا بها ويبنوا عليها، ولهذا عكست أفكارهم وخطاباتهم مكونات فكرية قدمها حراك التنوير الفكري دون سواها. في العالم العربي المعاصر، الحضور المعرفي الجمعي والمجتمعي الوحيد ذو السيرورة التراكمية التاريخية التي يمكن أن نسميها “ثقافة” والذي كان متوفراً للشباب العربي المعاصر كان تلك الثقافة القروسطية، التي تحدثت عنها، دون سواها. غالبية الشباب والشابات الذين ثاروا وانتفضوا في بلدان العالم العربي مثلوا جيلاً أنتجته الثقافة القروسطية التدينية والتشريعية والدوغمائية المذكورة. إلا أنه جيل تمتع أيضا بهامش وفرته له حالة العولمة المعرفية والاتصالاتية التي نعيش بها اليوم، ذاك الهامش الذي حُرم منه أجيال العرب في العقود الأقدم. هذا الهامش مكَّن جيل الشباب المعاصر في العالم العربي من خلق فضاءات سرية، ضيقة ولكن حقيقية، عمل فيها على تكوين هوية إنسانية خاصة به، كان من المتوقع أن تحمل سماتها ملامح ذهنية ونظرة للعالم قوامها التضاد والتمرد والرفض (وإن كان أحياناً ضمنيا ومضمرا) والنقد الشديد (غير العلني قبل “الربيع العربي”) لمرجعية ومطلقية وعصمة تلك الثقافة القروسطية وماهيتها الدينية التصنيفية واللاعقلانية وتمظهراتها السلطوية والقمعية وفسادها وتحللها الأخلاقي والإنساني. إلا أنَّ الجيل العربي المعاصر، جيل “الربيع العربي” بالذات، لم يطور تلك الأحلام والطموحات الفردية غير المعلنة ولم يُتح له أن يحولها إلى ثورة معرفية وفكرية جادة (كما فعل جيل منتصف القرن العشرين في العالم الغربي، حين خلق توجها معرفيا ضد الحداثة قاد بالنتيجة إلى خلق مابعد-الحداثة) ضد الثقافة القروسطية المسيطرة، بل اكتفى بنقدها والتمرد عليها ورميها جانباً في جوانياته الفردية والشخصية الخاصة وقام فقط بالتعبير اللفظي والتظاهراتي عن رفضه المذكور. ولكنّ، التعبير عن الرفض شيء، والقيام بحراك حقيقي ينتج خيارات بديلة شيء آخر.
ستستمر محاولات أتباع الثقافة القروسطية بالهيمنة وركوب موجة “الربيع العربي” لترسيخ وجودها، بل وتأبيده إن أمكن لها ذلك. ولكن ستستمر أيضاً أحلام الجيل العربي المعاصر الذي صنع ثورات الربيع العربي
انطلاقاً من هذا، أنا من المترددين جداً بالحديث عن “الربيع العربي” على أنه حراك أنتجته أجيال شابة عربية معاصرة ذات فكر “ثقافي” جديد قائم بذاته وذو ماهية جمعية معتبرة ويمكن التعويل عليها في خلق سيرورة ثقافية جديدة. أنا أعتقد أن “الربيع العربي” لا يمثل بذاته “هوية ثقافية”. ولهذا أتردد كثيراً قبل الحديث عن “ثقافة الربيع العربي” أو “ثقافة” الشارع الذي أنتج “الربيع العربي”. برأيي أن “الربيع العربي” في أحد مظاهره ووجوهه نشأ نتيجة موت الثقافة في العالم العربي: نشأ كتعبير الجيل الجديد عن بحثه عن “ثقافة”؛ عن تعطشه للعودة للتاريخ وللعيش فيه وفق سيرورة زمكانية جمعية تتجاوز الاجتهاد الفردي والخاص والشخصي إلى المجتمعي والعام والتاريخي، وتسمح لنهر التكوين الثقافي والتثاقفي بالجريان في أخاديد العالم العربي الجافة الجرداء كأرض هباء.
أعتقد أن أحد أوجه “الربيع العربي” كان تمرداً حقيقياً ومعلناً على الثقافة القروسطية التي مازالت تهيمن على العالم العربي وتخنق حياته منذ ألف ومائة عام. ليس غريباً أبداً أن جيل الشباب الذي خلق ثورات الربيع العربي فاجأ ما يسمى (مجازاً فقط برأيي) بـ”طبقة المثقفين” في بلدان العالم العربي. ليس غريباً أن هذا الجيل تجاوز في فعله ودوافعه وأحلامه كل ما توقّعه ونظّر له، وربما استطاع أن يفكر فيه، المنتمون لتلك الشريحة الافتراضية المدعوة بشريحة “المثقفون العرب” (مهما ادّعى هؤلاء بدون حق ولا حقيقة أنهم استشرفوا الثورات المذكورة ونظروا لها وتوقعوها وأنهم آباؤها الفكريون). السبب في ذلك قد يكون أن الغالبية العظمى من المنتمين لتلك الشريحة (مع وجود استثناءات فردية قليلة طبعاً) كانوا إما ينتمون إلى الإرث الثقافي القروسطي عينه، أو أنهم مستسلمون له ولهيمنته، أو يدافعون عنه ويستفيدون منه، أو يخدمونه خوفاً وانصياعاً. كان “الربيع العربي” في أحد جوانبه انتفاضة (واعية أو لاواعية؟ سؤال يستحق الدراسة العلمية في المستقبل) على ذاك التراكم التاريخي الذي أسميه هنا “ثقافة قروسطية” وعلى كل من انتمى لها أو استسلم لها أو دافع عنها أو خدمها. لا عجب أن هناك هوة سحيقة تفصل ما بين شباب وشابات الربيع العربي وبين تلك الشريحة الافتراضية المسماة “المثقفون العرب”. الربيع العربي في أحد أوجهه هو تلك الانتفاضة اللاثقافية على حالة موت الثقافة في العالم العربي وعلى كل من انتمى أو حاول النجاة أو استكان أو لم يفعل شيء حيال حالة “موت الثقافة” تلك.
في قلب هذا السياق الذي أحاول توصيفه هنا، يمكننا أن نفهم أسباب وعناصر تعثر “الربيع العربي” وعدم تحقيقه النتائج المرجوة منه على المستويين الثقافي والمجتمعي. لم يتمكن جيل الشباب الصانع لظهورة “الربيع العربي” من أخذ الفرصة المطلوبة لخلق حراك فكري ومعرفي منظم وواضح المعالم والماهية، ولهذا لا يمكن الحكم بأيّ شكل علمي موثوق حالياً على إمكانية نجاحهم أو فشلهم في خلق مثل هذا الحراك ومن ثم تحويله إلى سيرورة تاريخية جمعية نسميها “ثقافة الربيع العربي”. لا يمكن فعل ذلك لأن “الثقافة”، كما قلت، سيرورة تراكمية تحتاج إلى زمن ومدى تاريخي كي تكشف عن إمكانية وجودها وديمومتها من عدمها. وهذا المدى الزمني والتاريخي لم يعطَ بعد الفرصة أو الأفق لخلق مثل تلك “الثقافة” في بلدان “الربيع العربي”، وأنا لا أعتقد أنه سيُعطى ذاك الأفق في المستقبل المنظور. أبني رأيي المتشائم هذا على مراقبتي لردة فعل الثقافة القروسطية السائدة في العالم العربي تجاه “الربيع العربي” ذاته وما قدمه شباب وشابات الربيع المذكور من أفكار وأحلام ورؤى.
لقد حاول أبناء الثقافة القروسطية السائدة، من كافة الخلفيات والتيارات السياسية اليسارية واليمينية والإسلاموية على حد سواء، إما أن يكبتوا فعل الشباب ويقاوموه، أو أن يركبوا موجته لتطويعه والسيطرة عليه وتوظيفه في تحقيق أجندات خاصة، أو يضعوا ثقافتهم القروسطية الإقصائية المذكورة في مواجهة مباشرة وواضحة مع ما لمسوا فيه ملامح مقومات حراك فكري ومعرفي جديد يمكن أن يتكون في ظهرانين المجموع العربي الشاب المعاصر. حتى هذه اللحظة، يفشل “الربيع العربي” ممثلاً بالشرائح المجتمعية الفعلية التي قامت به في خلق حالة فكرية معرفية يمكن أن تتأرض تاريخياً وجمعياً يوماً ما وتتحول إلى “ثقافة” جديدة تأخذ العالم العربي إلى ماوراء قفص القروسطية المسجون فيه. وفي الواقع، يلاحظ المراقب لإرهاصات “الربيع العربي” في بلدان حدوثه أن ما يبدو على السطح كصراع شعوب مع أنظمة سياسية حاكمة استبدادية ومجرمة يخفي تحته صراع موازٍ أكثر بنيوية وخطورة وجدية، برأيي، يدور بين محاولات الأجيال العربية الجديدة لخلق ثقافتها وسيرورتها الفكرية الخاصة بها، والتي تعبّر عن تاريخها وزمنها هي، من جهة، ضد محاولات الثقافة القروسطية السائدة (متمثلة بأحزاب وأيديولوجيات وتيارات سياسية ودوغمائية دينية ولا دينية على حد سواء) لمنع تلك المحاولة من الوجود وللتعامل مع هذه الرغبة الشابة على أنها العدو الأول والأخطر أكثر بكثير من أنظمة الاستبداد والفساد والقمع.
يبدو لي كمراقب أنَّ السنوات القادمة ستحمل صراعاً مستداماً، بل وقد يكون عنفياً وتفكيكياً بشكل خطير، في ساحات بلدان العالم العربي العامة. ستستمر محاولات أتباع الثقافة القروسطية بالهيمنة وركوب موجة “الربيع العربي” لترسيخ وجودها، بل وتأبيده إن أمكن لها ذلك. ولكن ستستمر أيضاً أحلام الجيل العربي المعاصر الذي صنع ثورات الربيع العربي وستستمر محاولاتهم لخلق مخيالات فكرية وتوجهات معرفية تعبر عن زمنهم وتاريخهم وعن طبيعة العالم الأوسع الذي يعيشون فيه ولا يمكنهم أن ينعزلوا عنه ويتقوقعوا بعيداً عن فضاءه في ظل عيشنا اليوم على كوكب معولم مترابط إلكترونياً ومعلوماتياً ووجوداً بصورة لم يعرفها من خلقوا ثقافة القرون الوسطى ولم يعيشوا فيها. سيظل هذا الجيل يحلم بتحقيق هذا الطموح بخلق حراك فكري ومعرفي جديد على أمل أن يصبح بالنتيجة تراكماً جمعياً يخلق “ثقافة” قائمة بذاتها. ولكن، الطريق طويل جداً وعلينا أن نعبره بكل تفاصيله، الجيد والسيء منها على حد سواء. ما يعيشه العالم العربي اليوم هو مرحلة انحطاط ونكوص وتحلل معرفي وثقافي وفكري بكل أنواعه وأنماطه. عصر كل ما ينتج فيه من مساهمات ثقافية وفكرية وأدبية وأكاديمية تخرج من العالم العربي لا تمثل، برأيي، فعل خلق ثقافة جديدة. بل تتمرأى أمامنا بشكل لا لبس فيه حالة “موت الثقافة” ومرحلة تعرية بدأت لانحلال الثقافة القروسطية في ظهرانين العالم العربي.