الرجل الذي يصفق
الإسكندرية ذات التاريخ العتيد. امتداد أقدم شارع في الدنيا، شارع “كانوبي” كما خطط له ونفذه بمهندسي الإسكندر الأكبر عام 332 قبل الميلاد. السيارات من الاتجاهين ليلا ونهارا لا تتوقف. وسط الشارع جزيرة نحيفة بعضها خضراء وبعضها بلاط، وبعضها أقيمت عليه تماثيل سخيفة.
على الجانب البحري مبنى كلية الهندسة الفرعوني بهيبته، وعلى الجانب القبلي المستشفى اليوناني الذي تم تأميمه فانحدر حاله. بين هذين المبنيين، وعلى الجزيرة في المسحة المبلطة، يقف الرجل الأربعيني بملابسه الفقيرة ووجهه الأسيان، يقف مواجها لمبنى كلية الهندسة ويصفق بكفي يديه في رتابة. سنوات وهو واقف يصفق ودون أن ينطق بكلمة واحدة! سنوات وهو هكذا ولم يبارح مكانه إلا عند المرواح. واجهة كفيه من طول التصفيق تجلدتا فصار صوت ارتطامها الروتيني البطيء يحمل رنة معدنية.
أهالي المدينة تساءلوا؟ لماذا؟ لكن لم يجد أحدا الإجابة. حتى جيرانه في بيته المُلقى في الحي العشوائي لم يعرفوا لماذا يفعل ذلك؟ زوجته لا تفهم، فقط بكت حتى جفت دموعها. رفضت في البدايات مساعدات الناس لها، أموالا وطعاما، ثم قبلت حتى لا تموت جوعا هي وزوجها المصفق.
سخر الكثيرون من المصفق، قالوا لو كان يصفق للحكام بهذا الإصرار لصار من الأغنياء. ثم بدأت الحكايات المثيرة تروي عنه.. إن ابنه كان في كلية الهندسة، شابا ذكيا طموحا، يوما وهو خارج من الكلية أطاحت به سيارة فارهة فقتلته وفرّت. لذا يأتي المصفق هنا ليصفق أسيانا ساخرا من السلطة التي تركت ابنه الفقير يُقتل ودمه يضيع هدرا، فالقاتل من الأغنياء! وقيل إنه عامل فقير تم فصله فوقف يحتج. ثم قيل إن لوثة طالته ليس إلا.
لكن ما اتفق عليه أغلب الناس هو أن المصفق يمثل القطاع العريض من الناس التي لم تجد أسلوبا للاحتجاج، ويكون في نفس الوقت بعيدا عن انتقام السلطة، سوى هذا الفعل المصفق الغامض، وأن هذا الرجل سيتحرك يوما سواء ناحية كلية الهندسة أو المستشفى المؤمم، وهذا الوقت سيكون حين يشعر بأن الجماهير ستتحرك معه، أمامه وخلفه ومن جانبيه.
بعض من النخبة الثائرة، تتعجل وتقول متى يتحرك المصفق ويقطع الطريق المزدحم بالعربات، متى سيتحرك سواء للجانب البحري أو القبلي، متى ستأتي الجماهير لتآزره؟ والمحبطون دائما يقولون.. بل الرجل من كثرة استنشاقه لدخان العربات في وقفته تلك سيموت مختنقا قبل أن يتحرك هنا أو هناك، قبل أن يقول لِم يقف هكذا ويحتج هكذا، وسيبقى سره في صدره للأبد.