الرقص الشرقي بين النسوية والإمبريالية

السبت 2022/10/01

تداولت  الأخبار في  مصر مؤخرًا حادثة  تلقت فيه محكمة الأسرة بالجيزة قضية طلب خلع الزوجة “المهندسة  سهى” من زوجها الطبيب المرموق والذي يعمل في مستشفى عالمي بمصر. لكن طلب الخلع لم يكن لأن الزوج يعنف زوجته أو كونه لا يستطيع إعالة أسرته، أو حتى أنه خائن، ولكن جاء طلب الخلع من المهندسة التي عاشت مع زوجها حياة سعيدة بدأت بقضاء شهر عسل في أوروبا، جاء طلب الخلع  بسبب طلب الزوج الطبيب من الزوجة المهندسة أن ترقص له، وهو ما اعتبرته الزوجة  المهندسة إهانة لا يمكن قبولها. تتعجب المهندسة أنه كيف لمهندسة  متربية على الأخلاق والدين أن تكون عبدة ترقص كالجواري والعاهرات كما تقول المهندسة سهى للقاضي. تقول “فوجئت بطلب غريب من زوجي، زلزل الأرض من تحت أقدامي طبعا. زوجي المحترم طلب مني أني أرقصله.. وقعت الكلمات على أذني كحجر ثقيل، كيف يطلب الطبيب المحترم مني مثل هذا الطلب غير الأخلاقي… رفضت بعنف أن أصير عبدة في بيت زوجي، ومستعدة للتنازل عن السيارة الفاخرة والفيلا الشيك، مقابل الخلاص من الزوج المحترم، الذي أهانني، وحسسني أن تعب السنين ضاع هدر، وأن الرجل مهما علت مكانته، يظل ينظر إلى المرأة على أنها سلعة امتلكها ويرغب في تحقيق”.

تم تأجيل النظر في القضية وتحويلها إلى خبراء علم النفس والاجتماع ولم يمر شهر على هذه  القضية حتى انتشر نقاش حام في المجتمع المصري حول الرقص الشرقي مرة أخرى. جاء النقاش على خلفية قرار للمحكمة الادارية العليا والتي أيدت فيه حكم محكمة القضاء الإداري بعزل الأكاديمية والكاتبة الروائية منى برنس من وظيفتها، بتهمة الرقص في العلن وتشجيع طلابها على ذلك. جاء هذا القرار على خلفية أحداث بدأت في عام 2017 حين قامت الأكاديمية منى البرنس بنشر مقاطع فيديو لنفسها وهي ترقص على حسابها على فيسبوك. كتبت معلقه على أحد المقاطع “أنها ترقص لحريتها المرتقبة في بيتها”. فتم على خلفية هذه الفيديوهات عزلها كأستاذة جامعية بجامعة السويس، وبعد تقدمها بالطعن لدى المحكمة الإدارية تم تأييد القرار بالفصل النهائي من وظيفتها كأستاذة جامعية. أوضحت  المحكمة “أن الحرية الشخصية لا تعني الإباحية المخالفة لقيم المجتمع وتقاليده”. أشعلت هذه القضية نقاشا حامي الوطيس حول الحرية الشخصية ومكانة المرأة المصرية في المجال العمومي. والسؤال  الذي يطرح نفسه لماذا تختلف الرؤى حول معنى وقيمة الرقص الشرقي حتى بين النساء في المجتمع المصري؟

في هذا المقال سأتناول باختصار العلاقة الشائكة بين الرقص الشرقي والنسوية من جهة والرقص الشرقي والنظرة الاستشراقية والإمبريالية من جهة أخرى.

الرقص والرذيلة بين التاريخ والحاضر

رغم أن الرقص الشرقي يرتبط الآن في أذهان معظمنا بالنساء والإيروتيكية وأنه ضد الأخلاق والدين متمثلا في عبارات نسمعها يوميا “الرقص عيب، الرقص حرام، الرقص قلة أدب”، إلا أن هناك العديد من  المصادر والآراء التي تفترض أن الرقص الشرقي بدأ وانتعش جنبًا إلى جنب مع  الدين وفي المعابد  الدينية. فالرقص الشرقي والذي تعتمد فيه المرأة على حركات الذراعين والبطن والخصر قد اشتهر أولًا كطقس ديني تتقرب به النساء إلى الآلهة عشتار إلهة الحب والخصب والحرب عند شعوب بلاد الرافدين. كان يرمز لعشتار بأنها الإلهة الأم منجبة الحياة. وكان النساء يتقربن للآلهة عشتار بطقوس الرقص هذه متضرعين لها أن تمنحهن الخصوبة والنماء. في هذه الطقوس كانت البطن حيث رحم المرأة و رمز الحياة مكشوفة (ميرنيسي 2002).

لم يكن رقص المرأة في أماكن العبادة حصرًا على المرأة في بلاد الرافدين في الحضارات القديمة. ففي مصر القديمة وحيث كان للآلهات حضور  قوي من بينهن “الإلهة أمنتت حامية للموتى سكان الغرب، الإلهة باخت إلهة للحرب، والإلهة تاروت أو العظيمة التي تحمي الأمهات أثناء الحمل والولادة وغيرهن كثيرات ولكن يأتي على رأسهن الإلهة حتحور وهي الأكثر شهرة والتي عبدها  الملوك وكذلك عامة الشعب. كانت حتحور تعتبر الإلهة عشتار في مصر وفي اليونان كانت تمثلها  أفروديت. حتحور الإلهة التي مثلت الخصوبة والبهجة والرقص والموسيقي والحب كان النساء يتضرعن لها في المعابد بالرقص وكذلك في المقابر فحتحور كانت كذلك الإلهة التي ترحب بالموتى في الحياة التالية والتي تعد لمن هم جديرون أخلاقيا بالحياة الأبدية. قد تعددت أنواع الرقص من رقص فردي لرقصات جماعية حتى أن الفرعون نفسه كان يقوم بالرقص للإلهة إلا أن النساء كن مهيمنات على تقديم عروض الرقص كطقوس للآلهة كما أن بعض العروض الدينية ظلت حكرًا على نساء الطبقات العليا فقط.

غير أنه سرعان ما ستطرد النساء من المعابد وسيتحول رقص المرأة بمفردها من طقوس تقرب دينية  للآلهة إلى رمز لسلوك النساء غير الأخلاقي. سيتم  تحطيم  تماثيل الآلهات وربطهن  بالانحطاط والرذيلة مع انتهاء عصر الآلهة في صورة امراة والتي سيطرت لآلاف السنين من العراق حتى اليونان وظهور الإله في صورة الرجل وهيمنة سلطة الرجل على المعابد والمجال العمومي بالكامل. فيصور لنا الكتاب المقد س الآلهة عشتار في سفر الرؤيا بأنها “الزانية العظيمة الجالسة على المياه الكثيرة* 2 التي زنى معها ملوك الأرض وسكر سكان الأرض من خمر زناها* 3 فمضى بي بالروح إلى برية فرأيت امرأه جالسة على وحش قرمزي مملوء أسماء تجديف له سبعة رؤوس وعشرة قرون* 4 والمرأة كانت متسربلة بأرجوان وقرمز ومتحلية بذهب وحجارة كريمة ولؤلؤ ومعها كاس من ذهب في يدها مملوءة رجاسات ونجاسات زناها * 5 وعلى جبهتها اسم مكتوب سر بابل العظيمة أم الزواني ورجاسات الأرض” . رغم  أن الآراء السائدة ترى أن الأديان السماوية لم تحرّم فعل الرقص في حد ذاته، إذ تذكر التوراة في سفر الخروج أن مريم أخت  النبي موسي رقصت احتفاًلا بنجاتهم من فرعون ولكن الرقص كان تعبيرا عن الفرح والبهجة وكان قد فقد رمزيته كطقس تعبدي. كما جاء ذكر الرقص في الانجيل في أماكن عدة وجاء حتى على لسان النبي عيسي في عبارة “زمّرنا لكم فلم ترقصوا. نحنا لكم فلم تلطموا” في إشارة أن من حوله لم يتبعوا تعاليمه. هذه الجملة هي إشارة للعبة كانت معروفة آنذاك إذ ينقسم الأولاد إلى فريقين فريق يزمر ويرقص الآخرين وفريق ينوح فيلطم الفريق الأول. فيما يعني أن فعل الرقص في حد لم يكن محرما ولكن كان رفض الرقص المكروى وهو ذلك الفعل الذي يثير الغرائز والشهوات في الرجال وهنا يأتي رقص المرأة بمفردها وخصوصًا إذا تعرى جسدها الذي تدعوها هذه الديانات لكبته ونبذ شهواته والاحتشام والزهد. ولا تختلف هذه الصورة في الدين الإسلامي الذي يرى في جسد المرأة “عورة  وفتنة” يجب تغطيتها سواء كان ذلك لحماية الرجال من فتنه النساء أو الحفاظ على النساء من رجال غرباء فاسدين قد يغوون المرأة أو ينتهكون جسدها عنوة. ولكن هذه الصورة تخص حضور المرأة في المجال العمومي. أما عن المجال الخصوصي فالدين الإسلامي يدعو الزوجة لتلبية رغبات زوجها وإسعاده بما لا يخالف الشرع.

الرقص الشرقي بين الشرق المسلم والغرب الحديث

الرقص

وبالعودة إلى حادثة طلب الخلع سابقة الذكر، فيبدو أن الزوجة المهندسة قد لجأت في رفضها فعل الرقص باعتباره إهانه لها ولمخيال نسوى “علماني” تفترض أنه  نموذج الأخلاق وتقدير المرأة وتحريرها من عبودية الرجل. وهنا يأخذنا الحديث إلى بعد آخر قد لحق بالرقص الشرقي خصوصًا بعد الالتقاء الثقافي بين الحضارة الاسلامية والغربية في العصور الوسطي. حيث  كانت قصور السلاطين تضم المئات وربما الآلاف من الجواري والمحظيات كإحدى رموز ثراء وعظمة الإمبراطورية الإسلامية. ورغم أن الصورة السائدة في أذهاننا العربية عن الجارية هي تلك المرأة المتمرسة في العلوم والأدب والشعر والموسيقي وليس بالضرورة الجارية الراقصة العارية. إذ يصف لنا أبوالفرج الأصفهاني في كتابه “الإماء الشواعر” ثلاثا وثلاثين شاعرة جارية متميزة في العصر العباسي، فيما فاقت موهبة الجارية “فضل” وبلاغتها، حسب الأصفهاني، كل نساء زمانها. عاشت فضل في البصرة في القرن الثالث الهجري في قصر الخليفة المتوكل وكانت أشهر جواري عصرها، رغم أنه كان يتم تدريب الرقيق من النساء على الرقص كذلك إلا أن التركيز على الربط  بين الاستبداد الإسلامي وقهر النساء والرقص الشرقي، صورة  كرسها الاستعمار الأوروبي بعد ذلك. ففي الشرق المحتل كان لقاء الأوروبي بالراقصات أو “الغوازي وهن الغازيات اللاتي امتهن الرقص الشرقي كحرفة في الموالد والحفلات في الأرياف بعيًدا عن القاهرة. كانت “الغازيات” تنتمين لقبيلة تحمل نفس الاسم، فالرجل منهم يسمى غازي، والمرأة غازية، وهن لا يتزوجن، ويتحركن ويسكن بشكل جماعي مع أفراد من أهلهن كما يعرفهن إدوار وليام لاين في كتابه “عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم” والذي يوثق فيه المجتمع المصري وثقافاته وعاداته الاجتماعية في القرن التاسع عشر.

زاد ولع الأوروبي بالرقص الشرقي منذ حملة  نابليون وما تلاها. فهذه العروض التي ترقص فيها المرأة بمفردها لجمع من الناس بينهم رجال كانت بمثابة امتداد لصورة المرأة المسلمة التي ترقص بقصد إغواء أو استجداء الرجل الوحيد “السلطان” في الحريم أو قصور السلاطين كما صورتها حكايات “ألف ليلة وليله”. فنرى الروائي الفرنسي الشهير جوستاف فلوبير (1821 – 1880) يصف شرقة المتخيل في حكاياته عن  مصر وتركيا ولبنان خصوصًا من خلال رواياته عن  الراقصة الغامضة كوتشوك هانم. وكوتشوك هانم راقصة مصرية (سورية الأصل) محظية قابلها الروائي غوستاف فلوبير ذات مرة  في وادي حلفا في مصر. في رواياته عن مصر التي كانت زيارته لها بين عامي 1848 و1850 التقى فلوبير كوتشوك هانم، وكانت تعتبر من أهم فتيات الهوى في عصرها. كان لكوتشوك هانم بيت في إسنا في جنوب مصر وكان مقصداً لمحبّي الغناء والموسيقى والمتعة، وخصوصاً الرحالة الأوروبيين .في  كتابه “فلوبير في مصر، الذي جاء على شكل رسائل إلى أمه وصديقته وأصدقائه في فرنسا، يصف فلوبير بالتفصيل جسد الراقصة ولباسها وحركاتها الشهوانية وحتى لقاءاتهما الجنسية. فلم  تكن كوتشوك هانم رمز الفتنة والغموض الشرقي ولكن  كذلك انحطاط المرأة الشرقية في مقابل المرأة الأوربية المحافظة. يكتب فلوبير في رسالته إلى صديقته لويز كوليه التي ظهرت عليها علامات الغيرة من اقتران الروائي بالراقصة في عام  1853 “أما عن كوتشوك هانم فليهدأ بالكِ ولتصوّبي آراءك عن الشرق. فإني واثق من أن العاطفة لم تجد سبيلها إلى قلبها، بل إني أشك في أنها كانت صادقة الحسّ بالمتعة الجنسية، (…) المرأة الشّرْقيّة خالية القلب لا فرق عندها بين رجل وآخر، ولا همّ لها إلا نارجيلة تدخّنها وحمّام تختلف إليه وكحل تكحّل به عينَيها وقهوة تحتسيها، أما عن إحساسها بالمتعة الجسدية فهذا أمر تافه بالنسبة إليها” (فلوبير 220).

وكانت كوتشوك هانم مشهورة بـ”رقصة  النحلة” أو تلك الرقصة التي  تتخفف فيها الراقصة من ملابسها وهي تدور بحركة دائرية سريعة جدًا. وكانت هذه الرقصة محط  أنظار العديد من الرحالة المستشرقين الذين كتبوا عنها باستفاضة في دراساتهم عن الشرق من أمثال  المستشرق الفرنسي بريس دافين في القرن التاسع عشر وكان قبله العديد ممن جاؤوا مع حملة نابليون على مصر. في  كتابه “الاستشراق” يقول إدوارد سعيد إن كوتشوك هانم، والتي اعتبرت المادة الأولية لمعظم روايات جوستاف فلوبير، قد شكلت “قناعاً من أقنعة الشرق الجنسيّ المستهام، فالشرق في علاقة فلوبير بالراقصة يمثل “بحرية الجنس الشبق” وبـ”تجربة جنسية لا يمكن الفوز بها في أوروبا”. ويرى سعيد في كل رحالة  غربي هذا الميل إلى “الجنسية الشّرْقيّة” التي صارت “بضاعة.. فائدتها أن القرّاء والكتاب يمكنهم اقتناؤها دون الحاجة إلى الذهاب إلى الشرق بالضرورة”. وتقول شذى يحيى عن الراقصات في مصر في هذه الفترة في كتابها  “الإمبريالية والهشك بشك: تاريخ الرقص الشرقي” الصادر عن دار ابن رشد في القاهرة (2020) أن الراقصات كن التمثيل المرئي الوحيد للمرأة الشرقية في الذهن الغربي عن  المجتمع الشرقي الاسلامي. ففي الفكر الاستعمار كان   المستعمر يروج لصورة الشرق حيث الراقصات العاهرات المتاحات من جهة والمسلمات المحبوسات في الحريم  والحمامات واللاتي هن بحاجة للأوروبي الأبيض لإنقاذهن وتحريرهم من الرجل الشرقي المستبد الذي يخضع النساء لرغباته الجنسية كما في لوحات جين أوستين زإنغر وبيكاسو وغيرهم (سعيد 1978).

في الواقع، مصطلح “رقص  البطن” أو “Belly Dance” كما يستخدم في اللغة الإنجليزية لوصف رقص المرأة بمفردها في المجتمعات الإسلامية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وآسيا الوسطى، وهي ترجمة للمصطلح الفرنسي danse du ventre والذي ظهر لأول مرة في عام 1864 في تعليق  للرسم الاستشراقي “رقصة الماء” للرسام لجان ليون جيروم.  غير أنه غالبًا ما يُنسب مصطلح “الرقص الشرقي” إلى سول بلوم والذي استخدم المصطلح ليشير إلى الراقصين في معرض شيكاغو العالمي لعام 1893. وقد تأثر استخدام هذا المصطلح بشكل كبير بالفن المعاصر والقوالب النمطية السائدة حول المجتمعات الشرقية. وكان من المفترض أن يجذب المصطلح الجمهور من الذكور من خلال إثارتهم جنسيا. في الواقع، يقول بلوم في مذكراته “عندما علم الجمهور أن الترجمة الحرفية كانت ‘رقص بطن” استنتجوا بسرور أنها يجب أن تكون الرقصة مثيرة جنسيًا وغير أخلاقية..   ولذا فقد وجدت منجم ذهب” (مذكور في كارلتون 1995).

في إنجلترا الفيكتورية، ربط الرقص الشرقي الرجال بالمسارح الهزلية والكرنفالات والسيرك. في هذه العروض قدم راقصات من عدة دول في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بما في ذلك سوريا وتركيا والجزائر، لكن الراقصات في مسرح الشارع المصري في معرض القاهرة في بريطانيا  كنّ الأكثر شهرة. في هذا المجتمع الفيكتوري، على الرغم من النقد الاجتماعي، كان الرقص الشرقي يكتسب شعبية، خاصة بين الرجال. تم عرض فيلم قصير بعنوان “رقصة فاطمة” Coochee-Coochee (1896) على نطاق واسع في مسارح Nickelodeon وهو ما أثار عاصفة من الانتقادات واصفة إياه بالرقص “غير المحتشم” بسبب حركاته الجنسية المفترضة ولباس الراقصة غير المحتشم، وتم حظر الفيلم. فقد صدم منظر الراقصة التي لا ترتدي ” مشد الوسط” وكاشفة عن الساقيين مشاعر المجتمع الفيكتوري المحافظ. ومع ذلك، فإن شعبية هؤلاء الراقصات الشرقيات نتج عنها بعد ذلك العديد من المقلدات للراقصات الشرقيات. ورغم  هذه الشعبية الواسعة إلا أن الراقصات كثيرا ما تعرضن للسجن والغرامات آنذاك (نيويورك تايمز، 1883).

أما في المشرق، فبينما لم يكن هناك أي إشارة للتعامل مع  الرقص أو العري في الحريم إلا أن الدولة كانت قد شرعت  بالفعل في محاربة الرقص في المجال العمومي. فيقول ياسر ثابت في كتابه “حروب الهوانم” إنه في عام  1834 أصدر محمد علي باشا فرمانـًا بمنع الدعارة ورقص “النساء العموميات”، وفرض عقوبة على المرأة المخالفة بالجلد خمسين جلدة في حال كانت أول مرة والحبس لمدة عام أو أكثر إذا تكرر فعلها. غير أنه سرعان ما تم رفع الحظر في عهد عباس الأول لمنع العادة قيام الرجال بدور الراقصة في التجمعات والحفلات بدلا من الراقصات. عادت النساء لممارسة المهنة سواء كن “غازيات واللاتي يرقصن للجميع في الشارع خارج العاصمة أو العوالم  وهن العالمات  المتمرسات بفنون الرقص وأساليبه والموسيقى وربما الشعر وكن يرقصن للنساء فقط”، بل وتم  فرض ضريبة على الراقصات عام 1866. وأصبحت دعوة الراقصات لإحياء الحفلات في المناسبات أمرا عادًيا حتى أنه تمت الاستعانة  بالراقصة الشهيرة شفيقة القبطية لإحياء حفل افتتاح قناة السويس الأسطوري في 16 نوفمبر 1896 في عهد الخديوي إسماعيل باشا لتكريم الإمبراطورة “أوجيني”. حضر هذا الحفل ملوك  وأمراء أوروبيون وشخصيات هامة وكذلك رجال الدين من  شيوخ المسلمين منهم  الشيخ مصطفى العروسي والشيخ إبراهيم السقا وكذلك قساوسة مسيحيون.

حتى وإن ظل تقدير مهنة الرقص الشرقي والعالمة محط جدل وخلاف حسب السياق الاجتماعي والثقافي والسياسي في  مصر إلا أن ما لا يمكن إنكاره أن الرقص الشرقي قد خرج  إلى المجال العمومي وانتشر في المقاهي والمسارح ودخل  كل البيوت. فقد أصبحت  الراقصات جزءا لا يتجزأ من  السينما المصرية منذ بدايتها مع الأفلام الغنائية والاستعراضية في عصر “الأبيض والأسود” وحتى اليوم في الأفلام التجارية حيث يحتل الرقص مكانة بارزة في صُلب إنتاج هذه الأفلام كشكل من أشكال الترويج المضمونة.

أما سينما هوليوود قد رسخت ولا  تزال صورة المرأة  العربية كسلعة جنسية مسجونة في حريم الرجل الشرقي، والرقص الشرقي هو الصورة المثلي لهذا التسليع للمرأة  الشرقية وعلو مكانة المرأة الغربية من جهة ومن  جهة  أخرى فالمرأة الشرقية هي المرأة  المتاحة للفرجة  التي يولع بها الغربي. فالمئات من فرق الرقص الشرقي في أوروبا كانت مستوحاة من أفلام هوليوود مثل الدراما الرومانسية “شيخ” (1921) و”الليالي العربية” (1942). في هذه الأفلام التي حققت نجاحًا كبيرًا في الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية، يرى فيها المشاهدون “ملوك يرقصون مع فتيات الكورال، والشعراء يحلمون في حديقة الفردوس، والدراويش  الذين يرقصون الرقصات الدوارة”. كما أن الراقصات الشرقيات، ومعظمهن من أصل غربي يرتدون ملابس بالكاد تسترهن وهي صورة نادرة في الشرق  الأوسط والمجتمعات الإسلامية آنذاك . وهذا كله يظهر في  العادة أمام خلفية تظهر فيها المآذن والمساجد. كانت هذه  الصورة تهدف إلى فرض نظرة استشراقية نمطية على المرأة والثقافة المسلمة من خلال استحضار الأساطير. كما يقول أنتوني ويونغ (2003)، حيث “تصبح الأساطير حقيقة ويختفي الواقع” (أنتوني ويونغ 19).

وجدير بالذكر هنا أن من أرسى شكل بدلة الرقص الشرقي  كما نعرفها اليوم هو المصمم ليون باكست اليهودي من روسيا البيضاء، والذي أرسى ما يشبه بالعلامة التجارية لزي الراقصة من حيث التصميم والألوان، واستخدم هذا الزي في بالية شهرزاد سنة 1910، واستوحى فيه موتيفات العالم العربي والقوقاز وتركيا ووسط آسيا كما تؤكد شذي يحيى  في كتابها “الإمبريالية والهشّك بشّك: تاريخ الرقص الشرقي”، ومنذ الحرب العالمية الثانية أثرت هذه الصورة في تصوير الشعوب الإسلامية داخل الاتحاد السوفياتي السابق وفي مصر ودول إسلامية أخرى (أنطوني ويونغ 20).

الرقص والنسوية

النسوية

خلال الستينات والسبعينات من القرن الماضي في الغرب، وخاصة في الولايات المتحدة، ازداد الاهتمام النسوي بالرقص الشرقي. ركزت الحركة النسوية هذه الفترة على نقد المؤسسات والممارسات الثقافية والخطابات في المجتمع الذكوري فيما يخص أجساد النساء. استخدمت تلك النسويات الرقص الشرقي كأداة للثورة ضد التصور الأبوي لأجساد النساء. كانت هذه الرؤية في تحرير أجساد النساء هي المحور الرئيسي للموجة الثانية للنسوية، والتي بدأت في أوائل الستينات واستمرت ما يقرب من عقدين. سعت هذه الموجة إلى زيادة المساواة للمرأة من خلال البناء على المكاسب النسوية السابقة خلال الموجة الأولى، والتي ركزت على  المطالبة بالمساواة بين الجنسين في القوانين فيما يخص حقوق التصويت وحقوق الملكية. أما الموجة الثانية للحركة النسوية فسعت لتوسيع نطاق المساواة بين الجنسين فيما يخص  الجنسانية والأسرة ومكان العمل.

رأت هؤلاء النسويات أن هذه الخطابات الأبوية ترى المرأة  جسدا “وإذا كانت المرأة جسدًا، فإن المرأة هي تلك الصورة السلبية، مهما كانت: إلهاء عن المعرفة، أو الإغواء عن طاعة  الله، أو استسلام الرغبة الجنسية، أو حتى العنف أو العدوان وفشل الإرادة حتى الموت” (بوردو في أنتوني ويونج 16). وفي  معارضة لهذا الخطاب الأبوي، يهدف الموقف النسوي إلى تحدي عرض الرقص الشرقي كوسيلة لإثارة الرجال جنسيًا وتقديم المرأة كسلعة للمتعة الذكورية. ففي “حركة الرقص الشرقي”، تستخدم النساء الرقص كأداة تمكينية من أجل “التحرر الشخصي والجنسي” (أنتوني ويونغ 17).

هذا النهج النسوي لم يكن مقبولًا في المجتمع  المصري في  السبعينات وما بعدها حيث سيطرت الثقافة المحافظة ولكن حتى في أكثر الفترات تحررًا كما يدعى وهي فترة  الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي. وهنا أذكر مثلًا  النسوية وأول امرأة مصرية تحصل على درجة الدكتوراه  من السوربون درية شفيق (190- 1975). كانت شفيق  معروفة بجمالها وأناقتها حتى أنها أول امرأة مصرية مسلمة تتحدى الاعراف والتقاليد في مجتمعها المصري بمشاركتها في مسابقة ملكات الجمال التي أقيمت في الاسكندرية عام  1935. شفيق المناضلة ضد الاستبداد بكل أشكاله والتي وقفت وحدها أمام الرئيس جمال عبد الناصر فأطلقت عليها  الصحف الأوروبية “الرجل الوحيد في مصر”. كانت شفيق  تواجه حربًا إعلامية ضارية ضدها ولكنها لم ترد حتى ظهرت في مقال تم فيه وضع رأسها على جثة راقصة شرقية. أهان شفيق ذلك وحثها على الرد على انتقادات الصحافة لأول مرة. تروي هذه الحادثة بعد ثلاثين عامًا بنفس الغضب، فتكتب “رأسي كان فوق جسد راقصة شرقية في وضع فاحش للغاية. كانت فيه إشارة ابتزاز. إنها أسوأ دعاية لقائدة نسوية مسلمة! وبالفعل فإن الراقصة كانت تمثل الفجور في الثقافة الاجتماعية المصرية رغم  خطاب التحرر والتحديث. فحتى كنسوية عصرية، لم تقف شفيق ضد النظام الأخلاقي السائد فيما يتعلق بالجنس والعلاقة بين الرجل والمرأة خارج الزواج (نيلسون 260).

ورغم  أنه  هناك  محاولات لتقديم  الرقص الشرقي كشكل من أشكال الفن (فرق رضا والفرقة القومية مثالاً) وتخليصه  من الصورة النمطية كأداء ينتمي إلى الثقافة الشعبية “الدنيئة” والتي يجب أن تظل كشكل من أشكال الترفيه في النوادي الليلية أو المناسبات الاجتماعية مثل حفلات الزفاف فقط إلا  أن الخلاف حول الرقص الشرقي وحضوره في المجتمع  المصري في ازدياد خصوصا مع انتشار الثقافة المحافظة منذ السبعينات وحتى يومنا هنا.

ورغم كل ما تقدم من الصراع على حضور الرقص في  المجال العمومي والعلاقة  الجدلية بينه وبين الدين والأخلاق من جهة والرقص الشرقي والغرب من جهة أخرى، فهناك نوع من الرقص اشتهر في الدين الإسلامي وهو الرقص الصوفي أو رقص الدراويش الذي يعتمد حركة الجسد مع  الموسيقى ليصل المتصوف إلى حالة من التخلي عن الذات والوصول إلى مصدر الكمال أو “الكرمة”.  ويعتبر كل من الموسيقي  والرقص الأساس للوصول إلى هذا الحب الإلهي . يقول  جلال الدين الرومي (مؤسس الطريقة  المولوية أو الدراويش  الراقصون في القرن الثالث عشر الميلادي): “من  دون  الحب كل الموسيقي  ضجيج، ومن دون الرقص جنون”.

ورغم أن الاتجاه الصوفي والذي تعتبره بعض الفئات المتشددة بدعة وخروجا عن قيم الدين الإسلامي، يركز على  الروح دون تمييز بين ذكر وانثى إلا أنه حتى هذا  الرقص الروحاني يحتكره الرجال  كذلك في حلقات تعبدهم الصوفية ولا يسمح للنساء في العادة القيام بها معهم أو حتى بمفردهن في الأماكن العامة. فماذا عن الراقصات الصوفيات النسويات! تمكن هنا الاشارة إلى رنا جرجاني وهي راقصة صوفية فرنسية من أصول إيرانية، تخرجت من أنثروبولوجيا الرقص وعلم الموسيقي العرقية. تعلمت رنا الرقص في السر في  إيران وقررت أن تخرق القاعدة وتعيد الرقص كطقس للتعبد كما يستخدمها الرجال الدراويش. بدأت رنا في تقديم جلسات  الرقص الصوفي عبر خاصية الزووم التي انتشر استخدامها  بعد انتشار وباء كورونا، ولكنها ترى أنه لا يزال من  الصعب عرضه  في  بلد إسلامي كتركيا والتي تعد مركز رقصات الدراويش. تقول رنا في فيديو لها مع قناة العربية منذ عام، أنه حين دعيت مؤخرًا لتقديم استعراضاتها طلب منها ألا تصرح بأن  هذا رقص صوفي. تمارس رنا الرقص الصوفي  في فرنسا وتعتقد أنها محظوظة لكونها تعيش في دولة علمانية تسمح لها بحرية ممارسة هذه الرقصة الصوفية.

أخيرا وبالعودة إلى سؤال رقص المرأة وتحريرها من العبودية في العصر الحديث، يظل الرقص الشرقي أمرا جدليًا بين من ترى أنه يعتبر تمكينا للمرأة من حقها في السيادة على جسدها الذي ترى أن الرجل الشرقي/المسلم قد سلبها إياه ومنعها من الرقص في المجال العمومي أو أجبرها أن ترقص له وحده. فالمرأة حرة أن ترقص حين تشاء وأين تشاء حتى  لنفسها، وبين رأي يرى الرقص الشرقي وسيلة لإغواء الرجل وتمكين المرأة من الرجل، وبين نظرة ثالثة ترفض رقص المرأة بمفردها تماما وتعتبره رمزا لتسليع جسد الأنثى.

مصادر

(أغسطس 2022) . أنا  حوا .. حسيت إني رخيصة.. زوجة في دعوة خلع: ”جوزي المحترم عايزيني أرقص له”

https://www.anahwa.com/289974

ثابت ياسر حروب  الهوانم. دار اكتب  للنشر والتوزيع. 2015.

جرجاني رنا: راقصة صوفية تخرق القاعدة وتمتهن رقصة احتكرها الدراويش. يوتيوب.

https://www.youtube.com/watch?v=NZPisAUXxUg&t=36s

منى برنس.. فصل الأكاديمية المصرية من وظيفتها بسبب فيديوهات رقص (سبتمبر 2022) بي  بي سي عربي.

https://www.bbc.com/arabic/tv-and-radio-62894747

يحيى، شذى: الإمبريالية والهشك بشك: تاريخ الرقص  الشرقي . دار ابن  رشد. 2020.

Anthony, Shay and Young, Barbara Sellers. “Belly Dance: Orientalism-Self-Exotocism-Exotocism”. Dance Research Journal 35, n.1, 2003, pp. 13-37

. Bloom, sol.  The Autobiography of Sol Bloom, New York: Putnam House, 1948.

Carlton, Donna. Looking for Little Egypt. Bloomington, Indiana: International Dance Discovery Books.1995.

Cortés, Maicol A. “The Significance of the Inanna/ Ishtar Myth in Revelation 17”.Theologika 34, no. 2 (2019): 60-79.

Flaubert, Gustave. Flaubert in Egypt: a sensibility on tour: a Narrative Drawn from Gustave Flaubert’s Travel Notes & Letters. Chicago, IL : Academy Chicago Limited. 1979.

Lane, Edward William. The Thousand and One Nights. London: Charles Knight and Co.1839.

Mernissi, Fatima. Scheherazade Goes West: Different Cultures, Different Harems. New York: Washington square press, 2002.

Nelson, Cynthia. Doria Shafik: Egyptian Feminist: A Woman Apart. University Press of Florida; 1996.

“No More Midway Dancing; Three of the Egyptian Girls Fined Each. Manager Delareix, Disgusted at New-York’s Benighted Taste, Declared He Would Seek a More Cultured City–By Evening He Had Thought Better of It, and His”. The New York Times. 7 December 1893.

Said, Edward. Orientalism. New York: Vintage Books, 1978.

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.