الركوة

الجمعة 2019/03/01
لوحة: محمد خياطة

الركوة التي أعد بها قهوتي منذ عشرين عاما جاءتني من أبي، الذي ورثها من جدي، الذي جاءته مع الأشياء التي تركها له أبوه؛ أبوه الذي مات إثرَ نوبة غضب عارمة. وكلما وقفت صباحا أحرك القهوة وأنظر إلى فقاعاتها السوداء تنتفخ وتنفجر في القعر العتيق، تظهر لي من خلف الزمن صورة ذلك الجد البعيد، وفي كل مرة يكون وجهه مختلفا عما سبق، وفق مزاجي الصباحي المتقلب. إلا أن لوزة الغضب وقد انعقدت بين حاجبيه لم تكن تفارقه، فكأن الزمن، ومن شدة ما كان الرجل غضوبا، لم يستطع أن يُبلي علامة الغضب في وجهه وظلت ملازمة لذكراه إلى أبد الآبدين.

كنت وأنا أنظر إلى غليان القهوة أتخيله واقفا أمام البائع الذي اشترى منه الركوة. وكعادة البائعين الأوائل، كان يفرش بضاعته على الأرض ويجلس محادثا جاره، مهملا بضاعته فكأنها لأحد غيره.

“سم عليك” يقول جدي وهو يقصد “السلام عليكم” ولكنه يقضم الكلمات التي ينالها هي الأخرى شيء من طبعه الحار. “تفضل عمي” يقول البائع وقد تذكر بضاعته فجأة وقام يُفاخر بها. يرميه جدي الأكبر بنظرة نارية كمن يقول “وهل بنيت على أمك لأصبح عمك” لكنه بدلا من ذلك، ولأن لسانه ليس بذيئا، يترك أوداجه تنتفخ وتتحول لوزة غضبه إلى جوزة مستديرة ووعرة تكاد أن تسقط من جبينه، ثم يشير إلى البائع بسبابة يمدها كالسهم إلى أصغر ركوة في كومة الأواني وأكثرها بؤسا “هذه”.

يأخذ الجد ما اشتراه وينطلق إلى بيته، وأبعد ما يكون عن الشارع الذي لا يطيقه. يُقال إنه استخدم الركوة في ضرب رؤوس زوجاته الأربع وأبنائه العشرة أكثر من تحضير القهوة بها. معه الحق كله ذلك الجد، فأنا نفسي، وكلما أمسكت بذراع الركوة الطويلة، تحركت في داخلي رغبة لضرب أحدهم على رأسه.

تكبر رغوة القهوة في الركوة فأطعنها بالملعقة وكأني أفقأ عين الزمن وأطوي صفحة جدي الأكبر الذي اشترى الركوة لأنتقل إلى جدي الأصغر الذي ورثها.

كان هذا الجد الآخر ميسور الحال، أخذ من أبيه الراحل حبه الشديد للزواج، فكان بيته لا يخلو من أربع زوجات؛ يطلق واحدة اليوم لتدخل الجديدة في الغد. تموت هذه وتنبعث أخرى بعد العزاء. وحين مات أبوه، أخذ قسمته من الميراث وحِزمة من أشيائه كانت من بينها هذه الركوة التي سرعان ما وجدت مكانها في أحد رفوف المطبخ. كانت نساؤه، وبينهن جدتي، يتحركن في المطبخ ويرسلن نظرة فضولية ومتسائلة إلى ذلك الشيء الصغير صاحب اليد الطويلة، وكانت كل واحدة منهن تحسبه يخص الأخرى. وهكذا، سنة بعد سنة وعقدا بعد آخر، بقيت الركوة في مكانها المنسي: ظاهرة ومتخفية، قريبة وبعيدة، حتى مات الجد الثاني وقد أتم قرنا من عمره.

تتشكل فقاعة بيضاء من روح القهوة السوداء فأطعنها بالملعقة وأعيدها إلى سيرتها الأولى.

أعود إلى طفولتي في بيت أبي الذي لم يرث من جده حبه للنساء ولم يحصل على المال من أبيه، لا ولا أي شيء آخر يستحق الذكر. أتذكر الطشت المعدني الذي كنا نستحم فيه أنا وأخوتي وأخواتي وذلك الإناء ذا المقبض الطويل الذي تستخدمه أمنا لنزف الماء وسكبه علينا. كان حجمه مناسبا لهذه المهمة: لا هو صغير جدا فيعجز عن غسلنا ولا كبير ليهدر ماءنا. وكان يختفي زمنا فلا نعود نراه ونكاد ننساه، ولكنه يظهر من جديد في يد أمنا، فجأة مثلما اختفى، فكأنه، وبعد أن فقدنا الأمل في البحث عنه، يعود طواعية للتواجد بيننا.

ولا أعرف كيف علق بأشيائي وانتقل معي إلى بيت الزوجية. حقا لا أعرف، ولكني حين رأيته، ابتسمت بيني وبين نفسي وأمسكته من يده الطويلة وقربته من أدوات مطبخي.

اليوم، وككل يوم منذ عشرين عاما، كلما رأتني زوجتي أحضُّر قهوتي، تسألني شراءَ ركوة جديدة بدلا من هذا الشبح القبيح. ترتعش يدي الممسكة بيد الركوة وتستيقظ في داخلي تلك الرغبة الدفينة، التي ربما ورثتها من جدي الأول، لضربها بالركوة على قنة رأسها… ولكني أشيح وجهي عنها وأفرغ ثورة غضبي في فقاعات الرغوة المنتفخة في قلب ركوتي.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.