الرواية تزدهر في الاستقرار

الجمعة 2016/04/01

في اعتقادي أن ليس على الرّوائيّ أن يكتب روايات في لحظة الدّم، وإنما من واجبه أن يفهم الواقع ويتأمّل التحولات ويسجل الأحزان ويدوّن المآسي، لأنه سيحتاج إلى هذه “الكنوز المأساوية” فيما بعد، فالتاريخ يقول لنا إن فترات الاضطراب الاجتماعي العنيف المكللة بالدّماء الساخنة تنعكس بشكل مؤثر جدًا على الأدب، وأغلب الظن أن هذه الفترات لا تشهد أدبًا رفيعًا متميزًا في الحال، وإنما ينبثق منها أدب اللحظة، أدب ردّ الفعل السريع كثير الحماسة المتوهجة، قليل الإبداع الجميل.

حدث ذلك في فترة الثورة الفرنسية التي اندلعت في عام 1789، حيث تراجع الأدب الجاد العميق لمدة تقترب من عشر سنوات كما لاحظ بحق طه حسين، وتكرر الأمر نفسه مع اشتعال الثورة الروسية في عام 1917، إذ خَفُتَ صوت الأدب المتفرد تمامًا أو كاد، حتى أن مفكرًا ثوريًا وناقدًا لافتًا بوزن تروتسكي قال إننا بصدد انبعاث جديد للأدب يتجاوز الآداب كلها التي ظهرت في أزمنة الإقطاع والرأسمالية، ولعلك تتذكر أن الأدب الروسي العظيم الذي تألق كتّابه في القرن التاسع عشر تراجع بصورة مؤسفة مع اندلاع الثورة الروسية وما تلاها من سنوات دامت طويلًا.

أما إذا انتقلنا إلى واقعنا العربي، وسأضرب مثلًا بثورة 1919 في مصر، والتي رفعت شعار “الاستقلال التام” عن الاحتلال الإنكليزي، ذلك الاحتلال الذي قاوم الثورة بعنف وأسال من دماء المصريين الكثير. أقول لم يكتب المبدعون أدبًا مهمًا في أثناء الثورة وما بعدها، وإنما ظهرت الأعمال الرّوائيّة والمسرحية اللافتة بعد أكثر من عقد، فرواية “عودة الروح” لتوفيق الحكيم صدرت في عام 1933، ونجيب محفوظ استلهم أحداث ثورة 1919 ووقائعها بالتفصيل في أول أجزاء ثلاثيته الخالدة “بين القصرين” التي صدرت في 1956، وهكذا.

لكن عندما تشتعل النيران ويلطخ الدّم شوارع المدن والقرى والأحياء تتجلى فنون وآداب أخرى مثل القصيدة الحماسية، والأغنية الوطنية، تلك الفنون التي تشحذ الهمم وتفضح الطغيان السّياسي أو الاستبداد الدّيني، لكنها غالبًا ما تفتقر إلى العمق والجمال الفني المتميز.

لذا يمكن القول بإيجاز إن الرّوايّة – تحديدًا – فن لا يتألق ويزدهر إلا مع الاستقرار الاجتماعي الخالي من الدّم المستباح، حتى لو كان استقرارًا بائسًا ومملًا ومتخلفًا.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.