السخرية والمواجهة الرمزية للسلطة

يعد العنوان الأساس الذي ينبني عليه النص؛ لأنه يختزل النص برمته ويقدم للمتلقي عنصر إثارة لاقتحامه، فيكون بمثابة اقتراح عقد اتصال بين الكاتب والقارئ، ويبني القارئ من خلاله توقعه للنص ولمضمونه اعتمادًا على صياغته اللغوية والدلالية.

وقد يكون العنوان مختارًا من عنوان أحد القصص الداخلية للمجموعة؛ حيث يدل على المغزى البعيد الذي يهدف الكاتب إلى لفت النظر ناحيته، كما أن اختياره نفسه مرة أخرى يدل على أنه يحمل دلالة أخرى عامة تتصل بمضامين المجموعة كلها، وقد يأتي بوصفه علامة بارزة على موضوع المحكي القصصي المسيطر على جميع قصص المجموعة وهنا يعرف باسم العنوان التجميعي.

وكذلك قد يحيل العنوان على مضمون النص، ويسمى في هذه الحالة عنوانا تيماتيا أو موضوعاتيا، وقد يحيل على شكل النص أو جنسه الأدبي وهنا يسمى عنوانا إخباريا أو خطابيا. ويندرج عنوان المجموعة القصصية “ 24ساعة مسخرة” للكاتب المصري منير عتبية تحت العنوان التجميعي التيماتي؛ حيث يقدم عددًا من المحكيات القصصية المنتقاة بعناية تشكل بناء محكما يعكس رؤية الكاتب وموقفه تجاه قضايا المجتمع الاجتماعية والسياسية.

فعلى المستوى التركيبي، يتكون الجهاز العنواني من ثلاثة دوال “24 ساعة مسخرة”، أما على المستوى الدلالي فتتضح قصدية الكاتب في صدم المتلقي بمواجهته المباشرة بدال “مسخرة” الذي هو في المعاجم “كل ما يجلب السخرية”. وهنا نجد حضورًا لما يمكن تسميته بالقيمة المهيمنة، وهو أن تهمين وظيفة من وظائف العنوان على الوظائف الأخرى دون أن تلغيها، وهي في هذه الحالة الوظيفة الإغرائية؛ حيث من ناحية يحدد له غرابة مسار تلقي النص ويقدم له عنصر إثارة لاقتحامه.

وقد تواصلت محكيات المجموعة القصصية مع مدلول العنوان؛ حيث جاءت جميعها في بنى مفارقة تتخذ من السخرية أداة أساسية للتعبير، بداية من الجهاز العنواني مرورا بتشكيل الشخصيات، وانتهاء بالبناء المفارق للحدث نفسه. وذلك من خلال المفارقات القائمة على جهل الضحية مقابل معرفة المتلقي، والتناقض أحيانا بين الحدث المتوقع والحدث الداخلي المقترح، ووجود بنيتين داخل النص بنية الحدث الظاهرية وأخرى عميقة.

فالقول المستخدم بالمحكيات القصصية في المجموعة جاء متضمنا معنىً خفيًا نقيض المعنى الظاهر الذي يشتمل عليه هذا القول، وأحيانا تضمن تأكيدا لهذا المعنى وشدد على أهميته. وذلك لرفض ظواهر معينة في المجتمع، أو قيم معينة قد تكون اجتماعية أو أخلاقية أو روحية أصبح لها فهمها المغلوط.

نلمس ذلك في قصص المجموعة التي اهتمت بإلقاء الضوء على قضايا المجتمع المعاصر وخطاباته الفاعلة والمحركة لأحداثه، ورصد أنماط شخوصه وانتماءاتها الاجتماعية والسياسية وتحليل المشاعر التي تعتمل داخلها من يأس واغتراب وحتى رغبتها في التعايش مع تلك المشاعر رغم إدراكها لسيطرة بعض الفئات على الأخرى.

الشخصيات باعتبارها نماذج فاعلة

كما هو معروف، يختلف بناء الشخصية في الرواية عنه في القصة القصيرة، لأن الفضاء الروائي يسمح للشخصية أن تكشف نفسها بوضوح ويستطيع الراوي أن يتابع تطورها ويكشف عن مواطن قوتها وضعفها خلافا لبنية القصة القصيرة القائمة على محدودية في الزمان والمكان وتكثيف تشكيل الشخصيات وبيان أبعادها.

هنا تتم مقاربة الشخصية – في المجموعة – وفق النموذج العاملي؛ أي عبر تصنيف مجموعة من الأدوار التي نصادفها في الحكاية؛ والعامل يمكن أن يكون ممثلا بأكثر من ممثل، وليس بالضرورة أن يكون شخصا، فيمكن أن تكون العوامل ذوات بشرية أو غير بشرية لكنها فاعلة ومؤهلة للمشاركة. وفي هذه الحالة تتخذ الشخصية وفق هذا المستوى العاملي مفهوما شموليا مجردا، ويهتم الكاتب بالأدوار أكثر من اهتمامه بالذوات المنجزة لها.

وتشكل الشخصية في القصة بديلا منبها للشخصية الواقعية، تعكسها وتتجاوزها، وتعبر عنها ليس باعتبارها شخصية فقط، إنما كفئة أو وظيفة، حيث أنها تساعد على قراءة الواقع وفهم العام من خلال الخاص. ومع ذلك يمكن الوقوف على بناء الشخصيات في المجموعة من خلال مدخلين: الأول طرق تقديم الشخصيات، والثاني تصنيف الشخصيات.

وتقديم الشخصية هي الكيفية التي يتم بها خلق الشخصيات وبناء وجودها في المحكي القصصي، ومنها طريقة الإخبار(المباشرة) وهي الطريقة التي يخبر من خلالها الراوي أو بعض الشخصيات عن صفات الشخصية وطباعها، مثل الوصف الجسدي للشخصية والوصف النفسي، كما وجدنا في شخصية الشيخ صبحي في قصة “الملقن“، ووصف لشخصية السندباد والقزم في قصة “مريد السندباد“.

والطريقة الثانية هي طريقة الإظهار أو الكشف (غير مباشرة)، وفيها يمنح الكاتب الفرصة للشخصية للتعبير عن نفسها ولكشف أبعادها النفسية والاجتماعية بعيدا عن أيّ مؤثرات، وهي الطريقة الغالبة في المجموعة القصصية؛ حيث يبتعد الكاتب عن عمله ويترك المجال للشخصية لتكشف عن نفسها إما عن طريق الحوار – داخلي أو خارجي – أو عن طريق فعل الشخصية وسلوكها في بعض المواقف.

أما المدخل الثاني فيتحدد في تصنيف الشخصيات، وفي هذا الطرح واستجابة لمحددات بنية القصة القصيرة، لا يتم اللجوء إلى تصنيف الشخصية من حيث المساحة رئيسة أو ثانوية، ولا من حيث البناء نامية أو متطورة أو ثابتة، بل يكون من المناسب أكثر الحديث عن الدور أو الوظيفة أو نمط الشخصية. ويمكن التعامل مع العناوين الداخلية للمجموعة القصصية باعتبارها المؤشر البدئي والدال الأول على طبيعة الشخصيات ونمطها وتكوينها ودورها الاجتماعي، مثل عناوين قصص: “الملقن” – “المرشح” – “الندواتي” – “المتحرش”.

ومن هذا المنطلق نجد أن أغلب الشخصيات/العوامل قد جاءت في دور الضحية مقابل سلطة مهيمنة أو خطاب مسيطر؛ فالمرأة ضحية الرجل الذي هو بدوره ضحية لخطاب مجتمعي، والجاهل ضحية للمثقف الذي هو بدوره ضحية لخطاب مؤسسي، والمرؤوس ضحية للرئيس (أيا كان دوره) الذي هو بدوره ضحية لخطاب سياسي، الرجل العادي ضحية للمتدين الذي هو بدوره ضحية لخطاب ديني مؤدلج، إجمالا نجد أن الهامش ضحية للمركز طالما كان هذا المركز يمتلك سلطة المعرفة. وهنا يكون الخطاب عاملا من العوامل الفاعلة والمشاركة بالنص في مجمله، وهو ما يستدعي الانتقال من النمذجة البنيوية إلى المقاربة الثقافية.

المقاربة الثقافية للمحكيات القصصية

اهتمت المجموعة ببيان مدى تواطؤ المعرفة مع السلطة/القوة. وهنا نستدعي أفكار ميشيل فوكو وتحليلاته التي تكمن في البعد المعرفي لعلاقات السلطة وتوازنات القوى داخل مكونات الخطاب؛ وسعيه إلى تفكيك خطاب السلطة عن طريق المعرفة والجنسانية والسجن والجنون.

حيث بيّن فوكو أن السلطة تحاول امتلاك المعرفة لكي تستطيع التسلط والهيمنة؛ فنموذجا السلطة والمعرفة لديه يوضحان أن كلاّ منهما ينتج الآخر ويؤثر فيه بشكل واضح، فالمعرفة تنتج السلطة، وفي الوقت نفسه تحتاج السلطة إلى خطاب معرفي يضمن بقاءها ويعزز دورها في توزيع القوى والوظائف والأدوار الاجتماعية، وتحديد شروط حركتها وإنتاجها، ووضع خطاباتها الثقافية وانتماءاتها.

ويتضح ذلك في المجموعة القصصية عبر توظيف عدد من الخطابات التي تحرك الأحداث والشخصيات معا، مثل الخطاب السياسي والخطاب الديني والخطاب الذكوري وكذلك الخطاب الرقمي، ولم تقف تلك الخطابات عند التصورات اللغوية أو اللسانية، بل كانت من آليات الهيمنة الأساسية التي توزعها السلطة على النسيج الاجتماعي، ومن هنا يكون الخطاب عملية إخضاع للمجتمعات عبر إجراءات المراقبة والانتقاء والتنظيم وإعادة التنظيم وتوزيع الأدوار.

فجوهر السلطة لدى فوكو هو أنها مجموعة من علاقات القوى، تدخل في حالة صراع وتوتر، ويكون هدفها “تنظيم مجال العلاقات الاجتماعية في المجتمع، وتحديد الأطر التي يتحرك داخلها الأفراد، ومن هنا تكون أجهزة الدولة ليست إلا أداة لإدارة هذا الصراع”.

مثلما وجدنا في المدرسة في قصة “سبعة دروس في الحب“، والمسجد أو الكنيسة في قصة “المسلماني دخل المسجد“، وكذلك دوائر الترشح السياسية في قصة “المرشح“؛ فلا يوجد شكل واحد للسلطة، بل سلطات جزئية أطلق عليها فوكو “البنيات الصغرى للسلطة” تتحدد وظيفتها في مراقبة الأفراد في فضاءات أصغر وتشكيل وعيهم وفق منظومة محددة من القيم.

إذ تكمن أهمية الطرح الفوكوي الذي نستند إليه في بيان الكيفية التي تمكن إرادة السيطرة في تحقيق هيمنتها مرتكزة على خطاب معرفي يوهم بالحقيقة. ويكون الخطاب في المجموعة القصصية من ضمن أدوات السلطة للامتلاك والتحكم ووسيلة لإخضاع المجتمعات عبر إجراءات “المراقبة والانتقاء وتوزيع الأدوار” وفق المصطلحات الفوكوية.

الملهاة الإنسانية

جاء النص الأخير في المجموعة القصصية في صورة بياض؛ فقد وظف الكاتب الفراغ الكتابي واكتفى، بعد عنونة نصه الفارغ بـ”مساحة حرة“، بتحرير نص إرشادي للقارئ جاء في صورة تركيب فعلي وصيغة الأمر الطلبي “اكتب ملهاتك”، تبعه فراغ نقطي تركه للقارئ كي يكمل الملهاة الإنسانية التي عرضها الكاتب في المجموعة القصصية بملهاته الخاصة.

وقد انسحب هذا النص على نصوص المجموعة القصصية بأكملها، وبرّر مدلول السخرية النابع من دوال الجهاز العنواني، فمن المعروف أن الملهاة هي الوجه المقابل للمأساة، فإذا كانت المأساة لدى أرسطو هي محاكاة الفعل، أو رد فعل لموقف جاد حدث بشكل درامي بحت؛ إذ أنها تتمحور داخل نطاق المسرح التراجيدي، الذي يحمل موضوعًا معينًا من شأنه أن يبعث الحزن والتأثير لدى المتلقي، فإن الملهاة هي محاكاة لفعل جاد لكن بطريقة ساخرة، حيث تسعى إلى تناول المشكلات وطرحها من خلال تقديم مجموعة من الأفعال التي تهدف إلى عرض النقائض الإنسانية، بقصد تصوير البشر في مواطن ضعفهم ونقصهم.

ويمكن القول إن المجموعة القصصية قد جمعت بين النوعين معا، فجاءت المحكيات القصصية في صورة ملهاة مأساوية، هدفت إلى إثارة الضحك من قصور بعض الشخصيات وجهلها بالوقوع ضحايا في أخطاء معينة، لمحاولة تشكيل وعي يساعد على عدم وقوع الآخرين فيه.