الشاعر المغلوب
كان عصره مليئاً بالمتاعب والاضطرابات، واقترن سقوط الإمبراطورية المغولية وانتهاء تاريخ طويل امتد لقرون، بانتهاء تاريخ أجداده النبلاء من الأتراك السلاجقة الذين هاجروا من سمرقند إلى الهند في زمن الإمبراطور «محمد شاه»، وحارب جده لأبيه في فترة ضعف الإمبراطورية وانتصر وهو لا يملك سوى خمسين فارساً وراية وفرقة موسيقية، كما اقترن بانتهاء حياته إذ توفّي بعد سنوات قليلة من موت آخر حكام الهند المسلمين «بَهادُرشاه ظفر» في بورما حيث كان منفياً من قبل الإنكليز.
الشاعر الذي لم يرث سيف أجداده صنع مجداً يضاف إلى أمجادهم بعد أن استبدل السيف بالقلم، إلا أن القلم لم ينقذ صاحبه العظيم من البؤس ولم يعنه على تحمل الفاقة والصبر على الفقر، فذلّ القلم وكتب كلمات المدح والاستجداء للملكة فيكتوريا من أجل إعادة المخصصات المالية للشاعر، وعلى الرغم من ذلك لم تعد الأموال وكان الذل مجانياً.
وفي زمان لا يقيم للشعراء وزناً، جاع فيه الجنود وكاد الملوك يتسوّلون، أخذ «ميرزا أسد الله خان بيك غالب» يتقلب وسط الأهوال، ولم يكن يبالغ حين قال إنه قد رأى الأهوال كلها ولم يبق إلا أن يموت، فقد بدأت المأساة مبكراً وتفتّح وعيه على الفقد، إذ لم تدم أوقات الهناءة سوى خمس سنوات بعد ولادته في «آغرا» مهد الثقافة الإسلامية، وانتهت بمقتل أبيه ليرعاه عمه لمدة ثلاث سنوات ثم يُقتل، فترعاه عائلة أمّه التي تنتمي أيضاً إلى النبلاء وتقوم بتدليله دلالاً كبيراً فيعتاد الدعة وحياة البذخ، كما تقوم بتعليمه تعليماً رفيع المستوى كما كان سائداً في المجتمع المسلم في شبه القارة، فتلقى تعليماً فارسياً عربياً واحتفظ بثقافة أجداده وتقاليدهم التركية الفارسية إلى جانب ثقافته الهندية ولغته الأم «اُردو» التي كتب بها معظم أعماله.
تم تزويجه وهو في عمر الثالثة عشرة من إحدى فتيات العائلة وكانت في الحادية عشرة من عمرها، وعندما بلغ الخامسة عشرة انتقل إلى دلهي ليبدأ الشقاء بلا هوادة وتنهمر الآلام بلا توقف، فينجب سبعة من الأطفال لم يعش أيّ منهم لأكثر من خمسة عشر شهراً، ويكون على الشاعر أن يعاني القلق والحزن والفقد المتكرر ودفن الأطفال. ثم يُقتل شقيقه يوسف أثناء حصار دلهي، وتموت عشيقته التي كانت تتغنى بأشعاره ومعها عرف الحب، فيكون البكاء على قبرها بديلاً عن لحظات الحب التي كانت تمنحه الحياة، وتتصاعد الآلام وتشتد الخطوب السود إلى أن يرى جثث الرجال تتدلى من المشانق المعلقة على الأشجار وكأنها تُثمر موتاً.
كان الشاعر الوسيم الساحر ينثر حروفه دُراً فوق الأوراق بينما يغرق في البؤس حتى وصل إلى القاع، فقد بدأ الأمر بالاستغناء عن الخدم والنبيذ الفرنسي، ولم يعد يتناول ثمار المانجو التي كان مولعاً بها وكانت تمده بسعادة وكأنها تحوي كافة الشهوات، إلى أن انتهى به الحال وهو يبيع ملابسه من أجل الحصول على الخبز، وقال عن ذلك ساخراً إنه يخشى أن يموت عرياً من الجوع. وسط ذلك البؤس كان يكتب ولم يتوقف عن الكتابة حتى وهو طريح الفراش في آخر سنوات عمره، وكان يكتب الشعر والنثر بالأردية والفارسية ومنح اللغتين أجمل القصائد والغزليات والقطع النثرية رفيعة الأسلوب.
كتب غالب عن السعادة والحزن، والحب والذكرى، عن الأرق الأبدي ونفاد الصبر. وعلى الرغم من أنه كان ينشد الوحدة المطلقة ويتمنى الموت إلا أنه كان شاعر الحب والتعايش، فقد اتسم برقة القلب وكرم الفطرة والرحمة، فلم يبك القتلى من المسلمين والهندوس فقط وإنما كان يبكي الأبرياء من قتلى الإنكليز أيضاً، وكان يقول إن الإنسان لم يصل بعد إلى درجة الإنسانية.
وكمن يتقلب بين اليأس والرجاء، قال غالب «إن أشعاري التي لا يقرأها أحد الآن، سيتم تمجيدها بعد وقت طويل من موتي»، وفي الوقت نفسه أوصانا قائلاً «وأينما قرأت اسمي فامحه واكتب مغلوب».