الشاعر‭ ‬المغلوب

الخميس 2017/06/01
تخطيط: حسين جمعان

كان ‭ ‬عصره‭ ‬مليئاً‭ ‬بالمتاعب‭ ‬والاضطرابات،‭ ‬واقترن‭ ‬سقوط‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬المغولية‭ ‬وانتهاء‭ ‬تاريخ‭ ‬طويل‭ ‬امتد‭ ‬لقرون،‭ ‬بانتهاء‭ ‬تاريخ‭ ‬أجداده‭ ‬النبلاء‭ ‬من‭ ‬الأتراك‭ ‬السلاجقة‭ ‬الذين‭ ‬هاجروا‭ ‬من‭ ‬سمرقند‭ ‬إلى‭ ‬الهند‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الإمبراطور‭ ‬‮«‬محمد‭ ‬شاه‮»‬،‭ ‬وحارب‭ ‬جده‭ ‬لأبيه‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬ضعف‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬وانتصر‭ ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬سوى‭ ‬خمسين‭ ‬فارساً‭ ‬وراية‭ ‬وفرقة‭ ‬موسيقية،‭ ‬كما‭ ‬اقترن‭ ‬بانتهاء‭ ‬حياته‭ ‬إذ‭ ‬توفّي‭ ‬بعد‭ ‬سنوات‭ ‬قليلة‭ ‬من‭ ‬موت‭ ‬آخر‭ ‬حكام‭ ‬الهند‭ ‬المسلمين‭ ‬‮«‬بَهادُرشاه‭ ‬ظفر‮»‬‭ ‬في‭ ‬بورما‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬منفياً‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الإنكليز‭.‬

الشاعر‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يرث‭ ‬سيف‭ ‬أجداده‭ ‬صنع‭ ‬مجداً‭ ‬يضاف‭ ‬إلى‭ ‬أمجادهم‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬استبدل‭ ‬السيف‭ ‬بالقلم،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬القلم‭ ‬لم‭ ‬ينقذ‭ ‬صاحبه‭ ‬العظيم‭ ‬من‭ ‬البؤس‭ ‬ولم‭ ‬يعنه‭ ‬على‭ ‬تحمل‭ ‬الفاقة‭ ‬والصبر‭ ‬على‭ ‬الفقر،‭ ‬فذلّ‭ ‬القلم‭ ‬وكتب‭ ‬كلمات‭ ‬المدح‭ ‬والاستجداء‭ ‬للملكة‭ ‬فيكتوريا‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إعادة‭ ‬المخصصات‭ ‬المالية‭ ‬للشاعر،‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬الأموال‭ ‬وكان‭ ‬الذل‭ ‬مجانياً‭.‬

وفي‭ ‬زمان‭ ‬لا‭ ‬يقيم‭ ‬للشعراء‭ ‬وزناً،‭ ‬جاع‭ ‬فيه‭ ‬الجنود‭ ‬وكاد‭ ‬الملوك‭ ‬يتسوّلون،‭ ‬أخذ‭ ‬‮«‬ميرزا‭ ‬أسد‭ ‬الله‭ ‬خان‭ ‬بيك‭ ‬غالب‮»‬‭ ‬يتقلب‭ ‬وسط‭ ‬الأهوال،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬يبالغ‭ ‬حين‭ ‬قال‭ ‬إنه‭ ‬قد‭ ‬رأى‭ ‬الأهوال‭ ‬كلها‭ ‬ولم‭ ‬يبق‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يموت،‭ ‬فقد‭ ‬بدأت‭ ‬المأساة‭ ‬مبكراً‭ ‬وتفتّح‭ ‬وعيه‭ ‬على‭ ‬الفقد،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬تدم‭ ‬أوقات‭ ‬الهناءة‭ ‬سوى‭ ‬خمس‭ ‬سنوات‭ ‬بعد‭ ‬ولادته‭ ‬في‭ ‬‮«‬آغرا‮»‬‭ ‬مهد‭ ‬الثقافة‭ ‬الإسلامية،‭ ‬وانتهت‭ ‬بمقتل‭ ‬أبيه‭ ‬ليرعاه‭ ‬عمه‭ ‬لمدة‭ ‬ثلاث‭ ‬سنوات‭ ‬ثم‭ ‬يُقتل،‭ ‬فترعاه‭ ‬عائلة‭ ‬أمّه‭ ‬التي‭ ‬تنتمي‭ ‬أيضاً‭ ‬إلى‭ ‬النبلاء‭ ‬وتقوم‭ ‬بتدليله‭ ‬دلالاً‭ ‬كبيراً‭ ‬فيعتاد‭ ‬الدعة‭ ‬وحياة‭ ‬البذخ،‭ ‬كما‭ ‬تقوم‭ ‬بتعليمه‭ ‬تعليماً‭ ‬رفيع‭ ‬المستوى‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬سائداً‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬المسلم‭ ‬في‭ ‬شبه‭ ‬القارة،‭ ‬فتلقى‭ ‬تعليماً‭ ‬فارسياً‭ ‬عربياً‭ ‬واحتفظ‭ ‬بثقافة‭ ‬أجداده‭ ‬وتقاليدهم‭ ‬التركية‭ ‬الفارسية‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬ثقافته‭ ‬الهندية‭ ‬ولغته‭ ‬الأم‭ ‬‮«‬اُردو‮»‬‭ ‬التي‭ ‬كتب‭ ‬بها‭ ‬معظم‭ ‬أعماله‭.‬

تم‭ ‬تزويجه‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬عمر‭ ‬الثالثة‭ ‬عشرة‭ ‬من‭ ‬إحدى‭ ‬فتيات‭ ‬العائلة‭ ‬وكانت‭ ‬في‭ ‬الحادية‭ ‬عشرة‭ ‬من‭ ‬عمرها،‭ ‬وعندما‭ ‬بلغ‭ ‬الخامسة‭ ‬عشرة‭ ‬انتقل‭ ‬إلى‭ ‬دلهي‭ ‬ليبدأ‭ ‬الشقاء‭ ‬بلا‭ ‬هوادة‭ ‬وتنهمر‭ ‬الآلام‭ ‬بلا‭ ‬توقف،‭ ‬فينجب‭ ‬سبعة‭ ‬من‭ ‬الأطفال‭ ‬لم‭ ‬يعش‭ ‬أيّ‭ ‬منهم‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬خمسة‭ ‬عشر‭ ‬شهراً،‭ ‬ويكون‭ ‬على‭ ‬الشاعر‭ ‬أن‭ ‬يعاني‭ ‬القلق‭ ‬والحزن‭ ‬والفقد‭ ‬المتكرر‭ ‬ودفن‭ ‬الأطفال‭. ‬ثم‭ ‬يُقتل‭ ‬شقيقه‭ ‬يوسف‭ ‬أثناء‭ ‬حصار‭ ‬دلهي،‭ ‬وتموت‭ ‬عشيقته‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تتغنى‭ ‬بأشعاره‭ ‬ومعها‭ ‬عرف‭ ‬الحب،‭ ‬فيكون‭ ‬البكاء‭ ‬على‭ ‬قبرها‭ ‬بديلاً‭ ‬عن‭ ‬لحظات‭ ‬الحب‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تمنحه‭ ‬الحياة،‭ ‬وتتصاعد‭ ‬الآلام‭ ‬وتشتد‭ ‬الخطوب‭ ‬السود‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يرى‭ ‬جثث‭ ‬الرجال‭ ‬تتدلى‭ ‬من‭ ‬المشانق‭ ‬المعلقة‭ ‬على‭ ‬الأشجار‭ ‬وكأنها‭ ‬تُثمر‭ ‬موتاً‭.‬

كان‭ ‬الشاعر‭ ‬الوسيم‭ ‬الساحر‭ ‬ينثر‭ ‬حروفه‭ ‬دُراً‭ ‬فوق‭ ‬الأوراق‭ ‬بينما‭ ‬يغرق‭ ‬في‭ ‬البؤس‭ ‬حتى‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬القاع،‭ ‬فقد‭ ‬بدأ‭ ‬الأمر‭ ‬بالاستغناء‭ ‬عن‭ ‬الخدم‭ ‬والنبيذ‭ ‬الفرنسي،‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬يتناول‭ ‬ثمار‭ ‬المانجو‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬مولعاً‭ ‬بها‭ ‬وكانت‭ ‬تمده‭ ‬بسعادة‭ ‬وكأنها‭ ‬تحوي‭ ‬كافة‭ ‬الشهوات،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬انتهى‭ ‬به‭ ‬الحال‭ ‬وهو‭ ‬يبيع‭ ‬ملابسه‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬الخبز،‭ ‬وقال‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬ساخراً‭ ‬إنه‭ ‬يخشى‭ ‬أن‭ ‬يموت‭ ‬عرياً‭ ‬من‭ ‬الجوع‭. ‬وسط‭ ‬ذلك‭ ‬البؤس‭ ‬كان‭ ‬يكتب‭ ‬ولم‭ ‬يتوقف‭ ‬عن‭ ‬الكتابة‭ ‬حتى‭ ‬وهو‭ ‬طريح‭ ‬الفراش‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬سنوات‭ ‬عمره،‭ ‬وكان‭ ‬يكتب‭ ‬الشعر‭ ‬والنثر‭ ‬بالأردية‭ ‬والفارسية‭ ‬ومنح‭ ‬اللغتين‭ ‬أجمل‭ ‬القصائد‭ ‬والغزليات‭ ‬والقطع‭ ‬النثرية‭ ‬رفيعة‭ ‬الأسلوب‭.‬

كتب‭ ‬غالب‭ ‬عن‭ ‬السعادة‭ ‬والحزن،‭ ‬والحب‭ ‬والذكرى،‭ ‬عن‭ ‬الأرق‭ ‬الأبدي‭ ‬ونفاد‭ ‬الصبر‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬ينشد‭ ‬الوحدة‭ ‬المطلقة‭ ‬ويتمنى‭ ‬الموت‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬شاعر‭ ‬الحب‭ ‬والتعايش،‭ ‬فقد‭ ‬اتسم‭ ‬برقة‭ ‬القلب‭ ‬وكرم‭ ‬الفطرة‭ ‬والرحمة،‭ ‬فلم‭ ‬يبك‭ ‬القتلى‭ ‬من‭ ‬المسلمين‭ ‬والهندوس‭ ‬فقط‭ ‬وإنما‭ ‬كان‭ ‬يبكي‭ ‬الأبرياء‭ ‬من‭ ‬قتلى‭ ‬الإنكليز‭ ‬أيضاً،‭ ‬وكان‭ ‬يقول‭ ‬إن‭ ‬الإنسان‭ ‬لم‭ ‬يصل‭ ‬بعد‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬الإنسانية‭.‬

وكمن‭ ‬يتقلب‭ ‬بين‭ ‬اليأس‭ ‬والرجاء،‭ ‬قال‭ ‬غالب‭ ‬‮«‬إن‭ ‬أشعاري‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يقرأها‭ ‬أحد‭ ‬الآن،‭ ‬سيتم‭ ‬تمجيدها‭ ‬بعد‭ ‬وقت‭ ‬طويل‭ ‬من‭ ‬موتي‮»‬،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬أوصانا‭ ‬قائلاً‭ ‬‮«‬وأينما‭ ‬قرأت‭ ‬اسمي‭ ‬فامحه‭ ‬واكتب‭ ‬مغلوب‮»‬‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.