الشخصيات الفاعلة
إن الشخصية عموما، وفق فيليب هامون، ليست هوية محددة بشكل قبْلي وثابت، بل تتكون بعملية بناء تتم من خلال القراءات المتنوعة للنص؛ فالظهور الأول للشخصية في السرد يشكل شيئا شبيها بالبياض الدلالي، حيث تدخل الشخصية إلى عالم السرد ببعض النعوت والأوصاف، ثم تبدأ عملية البناء عندما تبدأ الشخصية في التحرك كفاعل للأحداث على مدار مسيرة السرد الحكائي.
وتعتبر الشخصية من المقومات الأساسية لفن القصة، وقد تتحدد موهبة الكاتب بقدرته على سبر أغوار شخصياته وإبراز دوافعها السلوكية وتقديمها بأسلوب شيق يحدد طبيعتها ويبرز ما يسمى بأبعاد الشخصيات (الحسية والنفسية والاجتماعية والفكرية)، وما لهذه الأبعاد من تأثير على سلوك الشخصية. ولذلك، فإن الحدث يستحيل أن يوجد بمعزل عن الشخصية؛ لأن الشخصية هي التي تُسخر لإنجاز الحدث، وهي تخضع في ذلك لتصورات الكاتب وتقنياته وإجراءاته وأيديولوجيته وأسلوبه.
استطاعت الكاتبة هبة الله أحمد أن تبرز أهمية الشخصية ودورها الرئيس في نجاح النص الأدبي وتميزه في مجموعتها القصصية “النّوّالة” (2020). وقد لفتت الكاتبة النظر إلى أهمية الشخصية في البناء السردي للمجموعة بداية من نسبة عنوانها التجميعي إلى إحدى شخصيات القصص، وهي “النّوّالة”؛ أي المرأة التي تتغلب على غدر الزمن بنسج الخيوط على النول، في إحالة رمزية إلى شخصية “بنيلوب” بالملحمة الإغريقية والتي كانت تتغلب على وحشة انتظار زوجها “أوديسيوس” الغائب بحرب طروادة وإبعاد خاطبي ودها إلى حين عودته بحياكة الثياب ثم فك نسيجها.
وكذلك اتضحت تلك الأهمية الممنوحة للشخصيات من الإهداء الخاص الذي وجهته الكاتبة إلى شخصية الجدة بوصفها الناقل الأول للأحداث عبر تكرار حكيها بما يضمن استمراريتها وعدم ضياعها، في إشارة ضمنية إلى الحكي بوصفه فتنة نسوية ترتبط بشخصية المرأة وقدرتها على التقاط التفاصيل الصغيرة وتكوين الحكاية الكبرى في مجملها: “إلى روح جدتيّ: نفيسة الحلبي ومباركة الشافعي… روح الحكايا ومتنها وحواشيها” (ص 5).
وقد أولت الكاتبة أهمية كبيرة إلى تشكيل الشخصية كنموذج بشري يحيل إلى أنماط اجتماعية موجودة في الواقع؛ فجاءت الشخصيات نماذج دالة على مجموع الآخرين، وليست فردية تمثل ذواتها فحسب. ومن هنا، قدمت الكاتبة شخصيات مثل: “المجذوب” و”شيخ الكتّاب” و”مأذون القرية” و”الجدة الريفية” و”المرأة البسيطة” و”الشاب المغترب” وغيرها من أنماط اجتماعية ارتبطت في الأساس بفضاء القرية المؤطر السردي لأغلب قصص المجموعة.
هذا بالإضافة إلى تركيز الكاتبة في بعض القصص، مثل: “ندوب” و”مانيكان” و”مسلسل الساعة الثامنة” وغيرها، على شخصية المرأة وسعيها للانتصار على كل ما يواجه رغباتها أو متطلباتها أو سعيها للتغيير في نمط حياتها أو للتحرر من كافة أشكال التسلط، لذلك احتلت شخصية المرأة حيزا كبيرا من مساحة السرد وفردت ظلالها على الشخصيات الأخرى، فأصبحت أزمتها أزمة عامة تعتري كل النساء اللائي يتعرضن للموقف ذاته.
فالقصة القصيرة فن سردي يقوم على التكثيف والإيجاز والاقتصاد، وهو ما أدركته الكاتبة هنا فحاولت العمل على تفعيل الشخصية النموذج (stereotype) للتعبير عن العلاقات المختلفة بين الشخصيات القصصية من ناحية، والإحالة إلى التحولات الاجتماعية العامة من خلال دور الشخصية في المتن الحكائي الذي عبر من الذاتية إلى الجماعية من ناحية أخرى. وقد تجلّى ذلك بشكل ملموس في شخصية المرأة كموضوع للسرد، وخاصة أن المرأة هي أيضا، في هذه الحالة، منتجة النص.
وبما أن الشخصية هي العنصر البنائي الغالب في المجموعة، فقد جاء تقديم الكاتبة لها، في أغلب الأحيان، عن طريق الحوار(الخارجي أو الداخلي) الذي يُظهر سمات الشخصية وطبيعة سلوكها دون تدخل المؤلفة بالسرد والشرح، فجاء هدف المشاهد الحوارية رسم صورة واضحة للشخصيات ولسلوكها في بعض المواقف ولدوافعها المتباينة. وبالتالي، أضفت المشاهد الحوارية على النسيج القصصي صبغة أكثر جمالية وأكثر إثارة للقارئ.
فعلى سبيل المثال، يقدم لنا الحوار بين “سعد” وجدته في قصة “حورية القيّالة” معالم الشخصيتين، وكذلك يعرض الكثير من العادات والتقاليد الخاصة بالبيئة المكانية والزمانية في الريف المصري، فحقق الحوار بذلك تصعيدا دراميا ملحوظا بالنص، وعمل على جذب القارئ لمتابعة السرد:
“تقول جدته: برضُه هتروح يا ‘سعد’ تحت الصفصافة في القيالة كده! انت مش هترجع إلا أما ‘أم الشعور’ تسحبك في الترعة؟
– وهتعمل إيه يعني يا ستي؟
– تسحبك وتخفيك يومين حداها؛ يا ولدي وتخنقك يا ضنايا؛ عشان ما تبوح بالسر.
يضحك “مستغربا”: إيه يا السر يا ستي؟
– محدش رجع عشان يحكي يا “سعد”. ما تروحش يا ولدي في القيالة هناك.
يبتسم مطمئنا: خليها على الله يا “ستي”.
– يلعن أبو نفوخك يا مخفي… غور من قدامي، لو خَنْقتك، أنا هقطع اللي فاضل منك بسناني” (ص ص 23- 24).
ولذلك يغيب السارد في الكثير من القصص ويتقدم الحوار بين شخصيتين أو أكثر فيصف الشخصيات وهي تتحرك وتتحاور، فإلى جانب الوظيفة المهمة التي يقوم بها المشهد عموما للدلالة على أكثر لحظات السرد توترا وأكثرها أهمية في سير الأحداث، فإنه يقوم بوظيفة أخرى تتمثل في عرض وجهات نظر الشخصيات المختلفة في بعض القضايا المصيرية والتي لم تكن لتتجلى بوضوح إلا من خلال المشهد الحواري.
فنجد الحوار بين المسافرين في قطار المراكز القادم من الإسكندرية إلى القاهرة في قصة “صُحبة” مصورا لسمات الشخصيتين المتحاورتين، بأبعادهما الاجتماعية والحسية والنفسية والفكرية، وكاشفا لأزمتهما الحقيقية المحركة للأحداث التالية بالسرد، والتي كانت حيلة استباقية تمكنت الكاتبة عبرها من السيطرة على القارئ الذي أراد تتبع مصير الشخصيتين ومعرفة بواطن نفوسهما:
– “صباح الخير بالليل، صح النوم يا عمنا.
رددت:
– صباح الورد. احنا فين يا صديقي؟
– “بركة السبع” عدّت. إنت نايم من أيام ‘أدهم الشرقاوي’ ولا معاهدة 36؟
ضاقت عيوني متسائلة، فأوضح رفيقي:
– “أدهم الشرقاوي ده كان من قرية زبيدة مركز تييه البارود ‘إيتاي البارود’ بمحافظة البحيرة، وكان بيسرق من الأغنياء ويدي الغلابة زي حكاية ‘روبين هود’ كده، لحد ما خانه صاحبه بدران زي ما بيقولوا والإنجليز قتلوه. الله يلعن أبو الخيانة، فلو نايم من أيام أدهم الشرقاوي يبقى نايم من تييه البارود “إيتاي البارود”.
ضحكت وقلت:
– لا يا صديقي أنا كنت صاحي في إيتاي البارود” (ص ص 40 – 41).
من هنا، كان من الطبيعي أن تترك الكاتبة الشخصية تتحدث لغتها الخاصة، مما ساعد على الكشف عن طبيعة الشخصية وبيئتها ومكانتها الاجتماعية. وبتداخل السرد بالحوار امتزجت اللغة الفصحى بالعامية بما يكشف عن جوانب مختلفة يتعلق بعضها ببنية الشخصية وبعضها الآخر يتعلق ببنية البيئة، فإذا كانت الكاتبة قد اعتمدت اللغة الفصحى في تقديم الحدث ووصف الزمان والمكان وغيرهما من العناصر البنائية بالسرد، فإن لغة الحوار قد تباينت بتباين طبيعة الشخصية وبيئتها وزمنها، ولا شك أن في ذلك إيهاما شديدا بالواقعية.
فنجد “أم علي الرومية” في “الترسة” تتحدث لغتها العامية البسيطة، و”العرافة الصغيرة” في “بيت النار” تتكلم ببساطة الأطفال، وكذلك “أم سعيد” وأغانيها الشعبية في القصة التي تحمل اسمها، أو “الشيخ عمران” شيخ الكتّاب والجامع الكبير في “سيدنا” الذي تميل لهجته إلى السباب أحيانا، ونجد أيضا اللهجة الدارجة المليئة بالتعبيرات الشعبية والأمثال الرائجة على لسان الجدة في “كاسيت رن” أو زوجة بائع العرقسوس في “شفا وخميس”، وعلى لسان “غنيمة” في “العشة المسحورة” و”خديجة غفارة” في “ساحة الفرح” وغيرهم.
بناء على ذلك، امتلأت القصص بمفردات وتعابير يتعذر فهمها أحيانا، كثُر وجودها، في الأغلب، في المقاطع الحوارية المدارة بألسنة الشخصيات، وإن كانت قد تخللت كذلك لغة السرد نفسه عبر كلمات عديدة موضوعة بين قوسين ومكتوبة بلهجة غير دارجة. فلجأت الكاتبة إلى حيلة الهوامش التفسيرية التي توضح بعض التعبيرات والمصطلحات التي تفيد القارئ في فهم الرسالة النصية وتجاوز الغموض. وقد جاءت الهوامش أسفل صفحة النص وأضافت حيوية جمالية إلى متنه، بجوار الدور التوثيقي الذي حرصت الكاتبة من خلاله على بيان غوامض الكلمات والمفردات والتعليق على المتن، وبهذا خلقت لغة الهامش نصًّا بديلاً وخطابًا موازيًّا لخطاب النص الأصلي.
ومثلما ارتبطت الشخصية بلغتها الخاصة، ارتبطت كذلك ارتباطا وثيقا بفضائها المكاني، فنجد أن المكان في معظم قصص المجموعة يدور حول عالم الريف بعاداته وأفكاره وعلاقات شخصياته. وحتى القصص التي تدور أحداثها في المدن، كانت شخصياتها ترتبط بأصولها المكانية الريفية سواء عبر الاستذكار أو الحنين أو عبر المقارنة بين عالم القرية الأصل وعالم الحضر البديل. وبذلك، لم تنفصل الشخصيات عن ثقافة المكان الأول، فزخرت القصص بالأمثال الشعبية والأغاني الفلكلورية ووصف العادات الريفية في حوار الشخصيات الفاعلة بها.
كما اعتمدت بعض الشخصيات، وبالأخص المنتمية لجيل الأجداد، التفكير الخرافي عند الشعور بالعجز عن حل بعض المشكلات. فكان من الطبيعي أن تكون مفردات المكان الريفي – مثل الساحة والدار والبلد والبندر والكّتاب والجامع الكبير والمضيفة والمندرة وغيرها – هي المفردات الموحية التي تؤسس للوجود المكاني بأغلب القصص وتترك أثرها الواضح في تشكيل الشخصيات وسماتها.
يتكئ العالم القصصي في المجموعة على أجواء أسطورية مميزة سواء على مستوى الحدث أو في بنية اللغة؛ وقد انعكس ذلك الفضاء الأسطوري بوضوح على تشكيل الشخصية وطريقة بنائها، حيث أضفت الكاتبة على شخصياتها بعض الصفات الخارقة التي قد تساعدها في الخلاص من مصائرها المحتومة، وجعلتها تتوسل الأساليب الخرافية وتعتنق الأفكار الغامضة كوسيلة للتغلب على الأزمات. فكان من الطبيعي أن يتجلى التفكير الأسطوري في تعرض الكاتبة إلى القصص الخرافية والحكايات الشعبية التي تعتمد التفكير الأسطوري وسيلة لها، حيث نجد الاعتقاد في الأولياء وكراماتهم وقدرتهم على حماية الأماكن وكذلك التوسل بالنذور لدى الشخصيات لتحقيق المعجزات، ملمحا جوهريا في بنية الشخصيات.
وبالطبع تتضح الممارسات المتعلقة بالتفكير الأسطوري من التبرك بالأضرحة والتشفع بالأولياء ونذر النذور وزيارة المقامات وغيرها من عادات شعبية يلجأ إليها الناس لطلب الرزق أو الزواج أو الذرية مثلا أو توسل الحماية أو الدعاء بالشفاء، في قصص مثل: “العرافة الصغيرة” و”أبو صوابع” و”كاسيت رن” و”قرص الرحمة” و”تحنين” وغيرها. ولعل القصة الأخيرة – أي “تحنين” – قد قدمت وصفا دقيقا للعادات والتقاليد والطقوس التي تسود البيئة الريفية عند وداع الحجاج أو عودتهم من قضاء مناسك الحج بشكل شيق وسلس بعيد عن التعقيد:
“التحنين: أصبح طقسا مسائيا بعد كل الأعمال النهارية؛ استعدادا للسفر… فالبيت نهارا مثل خلية نحل نابضة بالحياة، نحلات من كل بيوت العائلة؛ تعجن، وتخبز الكعك الناشف، وتعد اللحم المقدد، وشوالي اللبن الرائب؛ تتدفق على الدار مع خبز الرقاق؛ مجاملة لجدي ولجدتي “بهية”، ولنوال شيء من بركات الرحلة؛ بالنسبة للتي لم ترزق ولدا بعد،.. فإنها ترجو دعوة صالحة من جدي عند الكعبة، حتى تضم الضنى. ومنهن من تأتي بسُرة فيها بعض القمح، لنثره في “مكة”، حتى تطعم حمام الحِمى. ومنهن من تريد أن تجلب لها كحلا أزرق، تزيد في جلاء النور للعينين” (ص 101).
كما اتضح لجوء الكاتبة في نصوص عديدة إلى مزج الأسطورة بالواقع كمحاولة للخلاص، وكسبيل لنفي الغربة عن الشخصيات وإعادة تواصلهم مع العالم من جديد، فبينما نجد في قصة “حورية القيالة” توظيفا مباشرا وصريحا لأسطورة النداهة (أو أمّ الشعور في القصة) لتجسيد بعض القضايا الاجتماعية والنفسية لساكني الريف، نلحظ في قصة “النّوالة” استدعاء ضمنيا لشخصية بينيلوب الإغريقية من ملحمة الأوديسا كما أشرنا من قبل.
فالنداهة من الأساطير الشائعة في الريف المصري التي تحكي عن امرأة شديدة الجمال تظهر في الحقول ليلا وتقوم بالنداء على الرجال بصوتٍ عذب، فيتبع بعضهم نداءها مسلوب الإرادة فاقد الوعي، وتتنوع نهاية من يستجيب لها ما بين الموت والاختفاء والجنون والهلاوس النفسية، ومن مخزون هذه الصورة الأولية خلقت الثقافات الأخرى تنوعا هائلا من الشخصيات الخرافية التي تتلاقى جميعها في فكرة إغواء المرأة للرجل حتى هلاكه، مثل أمّ الشعور وأمّ الدويس وعيشة قنديشة وغيرها. وقد استدعت الكاتبة ملامح تلك الشخصية الأسطورية بما تحملها من مرجعيات ثقافية وأبعاد فكرية ودلالات رمزية داخل نصها الأدبي:
“تأتي باسمة مع نغمات حقول القمح الذهبية من أثر الشمس، كأنها قشة قمح ترقص مبتهجة بفعل نسمة المغارب. تُقبل أكثر، فيحفُّ طرف طرحتها بكفي.. أنادي:
– استني! رايحة فين؟
تلوّح بيديها، فتتعلق يداها في الهواء، وكذلك يدي التي أحسها تنسحب إليها.
أجري وراءها مشدودا دهشا؛ فأراها تسير على حواف سنابل القمح، وأنا أزحف فوق “عروشه” الهشة، وأراها تنتعل الدم، وتهمس بصوت ناعم أشبه بالفحيح: تعال.. تعال.
تلفح أذني حرارة نفسِها، وهي تناديني، فأنتشي وأنجذب إلى الصوت أكثر.
– سعد .. تعال.. تعال يا سعد”. (ص 22).
وأخيرا، يمكن القول إن بنية الشخصية بالمجموعة القصصية “النّوّالة” كانت من أهم الأدوات السردية البارزة التي لجأت إليها الكاتبة المصرية هبة الله أحمد لتأسيس الأحداث وبناء حدودها المكانية وإطارها الزمني، فكانت الشخصية هي النموذج الفاعل الذي جعل القارئ يفكّر وينتبه ويركز على مجرى الأحداث، حيث كانت سلوكياتها ولغتها وملامحها وطبيعة علاقاتها بذاتها وبالآخرين وكذلك تأثرها ببيئتها المكانية وأثرها فيها، هي أهم ما استحوذ على ذهن القارئ على مدار السرد ودفعه إلى متابعة القراءة في انتباه وتأمل وفضول.