الشعر إشارة المستقبل
وهل للشاعر مهمة واحدة أو اثنتان أو ثلاث.. إلى آخر المُهمَّات المستحيلة التي تبدأ من ذرة الرمل متخلِّلةً العلوم والفلسفة والمجتمع والسياسة، وحتى تخوم الفضاء؟ وهو على الدوام المنشغل بتجربة الوجود (فردياً أو جماعياً) ولا أظنه يفرّق بينهما حين يشعر، فهو الطاحن والمطحون في آن. لا تسألوا الشاعر عمّا يفعل إزاء الموت الجماعي وسقوط القيم وخراب الأوطان؛ بل اسألوا الساسة والمؤسسات الإعلامية والاقتصادية التي تتعبد رؤوس الأموال، ودون رادع تدير وجهها لكل ما هو عقلاني ورحيم. الشاعر ليس جندياً، ولكنه من يذكِّر الناس دوماً بأن الحياة تستحق أن تعاش، وتستحق السلام، تستحق الغناء والرقص والموسيقى.. الشاعر الآن هو من يعوِّض كل طلقة مقذوفة في وجه إنسان بكلمة تُنطق أو تقرأ فلا تنتهي.. (بي تمن طبنجة أحسن الكمنجة) كما قال شاعر الشعب السوداني محجوب شريف. ظل الشعر والشاعر على مدى تاريخهما -وهو تاريخ متجذّر في الوعي الإنساني-ظلّا دائماً إشارةً مُلهمةً للمستقبل؛ بل وظلّا يتنبآن بهذا السقوط المريع للقيم حتى أصبح السقوط نفسه شِعريَّاً من حيث مفارقاته التي تتخلَّق يومياً، بفضل الآلات الإعلامية التي تعكس دائماً أنصاف الحقائق وهي -أي الآلات الإعلامية- ليست مجرَّدة بالطبع من حلقات المصالح ورؤوس الأموال وأوهام الأيديولوجيا. الشعر حرية بذاته، بأصالته، ووجوده، ألا يكفي هذا ليكون ضمير العصور جميعاً؟! والشاعر هو الأكثر وعياً باللعبة اللغوية ما يجعله قادراً على تخطي فخاخ الوعظ والدعاية المجانية لأوهام الساسة والجيوش والحروب التي لا معنى لها سوى استغلال غفلة الإنسان عن حقيقة أنه كائن على هذه الأرض ليبدع ويدفع بالحياة إلى كمالاتها المنشودة. وبذلك يكون الشاعر أخطر اللاعبين في مجال اللغة والتعبير. فبالقدر الذي يتراءى لنا فيه الشعر بأنه قذف في المجهول، تُثْبِتُ قرون من التجاريب الشعرية صدق حدسه، ولكن السؤال الذي يمكن أن يلاحقنا إلى حين: إلى أين سيمضي بنا، وهو الذي يشكّل تعريفه مع كل شاعر وكل قصيدة؟ وهل سينقذ الحياة من يد الاستهلاك إلى أصالة الوجود الإنساني؟ سيظل الشعر يشحذ المخيّلة بكل ما أوتي من محبة لهذا العالم، فالعالم قدره، والمحبّة لسانه.
