الشعر‭ ‬الحال

الخميس 2015/10/01

لا أظن الشاعر معني بسؤال نفسه في أيّ لحظة من اللحظات مهما كانت أهميتها له أو لوطنه أو للإنسانية: ماذا يكتب؟ فالشعر ليس إجابة لسؤال، بقدر ما هو حال وجداني [أقرب للمعنى الصوفي] يمور في صدر الشاعر، نتيجة انعكاس مرآة العالم على مرآته الخاصة‭.‬ وهذا الحال يتوقف وضوحا ودفئا على مدى قدرة المرآة الخاصة على التقاط الدقائق الواقعية، ويث الوهج الوجداني في دقائق الصورة المنعكسة لإكسابها الشاعرية، فإذا كانت الصورة في الواقع أشد وهجا منه في المرآة الخاصة‭..‬ فسوف يقف لسان الشاعر عاجزا عن التعبير‭.‬ وهنا يكون الصمت أبلغ من القصيدة‭.‬

⊇ويتوقف خروج الشاعر من الحال إلى المقال على كثير من الظروف والمتطلبات‭.‬ فقد يشعر الشاعر بتقلب الحال في وجدانه، لكنه لا ينتبه إلى درجة حلوله بمرآته الخاصة‭..‬ فإذا أهمله وتشاغل عنه، تسرّب واضمحل، وذاب كما تذوب كثير من التجارب الشعرية التي لم تكتمل‭.‬ وقد يشعر الإنسان الشاعر بحاله وينتبه إلى درجة الحلول الوجداني، لكنه لا يمتلك الأطر اللغوية والمعرفية التي تستطيع استيعــاب التجربة الشعورية وتحويلها إلى تجربة شعرية، فيقف عاجزا لا يطاوعه لسانه‭.‬ وربما قال أو دون القليل أو الكثير من الأبيات أو من الأسطر الشعرية التي لا تتناسب مع إلحاح الحال عليه، فدسها بين قصاصاته صادفا عنها‭.‬ وقد تتوافر كل الظروف الموضوعية التي أشرنا إليها والتي تنجب القصيدة، لكن غياب الحرية، وربما الشعور بغيابها يعد كافيا لوأد القصيدة‭..‬ والقصيدة العربية أنثى‭..‬ وليس بغريب علينا وأد القصائد‭..‬!

⊇⊇⊇⊇⊇⊇⊇ وإذا حاولنا أن نجيب على التساؤل الافتراضي حول ما يشغل الشاعر وماذا يقول‭..‬؟ فالشاعر ينشغل بكل ما تنقله حواسه من عالم الواقع الذي يعيشه ويعيش فيه إلى مرآته الخاصة، لا فرق بين انفجار قنبلة‭..‬ وضحكة طفلة، لا فرق بين نبتة تشق التراب‭..‬ ومجمع سكني يتساوى بالأرض‭..‬ كلاهما ينعكس على مرآة وجدانه بالشروط التي أشرنا إليها‭.‬ وما أراني كشاعر إلا مبهوتا‭..‬ عاجزا‭..‬! لا أكاد ألاحق ما تنقله إلى حواسي مباشرة أو من خلال الوسائط المختلفة، فعدت [ إذا أصابتني نبال‭..‬ تكسرت النصال على النصال]‭..‬ إن داخل الشاعر العربي اليوم الكثير من الجثث الطافية لقصائد لم تكتمل، لأن وهج الواقع أكثر تأثيرا من وهج الشعور‭.‬ وما نقرأ الآن على الصفحات إلا تجارب مبتسرة، وصور حائلة لما نعيشه‭.‬ أنا كشاعر لم أعد قادرا على مراودة القصيدة، فأنا خجل‭..‬ خجل‭..‬ خجل…

ولا أظن أيضا ـ وبعض الظن ليس بإثم ـ أن الشاعر لديه القدرة على تمييز صوته الشعري قصدا وصناعة، فهذه أمور لا تُصنع، لكنها عملية تراكمية تشتمل فيما تشتمل على عناصر بيولوجية كالمكونات الشخصية، والموروثات العضوية، وتشتمل أيضا على الموروث الثقافي الذي أتاحـــه له مجتمعه ولغته، كما يشتمل بالتأكيد على تلك [الخراف المهضومة التي كونت الأسد] أعني القراءات وعناصر التحصيل الثقافي‭.‬ بل واللغات التي قدمت له ذلك الزاد‭.‬ والتفاعل بين تلك العناصر غير محسوم النتائج‭.‬ فعلى سبيل المثال: الشاعر الذي ينشأ في بيت ربته تعشق الموسيقى، ولا تملّ من العزف على الناي، قد يرسب في وجدان الشاعر شجنا تلقائيا‭..‬ ورقة وعذوبة في التعبير، وقد يصيب الشاعر ناي الألم بالضجر فإذا برد الفعل ينقلب إلى ذلك الضجيج اللفظي والإيقاعي‭.‬

لهذا لا يستطيع الشاعر أن يتخلى عن صوته الشعري إلا إذا تخلى عن حياته وتاريخه وجغرافيته‭.‬ فاللعب باللغة لعبة الانزياح اللغوي -والتي هي أساس لغة الشعور- يتوقف على كل تلك العناصر التي كونت وجدان الشاعر، وعلى تفاعلها داخله، لتعطي للجملة الشعرية وزاويا السقوط على الصورة والإيقاع مذاقها الخاص‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.