الصورة المهمشة والذاكرة المعطوبة

الوجه الحقيقي لهواري بومدين
الخميس 2021/04/01

ولدت لأب مجاهد ومناضل يساري نفي من بلده الجزائر لمدة عشر سنوات كاملة بقرار من الرئيس هواري بومدين ثاني رؤساء الجزائر المستقلة، بسبب رفضه للانقلاب على أول رئيس للجمهورية الفتية، والحقيقة أنه لم يتوقف يوما عن عد مساوئ الرجل، أما أمي فهي ابنة شهيد في ثورة التحرير الوطنية تذكر الرجل بخير فهو من عمم إعفاء أبناء الشهداء من تأدية الخدمة العسكرية الإجبارية، وصاحبُ الخطابات الحماسية والمشاريع العملاقة، عائلة ديمقراطية تكرس احترام الرأي والرأي الآخر على النقيض من فئات واسعة من الشعب التي يحظى الرجل بينها بما يشبه التأليه المتعاظم للرجل الذي قدم على ظهر دبابة إلى سدة الحكم.

كانت شهيتي كبيرة حين وقعت على كتاب “سنوات بوم…” (الترجمة الحرفية لعنوان كتاب حول سنوات بومدين) على منصة أمازون يحمل غلافه صورة بالأبيض والأسود من زمن لم أعشه حيث كان الرجال بإمكانهم ارتداء مايوهات رجالية على الشاطئ ولا تزال النسوة تتغلفن في “حايك” أبيض مختلف تماما عن الحجاب وفنونه التي انتشرت منذ الثمانينات، إلى جانب الصورة ظهرت أسماء أقلام صحافية، مفكرون وباحثون جزائريون وأجانب، مشهود لها بمهنيتها وموضوعيتها.

صار الحصول على الكتاب مسألة حيوية بالنسبة إليّ بغية التمعن في مرحلة من تاريخ البلد، الذي يتنفس شائعات، وتعتبر الكتابة فيه فعلا فاضحا، رهين ذاكرة شفهية يسهل توجيهها وحتى التلاعب بها، فقليلة هي الكتب في العالم العربي التي تحاكم بموضوعية حقبة زمنية، أو حتى إرث حاكم، تزدهر فيها صناعة “النوستالجيا”، محكوم عليها بالعودة إلى الوراء أو مراوحة مكانها على أقصى تقدير، الأهداف ذاتها التي غذت المسرحي والمثقف الجزائري محمد قاسيمي في إرساء قواعد مشروع هذا الكتاب، إضافة إلى أشياء أخرى أسرّ إليّ بها في حوار خصّني به

. جاء الكتاب في شكل شهادات عن حقبة ثاني رؤساء الجزائر، يتعذر تلخيص مضمونها نظرا لثرائها وتنوعها، صدر هذا المؤلف الجماعي عن دار “الشهاب” الجزائرية سنة 2016، ولم يعرف نجاحا جماهيريا فبالكاد تحدثت عنه الناطقة بالفرنسية، قد يكون للرئيس المخلوع يد في حجبه هو الذي لطالما أضمر حقدا دفينا على صاحب السيجار.

لكن لماذا بومدين تحديدا؟

ليس من السهل الحديث عن رئيس في المنطقة العربية مجملا لا في حياته ولا حتى بعد مماته، بين سطوة القوانين المكممة للأفواه، عاطفية الشعوب ذات الذاكرة المعطوبة إضافة إلى المصالح المرحلية لفئات معينة تغدو مساءلة أرشيف بلد عملا ملغما، وفي هذا الصدد يذهب قاسيمي المشرف العام للكتاب إلى القول إن “الوظيفة الرئاسية في المخيال العربي مرتبطة دائما بالزعيم، أب الأمة. هناك دائما تقديس للحاكم، كما بالنسبة إلى الأب في العائلة. كل نظام عربي في الأصل نظام متسلط يصعب عليه التكيف مع حقوق وحريات المواطنين، هناك مقولة لابن خلدون من الجيد توظيفها هنا “العرب لا يؤمنون بالسلطة إلا حين تنزل من السماء.”

إن أول سؤال قد يستفز قارئ كتاب “سنوات بومدين” لماذا اختيار هذا الرجل تحديدا ليكون مادة لكتاب؟ ما الذي ميزه عن غيره من الحكام الذين تداولوا على رئاسة الجزائر؟ يجيب قاسيمي بأن “الزعيم بن بلة (أول رؤساء الجزائر المستقلة) كان حادثا عارضا، نكبة تاريخية، مثيرا للمتاعب، وصل إلى الحكم في الجزائر صدفة بفضل جيش الحدود وحساباتهم المرحلية. حكمه كان قصيرا، ثلاث سنوات فقط كللت بنتائج كارثية، قدم فيها خطابات فلكلورية وأقر التسيير الذاتي دون أن يعرف حقا ما هو، بحسب شهادة المؤرخ محمد حربي. في حين أن الشاذلي أو ‘جيف شاندلر’، كما كان يكنّى لشبهه المدهش بالممثل الأميركي، لم يمتلك هو الآخر مشروعا لحكم توتاليتاري كالذي امتلكه بومدين. أراد الشاذلي فقط فك قيود التجارة الرهيبة التي كان قد أقرها سابقه، ووضع حد لجحيم الندرة التي عشناها منذ السبعينات. حكمه سيبقى مرتبطا بتشريع استيراد الموز في الجزائر والتي مثلت بالنسبة إلى الجيل الذي عرفها استقلالا ثانيا. بومدين كان ديكتاتورا من طينة مابوتو وسيسوكو. اعتبر الجزائر ملكية خاصة للجيش الجزائري الذي يمكنه أن يتصرف كما يشاء في خيرات ومستقبل البلد”. ثم يضيف “يجب الاعتراف على رغم كل شيء أن بومدين لم يطور ولم يشجع على تقديس شخصه كما فعل بوتفليقة حد الجنون.”

تصاريح، بوط وسجن بسماء مفتوح

لل

بالنسبة إلى جيلي فإن ما يصعب الخروج من البلد هو الحصول على تأشيرة، الأمر الذي زاد سوءا مع الحرب الأهلية التي عرفتها الجزائر تسعينات القرن الماضي، على الرغم من وجود جالية جزائرية بالخارج تعد بالملايين. يختار الكثير من الشباب المغامرة في قوارب للوصول إلى الضفة الأخرى من المتوسط بسبب الفقر وأيضا للتعرف على حياة بمقوّمات تغيب تماما في جزائر اليوم التي تعيش انغلاق ثقافي وفكري متنامي وغير مسبوق إضافة لمصادرة الأصوليات الاجتماعية والدينية للحريات الفردية والاجتماعية باستخدام خطاب تدعمه القوى الفاعلة في البلد. تغيب عن ذهن هذا الجيل الذي كبر على أخبار ضحايا الهجرة غير الشرعية، وجود نسخ قديمة لهذه الهجرة غير القانونية عاشها آباؤهم، فالرجل ذو النظرة المرعبة – والذي تمجّده هذه الأجيال ذاتها (والتي بالمناسبة تعيش شيزوفرينيا غريبة) – حول البلد إلى سجن كبير لا خروج منه إلا بتصريح. يكتشف قارئ “سنوات بومدين” حيل شباب تلك المرحلة للتعرف على ثقافات تلعن جهرا وتقدس سرا، حيل تتراوح بين الكوميديا والعبث. مكة الثوار التي فتحت أذرعها لـ”الفهود السود” “باتريس لوممبا”، التي استقبلت “التشي” وغنت فيها “مريم ماكيبا” أغنيتها الشهيرة “أنا حرة في الجزائر” كانت سجنا بسماء مفتوح، أرضا لأبشع الممارسات الستالينية.

يرتبط مصطلح “البوط” في أذهان الكثيرين بالكتابات الأدبية التي تدين حكم العسكر، وللبلدان التي يوثق فيها الجيش الخناق على الحريات الفردية والجماعية، لكنه كثيرا ما يتكرر في شهادات كتاب “سنوات بومدين” وتتكرر معه عبارة أخرى هي “الأمن العسكري” الذي يبدو أنه كان وسيلة الرجل في إحكام قبضته على الجميع، الجهاز الذي تأسس في سنوات الثورة الأخيرة كان وسيلة للتفرقة بين مواطني الوطن الواحد والمس بأبسط الحقوق المواطنة. “يجب التذكير أن الأمن العسكري لتعذيب المعارضين أعادت فتح الأماكن التي عذب فيها مظليو مورسو وبيجار”. ثم يضيف “كان بومدين ‘فلاقا’ حتى النخاع، يخال أنه يمكنه التخلص من تخلف الجزائر، تماما بالسهولة التي كان يفجر بها الجسور بواسطة الديناميت.. عسكري حتى العظم وإن لم يطلق رصاصة واحدة خلال حرب التحرير، كما يذكره فرحات عباس، لم يطلق بومدين إلا على مواطني بلده، قرر أن يسيّر شعبا كاملا كما يسير فيلق من الجنود من الدرجة الثانية ‘إلى الأمام، سر، واحد اثنان، واحد اثنان، عند إشارتي ازحفوا’. وكم زحفنا في زمن بومدين”.

لم يكن الأمن العسكري الجهاز الوحيد في خدمة الرجل ذي الشارب، فقد عرفت المرحلة تغوّل رجال جميع الأجهزة الأمنية الذين لا تكاد تخلو من الحديث عنهم شهادة واحدة. لم تغفل أعين “الأجهزة” عن ندوة ثقافية ولا تجمّع نقابي، أو حتى قبلة عابرة بين مراهقين. شهادة الصحافي محمد قالي والذي عنونها بـ”تاكسي الغرام” (التسمية التي كان يطلقها بعض الشباب على سيارات الشرطة) من أقوى المشاركات التي تعكس فداحة بشاعة الحقبة وحكم الرجل في حياة سكان الجنوب الغربي (بشار تحديدا). يمكن تصنيف الفظاعات الأمنية التي ارتكبت فيها ضمن ما يمكن تسميته “عنصرية رسمية” أضافت مأساة أخرى لتاريخ البلد. عاشت منطقة القبائل عنصرية مشابهة، برزت مع الاستقلال وتضاعفت مع إصرار الرجل على جعل الجزائر ريفا ثقافيا تابعا للقاهرة وباريس على السواء، وفي الوقت الذي لا تزال تطفو إلى السطح مع كل أزمة تندر فيه الشهادات التي توثق للعنصرية الرسمية التي مارسها رجال “بومدين” ضد سكان منطقة الجنوب الغربي، خصوصا بعد “حرب الرمال” مع الجارة المغربية.

في جذور المشروع الإسلامي

يرتبط زمن بومدين في أذهان الجزائريين بالسياسات الاشتراكية كالثورة الزراعية، السد الأخضر وغيرها من المشاريع الكبرى التي قبرت بأرضها نتيجة الافتقاد إلى بصيرة في التخطيط لها. على الرغم من ارتباط “الزمن البومديني” في الأذهان بالأفكار الثورية والاشتراكية الأممية والأخوة بين دول العالم الثالث، لكن قاسيمي وكثير ممّن قاسموه تجربة كتاب “سنوات بومدين” يذهبون إلى طرح آخر مفاده أن أصول الأصولية الإسلامية في الجزائر – التي دفع ثمنها ولا يزال الجزائريون – كان الرئيس الذي عاش وحكم باسم مستعار هو من فتح الأبواب أمام رياحها، رجل كل المتناقضات.

يقول محمد قاسيمي في هذا الصدد “بومدين كان قد وضع منذ أول يوم من الانقلاب كل المقادير التي أنتجت التغول الإسلامي: خلق المراكز الإسلامية منذ 1965، حل الاتحاد الوطني وللطلبة الجزائريين والتعدي على منتميه، التعريب المتوحش والإرهابي للتعليم والإدارة، التخلص بالقتل من أقل معارض، ترسيخ انتماء البلد إلى العالم العربي قسرا، المتابعة البوليسية لشعب كامل بواسطة الأمن العسكري، السيطرة وتوجيه الصحافة، المسرح والسينما. جعل الإسلام دينا للدولة، عكس مشروع الميثاق الوطني لـ1976، تعويض النهاية الأسبوع الكوني بالجمعة الاسلامية، عزل مصطفى الأشرف من وزارة التربية.. ثم تعيين ‘الملا طالب الإبراهيمي’ الذي يتصور أن أيّ فن غير موجه للقبلة فهو حرام…. لو وجد شخص تمكن من تكسير الديمقراطيين الجزائريين والمثقفين فهو بومدين الذي وضع انطلاقا من 19 جوان 1965 ماكينة لطحن أيّ شكل من أشكال المعارضة، وفتح من خلال ذلك الطريق واسعا للإسلاميين منذ اليوم الأول لحكمه”.

تحول البلد بغناه الثقافي وتنوعه الفكري إلى مستعمرة ثقافية بقرار من الأخ الزعيم الذي فرض رؤاه الأيديولوجية على واقع شعب لثلاثة عشر سنة كاملة، نقرأ في أكثر من شهادة كيف كان يتم تعنيف شباب تلك الحقبة، فتتكفل أجهزة الأمن بحلق رؤوس الشباب الطويلة، وتدهن أرجل الفتيات اللاتي ترتدين التنانير القصيرة، توكل لأجهزة الأمن مسؤولية فرض الأخلاق العامة، تمنع الحفلات الخاصة المختلطة بل ويقتاد مرتادوها إلى المخافر، ويصعب الوصول إلى أسطوانات الموسيقيين الغربيين رمز الإمبريالية الغربية وغيرها من الفظاعات التي ارتبكت في زمن ارتدى فيه “التشي” عباءة “الخميني” وينظر إليه اليوم بكثير من الحنين.

مرحلة سيئة ولكن..

لم يركز كتاب “سنوات بومدين” على إدانة الرجل ولا مرحلته وإرثه على الرغم من أن الفكرة الرئيسية التي انطلق منها المشروع كما يقول المشرف العام عليه جاءت من تقديس متعاظم لزمن الرجل، واقع تتقاسمه الكثير من الشعوب العربية “جاءتني الفكرة حين لاحظت أن في الجزائر، وخصوصا لدى الأجيال الشابة، تطور ملحوظ لتقديس حكم بومدين، الذي يبدو في عيون الكثيرين كزمن ذهبي مفقود، حيث كان البلد يتمتع بمكانة كبيرة بين الدول. النوستالجيا صناعة مزدهرة في العالم العربي. تفتقد مصر عبد الناصر، وتونس بورقيبة، المغرب الملك الحسن الثاني، في حين يفتقد اليمنيون الإمام يحيى، حتى لبنان أين عشت طويلا تملك حنينا لسنوات الحرب الأهلية. إنها شعوب عاطفية. من أجل الحقيقة التاريخية، يجب التذكير بأن بومدين امتلك مزيجا بين شخصية راسبوتين وستالين

. “يلاحظ قارئ هذا الكتاب الجماعي أن الطرح الذي تبناه المشاركون كان موضوعيا إلى حدّ كبير”، وذلك ما يؤكده قاسيمي بقوله “أعطيت مطلق الحرية لكل قلم مشارك في الكتاب ليترجم ذكرياته حول المرحلة كما يشاء. أنتج ذلك نصوصا مدهشة، أحيانا على النقيض مما توقعت. انتظرت من الراحل عزيز شواقي نصا ناريا، فقدم لي مشاركة ساخرة. نورالدين سعدي الذي عرف السجن والتعذيب تحت حكم بومدين لم يحبذ العودة على ظروف اعتقاله. على الرغم من إصراري”. بعض الأقلام تمعنت في رسم مشاهد يومية من حقبة خلت، بمساوئها خصوصا، لكن كثير منها تأسفت على مرحلة كان للنقاش العام فيها نصيب، وللحياة الثقافية كيان، ربما بسبب الغياب التام لهذه المؤشرات من حياة الجزائري اليوم، وتدهور المشهد السياسي الذي يهدد الدولة في وجودها حتى، وربما بفعل النوستالجيا التي تميز شعوب المنطقة وقد أتت حتى على مثقفيها.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.