الضحية والعنف
على الرغم من أنَّه يعزو الإرهاب بشكل عام إلى نزعة أو سلوك منحرف غير مقتصر على المسلمين عموماً، إلّا أنَّنا نراه في حوارات وتصريحات سابقة يسلّم جدلاً باقتصار الإرهاب في عصرنا الحالي على الحركات الإسلامية المتطرفة حصراً، على الرغم من أنَّه يؤكد على أنَّ الإرهاب والأصولية ظاهرتان عالميتان، ويعيب على الغرب محاولاته لإعادة قراءة الثقافة الإسلامية والعربية وإعادة تحليل نصوصها، لأن العنف نفسه موجود في الأديان الأخرى من وجهة نظره.
لكن من وجهة نظر أخرى أرى أن حضور الأديان الأخرى في الحياة العامّة قد تراجع كثيراً بعد الحرب العالمية الثانية، باستثناءات قليلة جداً يديمها بعض المتشددين دينياً من المتطرفين اليهود الذين مازالوا يمارسون طقوسهم الدينية قرب ما أسموه حائط المبكى، كغطاء لدوافع سياسية بحت وسلوك متطرف هو أقرب إلى الرموز منه إلى الإيمان، وما دام الرمز حاضراً في حياتنا بدوافع عدة، أهمها ربما هو السعي للإعلان عن الذات المستلبة أو المصادرة، أو كردة فعل تكتيكية في الشارع على ما يعتقده البعض ظلماً أو إهانة توجه لمعتقداته.
وفي هذا المجال يهمني أن أسوق بعض الأمثلة الإجرائية هنا وتتمثل في رفع الأذان في المحطات التلفزيونية الفضائية التي يشاهدها الجميع في العالم وفي مناطق لا تتوافق زمنياً مع مواعيد الصلاة في بلد ما من البلدان، لكن صاحب القرار في تلك المحطات أراد توظيف الأذان كرمز للإعلان عن تدينه أو هويَّته الدينية، أيضاً نلحظ استخدام الطقوس كرموز أو أدوات مقاومة في الصراعات عندما تلجأ مجموعة من الناس للصلاة في الشارع أمام الدرك أو الدبابات، فعنصر الخشوع في مثل تلك اللحظات مفقود تماماً، ولا يمكن للمصلي أن يبلغ لحظة الصفاء الذهني التي تتطلبها الصلاة وسط تلك الفوضى وأصوات الإطلاقات المطاطية والتدافع، وليس أمر استخدام الدين أو حتَّى الأيديولوجيا كرموز مقتصر على المسلمين وحسب.
بل هناك الآلاف من الناس الذين يعلقون رمز الصليب على سبيل المثال في رقابهم كدليل على انتمائهم المسيحي، على الرغم من عدم إيمانهم أو تدينهم، والأمر ينسحب أيضاً على الهيبيين واليساريين المتطرفين الذين يطبعون صورة الثائر جيفارا على قمصانهم كرمز لانتمائهم الفكري أو الأيديولوجي، على الرغم من إنَّ جيجك يبشر بأفول اليسار بمعناه الأيديولوجي منذ سبعينات القرن الماضي، في قوله «حتّى السبعينات كان يوجد يسار عربي جد قوي، لا سيما في العراق وسوريا لكنّه تراجع الآن». شخصياً أتفق تماماً مع جيجك في هذا التحليل، لكن ليس في بشأن الأسباب التي ساقها لهذا التراجع، تلك التي لخصها بخطل المشروع الاشتراكي وفشل النظرية الاقتصادية الماركسية في التطبيق، بل لأن فكرة اليسار كانت قائمة إلى حدٍ ما على مقارعة ما يسمى الاستعمار والامبريالية، التي تغيرت أساليبها وأيديولوجياتها.
فالمحرّك الاقتصادي للحياة الرأسمالية الطاغية والمنتشرة على محفّة ما بات يسمى العولمة في عصرنا الحديث، قد أدى إلى تغيير القواعد بعد أن انفتح العالم تماماً نتيجة لثورة الاتصالات الشاملة التي غيّرت بدورها مفاهيم الاقتصاد ونمط الحياة العامّة للناس، ففي هولندا التي أعيش فيها منذ ما يقرب العشرين عاماً، وتعاني من أزمة خانقة في المساحة وارتفاع الضرائب والأجور، يقوم الاقتصاد الوطني بالدرجة الأساس على المصانع والمزارع المُشتراة في البلدان الأخرى.
وتحديداً في بلدان العالم الثالث أو المستعمرات الهولندية القديمة التي باتت تتمتّع بنوع خاص من الاستقلال الذاتي، مثل سورينام وجنوب أفريقيا وأندونيسيا وجزر الأنتيل التي تعج بمئات المصانع والمزارع المملوكة لرأسماليين هولنديين أو شركات هولندية عابرة للقارات، ويكفي أن نعرف بأنَّ هولندا المصدر الأول والرئيس للكاكاو والغاز في أوروبا والعالم، على الرغم من أنَّها لا تملك مزارعاً للكاكاو ضمن أراضيها الوطنية، وتنتج كميات محدودة من الغاز في حقول بحر الشمال ضمن مياهها الإقليمية، لكنّها تمتلك شبكة أنابيب توزيع الغاز في أوروبا بالكامل، وأحياناً تشتري الغاز من منتجين آخرين بأسعار مرتفعة لتعيد ضخه في تلك الشبكة من أجل إدامة احتكار التوزيع.
ووفق هذا المبدأ تتضح الاستراتيجيات الغربية بشكل أكبر حين نلاحظ سعي الولايات المتحدة وحلفائها للاستفادة من الصراعات القائمة حالياً في كل من العراق وسوريا لتفتيت مفهوم الدولة المتماسكة فيهما من أجل السيطرة على الموارد. يسوق جيجك في هذا المجال مثالاً مبهراً حين يتحدث عن نموذج جمهورية الكونغو الديمقراطية التي يعدّها دولة في الظاهر لكن في الداخل لا توجد دولة بالمفهوم المتعارف عليه، لأنّها تعيش في ظلّ فقر مدقع وتهيمن على مقاليد الحكم فيها الجماعات المسلحة، وهي متورطة تماماً في السوق الاقتصادية العالمية، على الرغم من توفر الأراضي الزراعية الشاسعة والمواد الأولية كالذهب والألماس والنحاس والبترول فيها.
في الواقع ينطبق مثال الكونغو هذا على الكثير من البلدان الريعية التي صارت تمثل كانتونات أو ما يشبه شركات الريع العام التي تعمل وفق مفهوم العولمة واستدعاء الشركات متعددة الجنسيات لاستثمار ثرواتها الطبيعية مقابل توفير ما يلزم من السّلع والخدمات اللازمة إلى الحدّ الذي يحول دون تفجر التذمر الشعبي على حكامها، وبنظرة متأملة لما يجري في العراق حالياً نكتشف أن تفتيت الدولة بمفهومها القديم قد اضمحل تماماً، وباتت مجموعة من الأحزاب والميليشيات المتصارعة على مناطق النفوذ ومصادر الطاقة، لا سيما النفط، هي التي تتحكم بمقدرات البلاد، إن مثل هذه الميليشيات التي تحركها مصالحها تسهّل السيطرة عليها، كما أن غرائز المصالح الذاتية التي تحركها قد تكون حائلاً في المستقبل دون تكوّن نزعة وطنية من نوع ما قد تسبب صداعاً للغرب عموماً ومصالحه المتمثلة بالشركات العابرة للقارات.
في حديثه عن العنف ومفهوم الإرهاب المرتبط بالحركات الإسلامية الأصولية يعتقد جيجك أنَّ النزعة العنفية لحركات الإسلام الأصولي هي ظاهرة عصرية محض جاءت كردّة فعل على مفهوم العولمة
إنَّ مفهوم «تقاسم الكعكة» التي روج له الحاكم المدني بول بريمر إبان الاحتلال الأميركي للعراق في العام 2003 هو نفسه الذي يحرّك تلك المصالح الذاتية الضيقة لأحزاب الإسلام السياسي والنزعات الانفصالية في العراق، بل هو الذي اتخذه البعض كمنصة لكتابة الدستور الجديد للبلاد والذي يشرعن وجود الكانتونات والمكونات والعرقيات على حساب الهويَّة الوطنية العراقية.
النقطة الجدلية الأخرى التي أثارها جيجك في حواره هي نظرته لمفهوم التسامح بين الثقافات الذي يعتقد بموجبه أنَّنا يمكن أن نتقبل الآخر من دون أن نحبه بالضرورة، أي نتقبل التعايش معه وحسب، وهي نظرية لا تنم عن فهم عميق لتركيبة العربي - المسلم النفسية وتربيته وطبيعة المجتمع الذي خرج منه، وفي الواقع ما كان للعربي أن يخرج من بلاده لو كان يؤمن بفكرة تقبل الآخر، وأغلب المشكلات والقلاقل وتغوّل الديكتاتوريات في العالم العربي هي نتيجة لعدم قدرة العربي ، في أغلب الأحيان، على تقبل الآخر، يستند في ذلك بالدرجة الأولى على نصوص دينية وأعراف وتقاليد مترسّخة خاصّة بالاستلاب الفكري، إنَّ فكرة «الأقرباء أولى بالمعروف» على سبيل المثال، قد تحولت في الكثير من البلدان العربية إلى منصة لشرعنة المحسوبية والاستحواذ على السلطات وتحوّل أنظمة الحكم العربية إلى ما يشبه الهياكل الأبوية أو الربوبية الصرف.
إنَّ هؤلاء الضحايا الخارجين من هيمنة تلك الأنظمة التي ظلت تمارس عليهم الانسحاق المجتمعي لعقود طويلة وتجتهد في تدمير كرامتهم الذاتية وتحفّز لديهم الشعور بالارتياب، لا يمكن أن يؤمنوا بليلة وضحاها بالآخر، على الرغم من أنَّهم سهّلوا الانقياد والخضوع للأنظمة نتيجة لما تربو عليه في بلدانهم الأصلية من خضوع، الأمر الذي يتطلّب برامج واسعة لإعادة تأهيلهم ومساعدتهم على الاندماج من جديد في مجتمعات تختلف كليّاً عن مجتمعاتهم وتحكمها أنظمة صارمة، تشكّل هي الأخرى حافّات خطرة حتّى على أبناء تلك المجتمعات الأصليين لجهة استلابهم خصوصيتهم وإخضاعهم بشكل صارم لنظام شبه آلي.
وفي معرض حديثه عن «الربيع العربي» يناقش جيجك النتائج وليس المسببات، على الرغم من أنَّه في حواره بمجلة «الجديد» قد أشاد بفكرة الحراك الشعبي العربي الذي عزاه إلى «ظهور نوع جديد من الوعي والاستيقاظ المدني»، لكنّه يقول في حوار آخر تسنى لي الاطلاع عليه، إن فكرة جمع الحشود الضخمة في ميدان التحرير سهلة للغاية، في حال توفر الدوافع المحرّكة، لكن المشكلة الحقيقية تبدأ بعد شهر أو شهرين على الأكثر، عندما ينصرف الصحفيون وكاميرات التلفزة ويبدأ الناس بالتساؤل عن النتائج المتحققة على الأرض.
وعلى الرغم من أنَّني أتفق معه كليّاً في هذا الطرح، إلّا أن الفكرة بمجملها قائمة على ثورة تغيير المفاهيم التي دعا إليها جيجك نفسه في بداية حواره، وفي هذا الخصوص أجد من الضروري العودة إلى قول الفيلسوف الفرنسي ألان باديو المتلخصة في «إنَّ القرن العشرين قد مات وعلى اليسار أن يبدأ من جديد»، وهو المبدأ نفسه الذي يعترف به جيجك حين يقول بأن القرن العشرين لم يعد صالحاً وأن على اليسار الديمقراطي إعادة خلق دولته، وعلى الرغم من أنَّني لا أجد تناقضاً كبيراً في طروحات جيجك في هذا المجال تحديداً لكنّني لم أفهم تحليله الاقتصادي لطبيعة العلاقة الجديدة بين البشر والمفاهيم الرأسمالية والعولمة حين يسوق، في حوار آخر له، حكاية المريض النفسي الذي يعتقد أنّه حبّة حنطة ويخشى أن تلتهمه الدجاجة، وحين يتمكن الطبيب المعالج من علاجه وإقناعه بأنَّه ليس كذلك يعود للتساؤل فيما إذا كانت الدجاجة نفسها مقتنعة بأنّه ليس حبّة حنطة.
إن استعارات جيجك الماركسية تلك عن السّلع وهيمنتها على حياة الأفراد في عصرنا الحالي هي اعتراف من نوع ما بطغيان المفاهيم الرأسمالية وهيمنتها على البشر، وبالتالي قد تفند طروحاته الخاصّة بحتمية تمكن ما أسماه اصطلاحاً اليسار الديمقراطي من التغيير، حتَّى لو توفرت له جملة العوامل التي يشرحها باستفاضة تامّة في تنظيراته اللاحقة. وفي المحصلة فإنَّ طروحات جيجك الجديدة ربما تبقى واحدة من أهم نتائج تغير المفاهيم وطبيعة العلاقات الاقتصادية بين البشر والأنظمة في عصرنا الحالي، وهي خلاصة حتمية لاستيعاب دروس الماضي وخطل النظريات الاقتصادية الجاهزة والمآسي التي نتجت عنها عندما اكتشف البشر أنَّها في أغلبها غير قابلة للتطبيق وتعاني من الخطل، لا سيما إذا علمنا أنَّ جيجك ينتمي لمجتمع خاض تجربة فاشلة في تطبيق الاشتراكية وفقد هويّته الوطنية والتبست عليه المفاهيم الاقتصادية التي أعطبت حياة الكثير من الشعوب وهدرت عقوداً كاملة من أعمارها.
ولا بدّ من الإشارة هنا إلى اللفتة الابتكارية لمجلة «الجديد» في التقاط الحوارات الجدلية وسعيها المجتهد من أجل التحريض على التأمل ودراسة العبر وتبسيط الفلسفة المعاصرة وطريقة قراءتها للمشكلات التي تعاني منها الشعوب، إنَّها بحقّ محاولة باسلة لبقر قبّة الأسئلة وتمحيصها في زمن بات فيه الناس في حيرة من أمرهم لجهة فهم ما يحصل وأسباب تنامي الكراهية والعنف وتبدد الاستقرار والسلم الأهلي.