الظاهرة الجهاديّة الحديثة من وجهة نظر ثقافيّة
صدر مؤخرا كتاب “الثقافة الجهاديّة- الفن والممارسات الاجتماعيّة للجهاديين الإسلاميين” عن منشورات جامعة كامبريدج بإشراف مؤسسة أبحاث الدفع النرويجية والتي تعمل في ظل القوات العسكرية والجيش النرويجي، الكتاب الذي حرره الباحث توماس هيغامير المختص في الجماعات الجهاديّة والأشكال الثقافيّة المرتبطة بها بالتعاون مع مجموعة من الباحثين الذين يحاول كل واحد منهم أن يدرس جانبا من الممارسة الثقافية الجهادية، وتقديم تحليل لبنية الإنتاج الثقافي التي تتّبعها الجماعات والممارسات اليومية المختلفة التي يقوم بها أفرادها في “أوقات السلم”، بوصفها جزءا من تكوينهم الفكري والعقائدي وخصوصا أن أوقات “اللا حرب” أو أوقات الفراغ أيضا خاضعة لسياسة كل جماعة وتعبّر عن مرحلة هامة في تكوين “الجهاديين”.
سياسات أوقات الفراغ
يحدد الكاتب موضوعاته الثقافيّة عبر سؤال قد يبدو ساذجا وهو “ما الذي يفعله المجاهدون في أوقات الفراغ؟”، وهو سؤال يرتبط بالظاهرة الثقافيّة بوصفها تتجلى في الحياة اليوميّة، فالباحثون في الكتاب يحاولون رصد الجوانب المختلفة لأوقات الفراغ هذه، ودراسة التحولات في الأنشطة التي يقوم بها المجاهدون والتي ليست حكرا عليهم كجماعة ثورية، فالصلاة ولعب كرة القدم والغناء هي أشكال من السلوك اليومي المعتاد لأي مسلم، إلا أن حضورها في الفضاء الجهادي يكسبها بعدا جديدا سواء أكان جماليا أم سياسيا، كما يضع الكتاب حدودا للجماعات المدروسة والتي ظهرت منذ الثمانينات من القرن الماضي حتى العام 2010 لتشمل أمثلة من القاعدة وحزب الله وبوكو حرام وغيرها مستثنيا تنظيم داعش ونشاطه، كما لا يتناول الكتاب النشاط الجهادي على الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي بوصفها قطاعا منفصلا للدراسة.
كيف يفكر المجاهد
يتناول الكتاب الممارسات الاجتماعية للمجاهدين بوصفهم ينتمون لثقافة فرعيّة، إذ تسعى إحدى الأوراق في الكتاب إلى دراسة الصنعة الشعريّة وتحليلها جماليا وطبيعة العلاقة التي تظهر في القصيدة بين المجاهد والآخر، بين المجاهد والخطاب الدينيّ، كذلك دراسة الصناعة الموسيقيّة والأناشيد التي يتم ترديدها وما هي الأدبيات التي تحيل إليها ودورها في “تسليّة” المجاهدين في أماكن اختبائهم بعيدا عن الأعين كونهم فريسة دائما ومهددين بالاعتقال أو الموت في أي لحظة، إذ تسعى الأبحاث للإجابة عن الاختلافات في كل جماعة والأنشطة التي تميزها عن بعضها البعض، والجانب الأهم هو دور هذه الأنشطة الثقافيّة في الحفاظ على استمرار الجماعة وتحريض أفرادها على الاستمرار بـ”الجهاد”، ومحاولة فهم العناصر المختلفة التي تكوّن كل جماعة والاختلافات الأيديولوجية والطائفيّة بينها.
محاور الدراسة
الأبحاث في الكتاب مقسمة حسب الموضوعات وتتناول الشعر والموسيقى والرموز والسينما وتفسير الأحلام وأدبيات الشهادة والممارسات الاجتماعيّة. ويؤكد محرر الكتاب أن دراسة هذه الجوانب لن تكون من منطلق أيديولوجيّ، أي أنها لن تتعامل معها كبروباغندا ذات أهداف سياسية، بل كجانب جمالي وثقافي وذلك عبر تحليل المجازات والصورة الفنيّة وأنساق سلوك القيم التي تروج لها، لا بوصفها فقط شكل احتجاج على النظام القائم بل أيضا وسيلة لخلق الحسّ الجمالي والوعي بالعالم، وذلك عبر تحليل الأمثلة المختلفة كالثياب التقليدية (العباءة)، وتبادل الحكايات عن المعارك الإسلاميّة الأولى التي كانت تستخدم فيها السيوف والأحصنة، ودراسة الشعارات المختلفة للجماعات والتي تحضر فيها قيم الأصالة والبطولة العربية ورموزها بقالب حديث يوظف تقنيات العصر.
أساليب الدراسة هذه ترتبط بمفهوم التشدد الذي انتشر في أوروبا ودوره في الحفاظ على أمنها الداخلي، فهكذا أبحاث تحاول أن تكون دوما خطوة احترازيّة في وجه احتمالات التشدد ومحاولة رصد الملامح التي يمكن عبرها تمييز “الجهادي” عن غيره، وكأنها تحاول أن تجد معيارا أو نموذجا كي يتم تبنيه من قبل السلطة السياسية في أوروبا والوقوف بوجه التشدد الإسلامي.
الشهادة والخلاص
يركز الكتاب أيضا على القيم العاطفية التي تحويها الثقافة الجهاديّة، واستخدامها والانفعالات من أجل التجنيد من جهة ومن أجل خلق الحماسة لدى المقاتلين من جهة ثانية، وهذا ما يشكّل الرعب لدى أوروبا التي تُفاجَأ بمواطنيها ينضمون إلى التنظيمات المختلفة، فالأبحاث في الكتاب تحاول أن ترصد أنساق السلوك والمؤشرات التي يمكن تعميمها لتوظيفها لاحقا ضمن برامج مكافحة للتشدد.
فالكتاب يتناول الجهاد بوصفه ظاهرة ثقافية تعنى بقيم العنف ورفض للمجتمع المادي، كما يناقش الكتاب السردية الجهادية بوصفها خلاصا من أساليب الهيمنة التي تفرضها المجتمعات المعاصرة، إلى جانب الأبعاد الروحيّة التي تحملها الشهادة والحكايات المرتبطة بها بوصفها تحول الشخص إلى أيقونة، وتأثيراتها النفسية والعقائديّة على الشخص بوصفها تخلصه من عذاب القبر وغيرها من الحكايات المرتبطة بجسد الشهيد حينما يغادر هذا العالم.