العالم والجاهل والخيِّر والشرير
بالعلم ارتقت الدنيا، ونهضت الحضارة، فالعلماء أهل إبداع لا أهل اتّباع، والعلماء لا يمارون على الحق ولا يبنون أفعالهم على أحكامٍ وانفعالات مسبقة، بل على معرفة حقيقية بالخير والشر، ولهذا يمنع العالم في الغرب ظلم الضعيف، وعلماؤنا يبرّرونه، وفي أفضل الحالات يصمتون عن الظلم.
كتب أرسطو في كتابه السياسة أنَّ الإنسان لا يفعل الشر إلا عن جهلٍ بحقيقته! ونحن منذ قرون نعتبر الشَرَّ خيراً، وبالعكس. والطاغية شَرٌّ لا بدَّ منه، و”ما مِن مُسَتَبِدٍّ سياسي إلا ويتخذ صفة قدسية يشارك بها الله” (الكواكبي، طبائع الاستبداد، ص 344) وهذه الصفة القدسيَّة لن يحصل عليها دون معونة علماء السوء.
بعد قرونٍ طويلة من فساد العلماء، بانفعالات وأحكام مسبقة لا دليل عليها، وغياب المعرفة الصحيحة بالخير والشر، جُبِلَ مواطنونا على انفعالات تتعلق بالماضي السحيق أو المستقبل المجهول، أكثرُ قوةً وحضوراً من الانفعالات المتعلقة بالحاضر والواقع الرَّاهن، كتوارث فكرة أنَّ كلَّ محاولةٍ للإصلاح عَبَثٌ وجنون. وهذه الأحكام المُسْبَقة لا تزول إلا بظهور أفكارٍ وانفعالاتٍ أشدُّ منها حضوراً وقوة، تؤيد وجود الإصلاح كضرورة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
الواقع من حولنا يكشف عن معرفتنا المغلوطة به، خيالاتنا عنه. ويظلُّ متأثِّراً بأفكار الإنسان الذي يعيش مُنقاداً بالنظام العام للسلطة والمعرفة السَّائدة. بالانفعالات التي لا ينفكُّ عنها، بمخاوفهِ التي تتزايد باستمرار قوةً وانتشاراً، بازدياد الضغوط الخارجية التي تفرضها السلطة، مع انكماش القوة الذاتية للفرد وتضاؤلها.
علماؤنا وُعّاظ السلاطين، يرون الأفضل ويعرفونه جيداً، ويقومون بالأسوأ دوماً! عبيد انفعالاتهم، ومخاوفهم الزَّائفة، وأهدافهم الشخصية. والإنسان الذي تقهره انفعالات نفسهِ، إزاءَ مستقبلٍ مجهول، أو ماضٍ سحيق أو حاضرٍ مؤلم لن يتمكن من إصلاح نفسه، فكيف يصلحُ لإصلاحِ السلطة؟ وإنَّ أكثر المخاوف في حياة الإنسان، هي مخاوف تافهة ولا تقع! وهذه المخاوف تدفع الإنسان للتنازل عمَّا هو ثابت وحقيقي من أجلِ ما لم يثبت بعد.
كتبَ الآجُرِّيُّ البغدادي قبل ألف سنة، “وَعَنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ بِصِفَةِ عُلَمَاء فِي الظَّاهِرِ، لَمْ يَنْفَعْهُمُ اللَّهُ بِالْعِلْمِ، مِمَّنْ طَلَبَهُ لِلْفَخْرِ وَالرِّيَاءِ، وَجَالَسَ بِهِ الْمُلُوكَ، وَأَبْنَاءَ الْمُلُوكِ، لِيَنَالَ بِهِ الدُّنْيَا، فَهُوَ يَنْسِبُ نَفْسَهُ إِلَى أَنَّهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَأَخْلَاقُهُ أَخْلَاقُ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالْجَفَاءِ، فِتْنَةٌ لِكُلِّ مَفْتُونٍ، لِسَانُهُ لِسَانُ الْعُلَمَاءِ، وَعَمَلُهُ عَمَلُ السُّفَهَاءِ” (أخلاق العلماء، ص 83).
لماذا نحنُ أسفهُ منهم؟ والسَّفَهُ ضِدَّ الحلُم، وأصله الخِفَّة والسَّخافة. قال النَبِيُّ محمد لأشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ “إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُما الله: الْحِلْمُ، وَاْلأنَاة”. أ ثمَّة تحريضٍ أقوى على الحِلْمِ والرِّفق؟ ولا يأتي التحريض عليهما بقوة، إلا بسبب ندرتهما.
لا يوجد في بلاد الغرب، إلا نادراً، يتامى يتسوَّلون في إشارات المرور. ولا سلطة غاشمة ظالمة! وأوشكهم كرة بعد فرة، أشجعهم، فالشجاع لا يفِرُّ إلا ليعاود الهجوم، والجبان يفر لا يلوي على خير، لحماقته وجهله. هكذا سقطت بغداد في عشرين يوماً فقط.
العِلَّة الغائية لبناء بيت هي السَّكَن. وهي مُتحَقِقة في الحالتين: سواء كان منزلاً أو قصراً منيفاً، والكثيرون يستغرقون أكثر من عشر سنوات في بناء قصرٍ كبير، فيموت ولا تتحقق غايته بالسَّكَنِ فيه، ليخسره ابنه في تجارةٍ بائرة أو لعبة خاسرة، أو يتقاسمه الورَثة، أو تتخذه ميليشيا مقرَّاً لها.
السُّلطوي الفاسد، يفعل كلَّ شيء من أجلِ أهداف شخصيَّة سفيهة! يُخَرِّبُ وطناً بأكملهِ ليبني لنفسه قصراً، أو لتأمين مستقبل أبنائه. وكَمْ من ابن رئيسٍ انتهى سجيناً أو هدفاً شاخصاً للرصاص، والكلُّ أعظمُ من الجزء، وإذا فَسَدَ الكل، لن ينجوَ الجزء، والكلُّ هو الوطن. فإذا اقترنَ فردان برغبةٍ واحدة، سيكونان أقوى مِنْ أيِّ فردٍ بمفرده. ولا شيءَ أكثر نفعاً وخيراً مِنْ أنْ يتَّفِقوا في رغباتهم بالخير.