العرب يحررون يوم الجمعة
من الجور اختزال الهوية العربية وتمظهرها الفكري والسياسي والثقافي في حيثيات القرن العشرين وما ظهر فيه من تيّارات وأحزاب قومية عربية ومنظرين. أي في زمن ما عرف بالثورة العربية الكبرى ثم زمن المدّ القومي، وما تلاهما من تداعيات درامية.
حتى بوادر التفكير القومي المتأثرة بالفلسفة الغربية، الألمانية منها بالأخصّ، والتي أعلنت عن ذاتها أواسط القرن التاسع عشر وأواخره، لم تكن هي الإعلان الحقيقي والوحيد الذي يمكن من خلاله اقتفاء الأثر، وصولاً إلى ما يمكن أن نسميه “محنة الهوية العربية” اليوم.
والأجدر من وجهة نظري هو الشغل على مفهوم “العروبة” والبحث في ظلاله التي اتسعت منذ القدم، وأخذت أبعادا أكثر من مجرّد هوية عرقية أو سياسية، وتمّ استثمارها من قبل الأحزاب السياسية التي استثمرت معها غيرها من المفاهيم لإعطاء ذاتها شرعية بين العرب ومن يساكنهم من الشعوب تلك البلاد الممتدة من المحيط إلى الخليج. فقد كانت لحظة إطلاق كعب بن لؤي كلمة “الجمعة” على يوم كان يسمّى “العروبة” كانت تجتمع العرب فيه من هنا وهناك، لحظة فارقة تعبّر عمّا أراده الرجل وتصل القديم بالجديد، حين تعود لتظهر من جديد بدءاً من العام 2011 في خروج العرب في مظاهرات احتجاجية ليس مصادفة أن تكون كل جمعة، وتحمل أسماء “جمعة الحرب” “جمعة الكرامة”.. الخ.
ويذهب الزبير بن بكار في كتاب “النسب” إلى أنّ أول من جمّع وأطلق اسم الجمعة على هذا اليوم هو كعب بن لؤي بن غالب، وهو أحد أجداد النبي محمد. فقد “جمّع بالناس وكان يعظهم ويذكّرهم ويخبرهم أن الله سيبعث نبياً في العرب، وأنه سيكون من نسله ويأمرهم بمتابعته وطاعته. وقبل ذلك فالجمعة لم تكن تسمّى الجمعة، وإنما كانت تسمّى يوم عروبة أو يوم العروبة”. ويذكر علماء اللغة أن أيام الأسبوع (السبت والأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة) لم تكن أسماؤها عند العرب القدماء هكذا. وإنما كانت لها أسـماء أخرى. كانت كالآتي “أولُ ، أهونُ وجُبار ودبار ومؤنس وعروبة و شِيار”. ويسشتهدون على ذلك بقول الشاعر الجاهلي “أؤمل أن أعيش وأن يومي/ لأول أو لأهون أو جبار/ أو التالي دبار فإن أفته/ فمؤنس أو عروبة أو شيار”.
هناك كانت الهوية، التي انتبه إليها أصحاب المشاريع الجديدة فأسبغوا عليها الطابع الديني المقدس لأول مرة، قبل أن يفعل هذا في أيامنا هذه من أراد صبغ الحراك المجتمعي الثائر بصبغة دينية، سواء كان معه أو ضدّه، ولذلك ظهر من قال “ها هي المظاهرات تخرج يوم الجمعة، فالربيع إسلامي إذن” بينما قال الآخر”ما دامت المظاهرات تخرج يوم الجمعة فهي إذن ثورات متطرفين” ولم يكن هذا في الواقع سوى تعبير منسجم مع سياقه التاريخي يؤكد من جديد على أن الربيع الديمقراطي “عربي”.
بدت العروبة تياراً ثقافياً جامعاً للأعراق والأديان وقبة معرفية على حد وصف الراهب المسيحي الإيطالي الأب باولو دالوليو الذي دافع عن هذه الفكرة مرات ومرات، في أبحاثه ومحاضراته وحواراته، واصفاً إيّاها بأنها تجاوزت فكرة المتوسط جامع الحضارات على ضفافه الشمالية والشرقية والجنوبية. إلى كونها مظلة واسعة للجميع. عبر اللغة العربية من جهة وعبر الانفتاح الكبير للعرب على بقية الثقافات، فباتت ملاذاً لهم وحاضناً لتفاعلهم المشترك. فلم يذكر التاريخ مرّة واحدة اندلع فيها نزاع عرقي من قبل العرب ضد غيرهم في البلاد التي حكموها طيلة أربعة عشر قرناً.
يثير هذا التصور بالطبع حفيظة من تضرروا من حكم البعثيين في العراق وسوريا، لا سيما الأكراد والإسلاميون سنة وشيعة. إذ يرون في ممارسات الحزب في البلدين تمظهراً عنيفاً للشوفينية والعنصرية تجاه بقية الأعراق، من غير العرب. بعد أن طبق النظامان البعثيان مبادئ تنادي بالوحدة العربية ورفع القيم العربية فوق كل شيء، بينما كانا يستثمران فيها مثلما استثمرا في الاشتراكية والحرية والديمقراطية والعدالة.
اختصار العرب بالمسلمين
العروبة كثقافة، مسألة لا يمكن الخلاص منها موجودة في العادات والتقاليد واللغة والتاريخ والذاكرة الجمعية والتواصل الإنساني اليومي بين العرب. وهي حالة متجذّرة تتجاوز الغلاف الأيديولوجي للفكرة القومية.
وكان من أول مظالم تلك المسألة، القول بأن التاريخ العربي يبدأ بالإسلام وهي واحدة من مشاكل تفسير النص ظاهراً وباطناً. في سورة يوسف يقول القرآن “إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ” ولكن في موضع آخر يقول “هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ” وليس مصادفة أن يكون موضع هذه الآية هو سورة “الجمعة” بالتحديد. لكنّ المفسرين سارعوا إلى فهم الأميين على أنهم من جهلة الأعراب البدو، وأن الإسلام هنا جاء ليخرجهم من رعاعيتهم وانحطاطهم إلى التحضر، مختصرين العرب كلهم في كلمة “الأميين” التي قال عنها ببساطة مفسرو القرآن بتسرّع وربما بنية مسبقة الكلمات التالية: قال ابن عطية “الأميين”: يراد بهم العرب، والأميّ في اللغة الذي لا يكتب ولا يقرأ كتاباً، قيل هو منسوب إلى الأمّ، أي: هو على الخلقة الأولى في بطن أمه، وقيل هو منسوب إلى الأمّة، أي على سليقة البشر دون تعلّم، وقيل منسوب إلى أمّ القرى وهي مكة، وهذا ضعيف، لأن الوصف بـ”الأميين” على هذا يقف على قريش، وإنما المراد جميع العرب.
بينما قال القرطبي، قال ابن عباس: الأميّون العرب كلهم، من كتب منهم ومن لم يكتب، لأنهم لم يكونوا أهل كتاب. وهكذا فعل أهل اللغة، قال الراغب الأصفهاني: والأُمِّيُّ هو الذي لا يكتب ولا يقرأ من كتاب، وعليه حمل: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ) قال قطرب: الأُمِّيَّة: الغفلة والجهالة، فالأميّ منه، وذلك هو قلة المعرفة، ومنه قوله تعالى “وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ”. وقال الفرّاء: هم العرب الذين لم يكن لهم كتاب، “والنَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ” قيل: منسوب إلى الأمّة الذين لم يكتبوا، لكونه على عادتهم كقولك: عامّي، لكونه على عادة العامّة، وقيل: سمّي بذلك لأنه لم يكن يكتب ولا يقرأ من كتاب، وقيل: سمّي بذلك لنسبته إلى أمّ القرى.
وهكذا أصبح العرب ما قبل الإسلام تاريخاً ممحوّاً في التراث والوعي الجمعي. ولولا جهود كبار الباحثين النادرين مثل المؤرّخ العراقي العملاق جواد علي لمّا أطلع العالم على “تاريخ العرب قبل الإسلام” كما هو اسم مؤلفه العظيم. بعدها بدأ البحث في الممالك المتحضّرة التي سبقت ظهور الدين الجديد في مدينة من تلك المدن العربية القديمة (مكة).
الهوية التي تناوب أهل المشرق والمغرب على تكريسها وشرحها والحديث عنها. لم تكن بمعزل عن عواصف تهبّ من هنا وهناك، حاولت التقليل من شأن العرب وتقزيم مكانتهم التاريخية والحضارية. وما كان يقال في لحظة تحرّك جيوش قادسية سعد بن أبي وقاص لهدم عرش كسرى، من أن العرب هم “شاربو بول البعير” يقال اليوم عن العرب من شعوب وأقوام لولا تحضّر العرب معهم لتمت إبادتهم خلال القرون الماضية، ومن دون ذلك ما استمر وجودهم حتى عصرنا هذا. بينما كان صانعو الحضارة العربية، عرباً وكرداً وتركاً وأمازيغ وزنجاً مسلمين ومسيحيين ويهودا، علماء ووزراء وفلاسفة وأطباء وشعراء وغيرهم.
يتبادر إلى الذهن سؤال في لحظة اختبار الهوية هذا الذي يمر به العرب. فبعد أن انقلبوا على مفهوم العروبة ظناً منهم أنه من صناعة الاستبداد الذي انتفضوا ضده، ما هو مصير ملايين المنتجات الفكرية والثقافية العربية التي تم تصديرها من قبل العرب خلال الزمن الماضي والقريب، فيما لو انهارت قبة العرب الحضارية؟
الجديد من أجل الأصيل
تختبر الهوية العربية كل لحظة في البحث عن مشروع مختلف لا يتشابه مع ما كفر به الناس ولا يستنسخ التجربة الناصرية أو تجربة البعث. قدر هذا المشروع أن يحمل على الثقافة والتنمية لا على الأيديولوجيا. هذان العنصران اللذان كابدا الكثير تحت قبضة الاستبداد.
تختبر الهوية العربية في طرح جديدها نحو الآخر، هذه المرة. الآخر الذي عانى ممّا طبقه عليه الاستبداد من “تعريب” قسري، لحياته وقراه وأسماء أطفاله وتعليمه وذاكرته. تختبر الهوية العربية اليوم في التخلص من عقدة جلد الذات وازدراء الثقافة والإمكانات الخاصة بالعرب أنفسهم. تختبر الهوية العربية في مواجهة استحقاق الوجود بين الأمم. فلم يعد الماضي المجيد قادراً على تغطية عورة الحاضر المنحط. تختبر الهوية العربية في تقديمها لذاتها عبر الثقافة التي تجري صناعتها وعبر منظومات أخلاقية جديدة مقترحة على المجتمعات.
لم تتوقف أسئلة الغرب عن أسباب اندلاع الانتفاضات العربية، ولم تهدأ مراكز الأبحاث عن مناقشة المقدمات التي أدت إليها. بينما اعتبرتها أنظمة الحكم مؤامرة عليها. لكن الضرورة الحتمية لتحولات الهوية باعتقادي هي المسبب الأكبر والعامل الرئيس في تفجير الأوضاع في العالم العربي. فما كان ممكناً التأقلم معه خلال القرن العشرين، صار مستحيلاً في زمن العولمة وانفجار المعلومات وثورة الاتصالات. عهد انتهى، علمياً لا شعاراتياً ولا أيديولوجياً.
بحث الهوية اليوم عليه أن ينتقل من حقل التأصيل النظري إلى ميادين الحياة. فكما أن ثورة العلم الحديث وفائق الحداثة، تدفع الشعوب إلى التطلّب، فهي في الوقت ذاته تفرض على المفكرين تغيير أدوات العمل واستعمال الجديد لإنقاذ الأصيل.
يتطلب الأمر اليوم إعمال البحث العلمي في المناطق المستقرة من العالم العربي، بالتوازي مع إنقاذ الهوية الإنسانية والثقافية للعرب في البلاد التي تدور فيها رحى الحرب والتي عرّضت العرب لنكبتهم الكبرى، لا نكبة التدمير والقصف والتهجير وحسب بل نكبة تآكل الشخصية وصعود الشراذم وهجمة الأعداء القدامى (الإيرانيون الذين يغذون الخراب ويموّلونه). لكن هذا كلّه هو بالتحديد ما يشعل أوار الهوية من جديد.
ما بين عروبة العرب القدامى وعروبة اللحظة، كان يوم الجمعة علامة فارقة، كما أسلفت لجمع العرب وإعادة صهر الفكرة، وخلقها من جديد.