العقلانية بين الأنظمة والغرائز
في حوار أجرته معه حنان عقيل ونشر في العدد الـ35 من مجلة “الجديد”، يرفض المفكر جلال أمين وصف العرب بسمة التخلف، الذي يعده خرافة، تماما مثل التقدم من وجهة نظره. ويسهب أمين في طروحات لا تخلو من جرأة ومغايرة لما اعتدنا عليه من آراء جاهزة أو مسلمات فكرية طالما حولتها النقاشات المتوالية إلى حقائق من دون تمحيص أو بحث. لكن على الرغم من ذلك، لا بد للمتابع أن يفرز جملة نقاط جدلية وردت في الحوار أرى شخصيا ضرورة مراجعتها وطرحها للمناقشة.
إن نظرية خرافة التخلف والتقدم فكرة مغرية للبحث عن إرهاصاتها ومسوغاتها، لأن مثل هذه الفكرة لا بدّ أن تجرنا إلى مناقشة المصطلح أولا، ولعل السؤال الأبرز الذي يواجهنا، قبل التسليم بالفكرة، يتلخص في ماهية التقدم أو التخلف، وهل هو التطور والرخاء الاقتصادي وحسب، كما يقول أمين أم أنه منظومة متكاملة ومتضافرة من الشروط التاريخية المستندة إلى قوانين وأعراف إنسانية وضعية بعيدة عن الأديان والمعتقدات، لتنتج لنا في المحصلة مجتمعات حضارية تؤمن بقدسية الإنسان وكرامته المصانة وحاجاته المتحققة؟ وكيف يمكن تحقيق التطور الاقتصادي بمعزل عن تطور سياسي واجتماعي وفكري يصاحبه ويتزامن معه، بل ويستند إليه؟
ومن جهة ثانية، أيّ مذهب اقتصادي يقترح أمين على العرب انتهاجه؟ هل هو المبدأ الاجتماعي ـ الاشتراكي أم الرأسمالي ـ العولمي أم مذهب اقتصادي خاص بالتجربة العربية ومبتكر على الطريقة الهندية أو الماليزية وغيرها من المذاهب الاقتصادية الوسيطة أو المبتكرة ذات الخصوصيات الخلاقة؟ وبعد هذا وذاك كيف سيتسنى للعرب تجاوز واقع التجزئة والتفرق الذي أنتج مجموعة اقتصادات هزيلة ومتناقضة، بل ومتصارعة في بعض الأحيان.
إن اعتماد واستمرار العديد من الاستراتيجيات الإنمائية الفاشلة في الداخل يمكن أن يعزيا إلى العامل السياسي في الدرجة الأساس، لأن الأنظمة السياسية التي تنزع إلى خلق طبقات اجتماعية مرتبطة بتبادل المنافع المادية مع طبقة السياسيين وتوفير الدعم السياسي لهم، من شأنها أن تجهض الخطط الاقتصادية وتسقطها في براثن التسييس والفساد الإداري وانعدام الشرعية والاستقلالية، كما هو حاصل اليوم. وفي مثل هذه البيئة تبرز استراتيجيات التنمية التي يكون أول ضحاياها الرفاه الاجتماعي من أجل تلبية مطالب المؤيدين السياسيين. ويشير أغلب المنظرين الاقتصاديين إلى أن التغييرات السياسية يجب أن تكون شرطا أساسيا للانتقال الدائم إلى استراتيجيات إنمائية متفوقة، وبالتالي إلى نجاح برامج الإصلاح الاقتصادي الهيكلي.
عداهذا يطرح جلال أمين جملة من القناعات التي تبدو للوهلة الأولى محاولة للمغايرة والاختلاف عما هو سائد من طروحات وقناعات، لمجرد المغايرة والاختلاف، وفق ثنائيات متناقضة، مثل فكرة الإرهاب الذي لا يشكل تهديدا للغرب، أو الفكر الأصولي الذي لا ينتج إرهابا، والدين كمنتج ثقافي، والإيمان بالمستقبل ليس صحيحا بالضرورة، أو التطور التكنولوجي ليس دليل تقدم، وغيرها الكثير من الأفكار التي يسهل طرحها قولا لكن يصعب إثباتها فعليا.
وعلى سبيل المثال لا بدّ من التساؤل كيف يمكن ألا يشكل الإرهاب تهديدا للغرب؟ في الواقع للإجابة على هذا السؤال لا بدّ من ملاحظة التركيبة الاجتماعية الآخذة بالتغير البطيء والتدريجي، لكن المتواصل في بنية المجتمعات الأوروبية وتنامي أعداد المسلمين فيها، على الرغم من أن الأنظمة السياسية والاجتماعية وطبيعة العلاقات الاجتماعية في الغرب قد حاولت استعياب مثل هذا المتغير واحتوائه، إلا أن الثقافات ما زالت تواجه صعوبة في الاندماج، وبالتالي فإن أي استغلال لمفهوم التسامح النسبي السائد في الغرب قد يشكل خطرا ومرتعا للحركات الإرهابية المتطرفة، كما رأينا في السنوات الأخيرة، ناهيك عن أن الرخاء الاقتصادي نسبي والاستقرار المجتمعي هشّ بطبيعته ولا يحتمل الخضات العنفيَّة وأيّ حركة متطرفة أو غير محسوبة يمكن أن تؤثر عليه.
أما قضية الفكر الأصولي الذي لا ينتج ـ يصنع كما وردت في الحوار ـ إرهابا، فتدفعنا إلى التساؤل الفطري والمشروع: من أين ولدت الأفكار المتطرفة التي يستند إليها الإرهاب والحركات الإسلامية العنفيَّة في أيّامنا هذه؟ وما هو الفكر الأصولي؟ هل هو فكر وطروحات الأخوان المسلمين التي شكلت المستند الأولي والشرعنة المبدئيَّة للإسلام السياسي والحركات المتطرفة التي تدور في فلكه أم هو الفكر الوهابي المستند إلى تفسيرات الأصول وفق نظرة سياسية واجتماعية ضيقة مرتبطة بالرؤى الماضوية ورافضة لحركة التجديد الحتمية التي تفرضها العلاقات الاجتماعية والاقتصادية المعاصرة؟ وهل ثمّة فكر أصولي متطرف غير الفكر الأصولي الديني في زماننا هذا؟
هل الدين منتج ثقافي حقّا أم ضرورة وجودية أم حاجة إنسانية؟ وأي متاهة يمكن أن يدخلنا فيها مثل هذا الطرح، على الرغم من أنّني أتفق مع أمين تماما على أن الإسلام واحد لكن بتفسيرات متعدّدة، إلّا أن هذا التعدّد في التفسيرات قد نجمت عنه شروخات بنيوية عميقة ما زالت تشكل عائقا حقيقيا أمام التطور والرقي الاقتصادي والاجتماعي.
في مواضع أخرى يتحدث أمين عن مبدأ حريّة التعبير وحدود الحريّة الشخصية التي يعيب عليها صفتها المطلقة والإساءة أو ربما الخطر الذي يمكن أن تشكله على مفهوم الحرية بشكلها المطلق، ويتخذ من التجارب الغربية نماذج لنظريته تلك، وهو أمر يجرنا إلى مناقشة الخصوصيات المجتمعية ومدى ملاءمة مفاهيم الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية لها كل وفق ثقافته وخلفيته المعتقداتية، وصعوبة إيجاد مقياس واحد أو نمط واحد لتلك المفاهيم، بدليل فشل المحاولات الساعية لإقحام الديمقراطية بمفهومها الغربي في مجتمعات شرقية ذات خصوصيات معينة.
وفي معرض حديثه عن اليسار يدعو أمين إلى نبذ الدعوات القديمة الهادفة إلى سيطرة الدولة على وسائل الإنتاج والعمل على الحدّ من النزعة الاستهلاكية للمجتمعات، وهي نتيجة حتمية في الواقع أثبتتها الوقائع والمتغيرات التاريخية التي حدثت في العقود الأخيرة والمتمثلة بانهيار دول المعسكر الاشتراكي والاتحاد السوفييتي، نتيجة للتطبيق المنحرف والشائن للنظريات الاقتصادية الماركسية، أما حصر هدف اليسار الجديد بالحدّ من النزعة الاستهلاكية، فهو مبدأ أحادي النظرة نسبيا، لأن ما ينتظر من اليسار العربي تحديدا، على الرغم من تنامي النزعة الدينية وطغيانها على الحياة اليوميّة للأفراد، الكثير في الواقع، ليس أوله ترسيخ المجتمعات المدنية والتصدي لهيمنة الأنظمة الدكتاتورية المتحالفة مع الأصولية الدينية، ولا آخره تثوير الشارع وتحفيز المجاميع الشبابية للثورة على تلك الأنظمة.
أما نظريته في شأن العقلانية المطلقة غير الموجودة، لأن الإنسان، من وجهة نظر المفكر، غير عقلاني بطبيعته، بسبب سيطرة العاطفة والخيال والذاكرة على سلوكه، فهو قول مختلف وتحليل عميق في الواقع، إذ يقول فرويد إن الغرائز هي أصعب المزايا أو العوامل في التحليل النفسي، وهي غير متوقعة أو مفهومة وتختلف من فرد إلى آخر، وانطلاقا من هذه النظرية فإنني أتفق مع أمين تماما في طرحه هذا، لكنّني اختلف معه لجهة التمييز بين عقلانية المنطق وعقلانية القوانين الوضعية التي تحاول أن تنظم سلوكيات الأفراد، ذلك لأن الخضوع للأنظمة والقوانين، ليس بالضرورة نابعا عن إيمان مطلق أو قناعة تامة بها، وغالبا ما ينزع الأفراد إلى التمرد عليها بين الحين والآخر حسب السلوكيات والتربية والأخلاق والعادات والأعراف والتقاليد، وهي في مجملها عوامل نسبية مكتسبة وليست ذاتية من حيثيات النفس البشرية. إن قدرة أو حجم خضوع الأفراد لتلك الأنظمة والقوانين هي التي تحدد حجم التحضر القياسي في مجتمع ما من المجتمعات إن جاز التعبير، لكنّه يبقى تحضرا شكليا إلى حد ما، إذا ما علمنا أن التحضر الحقيقي يستند إلى منظومة قياسات معقدة ومتعدّدة ومتداخلة لا يمكن صفّها أو ترتيبها في منهج واحد على الإطلاق.
وفي المحصلة فقد نجحت مجلة “الجديد”، كما هو ديدنها دوما، في تحفيز القارئ والمتابع والمثقف العربي على التفكير مجددا في قضية وجودية خطيرة للغاية هي ما الذي يريده العرب من مستقبلهم، باستضافتها المفكر الكبير جلال أمين وإتاحة أفكاره وطروحاته النقدية الجريئة للمناقشة.