العقل الإلكتروني الجديد
إن العقل وبتكوينه اللاإرادي غير المتناهي ينكمش داخل قفص حديدي يتموج بين الحركات اللاإرادية للفرد والتأثر بالمحيط. والعمل اللاإرادي الذي أصبح عليه الإنسان في القرن الحادي والعشرين هو انسجام بما يعبر عنه العلم الحديث بالعولمة أو بما يسمى الاستسلام للتكنولوجيا الرقمية.
إن الموضوع ينقسم إلى نوعين من الآراء؛ أصحاب الآراء الإبستمولوجية والنفسية، الذين يبرهنون على ذلك من خلال الحدس أو الاكتئاب العارم الذي يبرز عن عدم قدرة الفرد منا على الابتعاد عن ذلك القفص أو الجهاز الإلكتروني. أما البعض الآخر فهم من أصحاب النظرية العلمية الذين ينعتون الصلة بين الفرد من جهة والجهاز الذي يتعلق بالعمل أي ما يعطي الفرد العامل القدرة على التواصل مع الأشخاص المحيطين به بالعمل، حتى رغم عدم وجودهم المادي من حوله. إن العقل بطبيعته ينحو إلى الحرية المطلقة التي لا تسمح بأن تحد من قدرته الفعالة والعلمية التي تنتج عن اختلاط الكهرباء والإلكترون الموجودة داخله، أي ما يسمى الشك. هو الشك بكل ما يدور من حوله وذلك من خلال التساؤل كما ذكر كانط في عبارته “أنا أشك إذن أنا موجود”.
نجلس ونراقب بعض الأشخاص في غرفة واحدة كل منهم بيده جهاز إلكتروني خاص به لا يلتفت إلى ما يدور من حوله، كل في قفصه الخاص أو صفحته على شبكة “التواصل الاجتماعي”. يدخل غريب إلى الغرفة ويجلس، لا أحد يلتفت إليه أو يتفاعل معه، فيبدأ هو أيضا باستعمال هاتفه والدخول إلى قفصه الخاص به.
هذه كلها عبارة عن حواجز موضوعة بين الأفراد للحد من العقل الفعال، الذي مع الوقت بدأ بالنفور وعدم الاكتراث للعوامل الحقيقية التي تدور من حوله. إن هذه الحادثة ليست سوى محاكاة لواقع العقل الإنساني الحقيقي الذي أصبح عليه. ولقد أدّى هذا إلى اعتبار العلوم العقلية معارف عقلية محدودة، وبهذا المفهوم أصبح أن العقل غايته فقط محاولة لفهم رسالة أو نص محدد مسبقا. وذلك يتحدد من خلال حفظ العلوم العقلية ورفض الفلسفة التي تهدف إلى التساؤل والتأمل اللذين ينتج عنهما القلق للوصول إلى الثقة بالعلم والناتج عنه. يعتبر البعض أن التفكير هو فصل المعارف العلمية التي لا بدّ من استيعابها والعمل بها، عن أساسها المنطقي. وبذالك نكون قد اشترينا الصناعة المفبركة ولا نكون قد ساهمنا بمخترعات جديدة في النهضة العلمية الحديثة.
إن اعتبار نسبية المعرفة العلمية أقل أهمية من المطلقات. إن نسبية المعرفة العلمية هي التي تصنع قابلية التطور والقطيعة الإبستمولوجية أي إن تاريخ العلم هو تاريخ أخطائه؛ بمعنى أن العلم يتطور بتجاوز المعارف السابقة واكتشاف ما هو باهر وجدير.
إن هذا يجيب عن سؤال لماذا نحن شعوب تفشل وتنهزم، ونرفض التطور ونعتاش على فتات موائد العالم المتقدم. إن هذا الفشل يفسر سيكولوجية الانكماش بالماضي لتبرير التخلف الشامل. إن مشكلة هذا الواقع الذي نحن عليه ناتجة عن انكماشنا داخل هذا القفص وعدم القدرة على تجاوزه والتطور مع العقل العلمي للعالم. نحن لا ننتبه إلى أن نظرية المعرفة هي نسبية، وهذا لا يمكن من خلاله الخلط بين المعارف العلمية والنصوص المطلقة. فهذا التركيب غير المتجانس هو للتشويش على العقل.
إن الأبحاث العلمية والمعرفية لا يمكن أن تكون وأن تسمح للأيديولوجيا بالتحكم فيها. أي لا يمكن التوهم برفض المنطق العلمي لأن ذلك هو الانكماش الأكبر داخل التخلف. فبذلك يصبح العقل إلكترونيا، وذلك من خلال اعتبار القناعات الشخصية ورفض الأبحاث العلمية لإثبات صحة ما نعتقد، وليس لأن نشجع البحث العلمي على تطوير العقل العملي.
إن العودة إلى الذات الإنسانية هو الحل للخروج من القفص الإلكتروني والخروج إلى العقل الفعلي. يبقى السؤال هل تحديد وتحرير الأيديولوجيات دينية كانت أو عرقية هما الحل؟ أم العودة إلى الثقافة الأصلية ونزع البساط من تحت العقل الإلكتروني هما الحل للخروج إلى الحرية والاندماج بالعقل العصري؟