العلمانية والاستشراق ومركّب النقص
مسائل محسومة
من تلك المسائل المحسومة، وصف ما حاق بالجيوش العربية في حرب حزيران 1967 بالنكسة، والنكسة كما جاء في اللسان هي معاودة العلّة بعد النّقَه، ولا ندري أيّ نقَهٍ أنعش الجسد العربي قبل أن تعاوده العلّة، فقد ظل يرزح، قبل الفاجعة وبعدها، تحت حكم شمولي مطلق فشل في إرساء دعائم دولة ديمقراطية، تحترم الحقوق والحريات، ويحتكم فيها المواطن إلى القانون. وما حدث ليس سوى هزيمة مدوّية مُنيت بها ثلاث دول عربية في ستّة أيام، وسُحقت جيوشها، واحتُلّت مساحات شاسعة من أراضيها (سيناء وقطاع غزة والضفة الغربية والجولان)، ثم سعت أنظمتها إلى استغباء شعوبها بمثل تلك المصطلحات. كذلك الشأن في نعت هزيمة 1948 بالنكبة، ولو أن هذه العبارة ألصَقُ بمُصاب الفلسطينيين في أرواحهم وديارهم ووطنهم. هذا أمر لا خلاف فيه، وإن أبدينا بعض احتراز على ما ذهب إليه العظم من أن السبب الرئيس لهزائمنا المتتالية هو «حالة الإنكار المكرّسة من طرف الذات العربية على نفسها»، ويقصد هنا إنكارنا، نحن العرب كافة، لإسرائيل التي درجنا على تسميتها بالكيان الصهيوني. فالتسمية، وإن كانت دالة على العدو، فيها اعتراف ضمني بوجوده كقوة احتلال غاصبة، استولت على كل شيء، حتى التراث الفلسطيني. وهو ما يرفضه العرب، عدا دعاة التطبيع مع العدو. ومع احترامنا لتجربة العظم في مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، لا نعتقد أن ذلك هو سبب هزائمنا، بل غياب التخطيط العقلاني المحكم لمواجهة العدو في الداخل والخارج، والإحاطة بنقاط قوته وضعفه لتهيئة شروط دحره، وهذا من مهمة القادة السياسيين والعسكريين ومستشاريهم، فضلا عن أن الإنكار لم يكن حالة عامة، فقد كانت الإذاعة المصرية مثلا تبث برامج يومية من نوع «اعرف عدوّك» و»من قلب إسرائيل»… وحسبنا أن نعود إلى كتابات من عاشوا تلك المرحلة من موقع المسؤولية، كمحمد حسنين هيكل والفريق أول محمد فوزي والفريق سعد الدين الشاذلي، لنتبين أسباب الهزيمة.
من المسائل المحسومة أيضا الصدمة التي أحدثتها هزيمة 67 في نفوس العرب أجمعين، نخبة وعوامَّ، فقد فتحت أعينهم على البون الشاسع الذي يفصلهم عن الدول المتقدمة بعامة، وإسرائيل بخاصة، وفضحت تهافت أنظمة كانت تبشر بمشاريع لم تغادر طور الوعود، وتتوسل بخطاب تقدمي عن الاشتراكية والمساواة والعدالة الاجتماعية ظل على مرّ الأعوام مجرد شعارات. كان وقع تلك الهزيمة أشبه بالصدمة التي أصابت العرب عند حملة نابليون على مصر في نهاية القرن الثامن عشر، ولكن خلافا للوعي بحقيقة تخلفهم عن ركب الحضارة الذي نما وقتئذ، ويقينهم بضرورة الاحتذاء بالغالب في الأخذ بأسباب القوة والمعارف، دخلنا منذ تلك اللحظة في نفق يسلم إلى نفق، ولم نغادر حتى اليوم اجترار خيباتنا، وتكرار أخطائنا، والإمعان في جلد ذواتنا، دون أن تلوح لأنفاقنا نهاية.
من المسائل التي لم تعد بحاجة إلى نقاش أيضا خضوع المؤسسة الدينية الرسمية لأهواء الحاكم، فإن سطّح الأرض سطّحته، وإن كوّرها كوّرته. وقد ساق العظم مثال المفتي السعودي الأسبق عبد العزيز بن باز الذي ينعته فقهاء السلفية بـ «إمام العصر» و» مجدد القرن» والرجل كان حتى وفاته يكفّر من يقول بكروية الأرض في القرن العشرين، قرن العلم والمعرفة والتكنولوجيا، ويذكرنا بما أشار إليه سلامة موسى من فتاوى غريبة كانت تصدر في عصور الانحطاط لإجازة شرب القهوة مثلا واعتبارها خمر الصالحين، بعد أن كانت محرمة بفتوى أيضا يقام الحدّ على شاربها وحاملها وجالسها، كما يقام على شارب الخمر. وفي السياق ذاته لمّح العظم إلى مشايخ الأزهر الذين يدينون بالولاء والطاعة للمؤسسة العسكرية، صاحبة الفضل في تعيينهم وترقيتهم في وظائفهم، وكان يمكن أن يضيف أئمة المؤسسات الدينية في سائر البلدان العربية والإسلامية، فوجودهم على رأس تلك المؤسسات يكاد ينحصر في إضفاء شرعية دينية على خيارات الساسة، وتأويلها تأويلا يتناسب مع الشريعة، وإن لوى عنقها ليّا، كما حصل في عهد بورقيبة في مسألتي الصوم وتعدد الزوجات، وكما يحصل الآن مع فتاوى يوسف القرضاوي التي تفسر بمفردها سياسة قطر. فالإفتاء الذي ظهر في العهد الأموي، عندما صار المسلمون يلجؤون إلى أهل الحديث لتفسير ما يلتبس على الفهم من أمور دينهم ودنياهم، بعد أن فقدوا الثقة في طبقة حاكمة اتسم عهدها بالتفسخ والفساد الإداري، تحوّل تدريجيا إلى أداة بيد السلطة تشرّع به ما قد يصدم إيمان المؤمنين، مع الحرص على عدم الغلو في مخالفة التقاليد والأعراف في بعض المجتمعات المتزمتة.
أما المسائل الأخرى التي وردت في حديث العظم، والتي أوردناها أعلاه، ففيها نظر.
فيما يخص «الاستشراق»، بدت إجابة العظم مشوشة، فهو من ناحية يقرّ بالغلط الذي وقع فيه المستشرقون في تصورهم للشرق، ومن ناحية أخرى يعترض على الموقف نفسه حين يصدر عن سعيد
الدين للناس وليس للدولة
استوقفنا عنوان المحاضرة التي ألقاها العظم، «ليس للدولة دين، الدين للناس، لكون الدين في نظره يسكن كائنا ذا عواطف وأحاسيس، فيما الدولة عبارة عن مؤسسات خالية من الأحاسيس الضرورية للوازع الديني، وهذا في المطلق لا جدال فيه، ولكن الواقع يخالف النظرية. ولنأخذ مثلا المكان الذي ألقيت فيه المحاضرة، مدينة فايمر بألمانيا. هذا البلد الذي يُعدّ مركز الثقل في الاتحاد الأوروبي وأكثر أعضائه انفتاحا وتسامحا، لا يستجيب لأهم مبدأ من مبادئ العَلمانية، ونعني به فصل الدين عن الدولة، وإن جاء في الدستور منذ عام 1949، فالعنصر الديني حاضر منذ الديباجة: «إن الشعب الألماني، خلال ممارسته لسلطته التأسيسية، إذ يدرك مسؤوليته أمام الله والبشر…إلخ»، والفصل بين الفضاء المدني والفضاء الديني هو مجرد فصلٍ شكليّ، فالكنائس المسيحية (بروتستانتية بنسبة ثلاثة أرباع) هي عبارة عن مؤسسات لخدمة الصالح العام، تمارس السياسة، وتنشئ المدارس الخاصة والمستشفيات ومراكز تكوين رجال الأمن، وتفرض ضرائب على دخل أتباعها تبلغ عُشر أجورهم، وتوجه الرأي العام عبر وسائل إعلامها، وتتدخل في شؤون البلاد الاقتصادية وحتى في توجيه سياستها الخارجية. بل إن الكنيسة الإنجيلية، بما لها من قوة مالية، تعتبر من كبار أرباب العمل، كما أن القادة، من رئيس الدولة، إلى المستشارة أنجيلا ميركل، لا يخفون تديّنهم. ورغم ذلك، استطاعت ألمانيا أن تضمن المبادئ التي لا تكون الدولة ديمقراطية إلا بها، أي حرية الضمير والمعتقد، وحرية التعبير، ومساواة الأفراد أمام القانون أيّا ما تكن معتقداتهم وقناعاتهم، فضلا عن التعددية والتداول على السلطة. وقس على ذلك دولا أوروبية عديدة، لاتينية كإيطاليا وإسبانيا والبرتغال، وإسكندنافية كالسويد والدانمارك والنرويج (التي كانت حتى وقت قريب تشترط أن يكون نصف الحكومة من اللوثريين)، وأنغليكانية كبريطانيا العظمى، فالدين حاضر في مؤسسات الدولة، بشكل أو بآخر، سواء في ممارسة السلطة أو في تدبير شؤون المجتمع (كالحالة المدنية مثلا)، فيما لا تزال الكليروسية مهيمنة في بلدان أوروبية أخرى كاليونان وإيرلندة ومالطا وبولندة. بل إن البلد الأكثر علمانية، ونعني به فرنسا، يخرق منذ سنوات مبدأ من مبادئ فصل الدين عن الدولة، الذي أقره عام 1905، وهو حياد الدولة وعدم تدخلها في شؤون الجمعيات الدينية ولا تمويلها.
ولا يعني هذا أننا ضدّ فصل الدين عن الدولة، وإنما نذكّر بأن هذا الفصل يصعب تطبيقه بحذافيره في مجتمعات ذات جذور دينية ضاربة في القدم. والتاريخ حافل بالصدام بين اللائكي laikos والديني klerikos منذ الإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس والمسيحيين الأوائل الذين رضوا بحكمه واعترضوا عليه خليفة للرب على الأرض، ثم البروتستانت خلال الحروب الدينية وقد نادوا بحقهم في اعتناق ديانة غير دين الملك. وأخيرا الثورة الفرنسية، التي اعتبر بعض المؤرخين دعوتها إلى اللائكية حربا موجهة بالأساس ضد رجال الدين. ورغم التنظيرات المتعددة، منذ جون لوك وديدرو وفولتير ومن حذا حذوهم، لم تفلح سوى فرنسا في جعل العلمانية أمرا قائما: ما لله لله وما لقيصر لقيصر. فالغاية في النهاية هي ألا تحتكم الدولة في سن تشريعاتها أو إصدار أحكامها إلى مرجعية دينية، بل إلى قوانين وضعية تناسب مجتمعاتها وتستجيب لمقتضيات العصر. والخطر في بعض أقطارنا، كما في العراق، أن الدين تحول إلى أيديولوجيا، يحكمها منطق القوة والغلبة.
الحق أن الاستشراق، بما هو علم الشرق بجغرافيته وتاريخه وثقافته وحضارته، ظل منذ أن اتخذ صبغة علمية محلّ مساجلات لا تنتهي، بين مناهضين أبرزهم أحمد فارس الشدياق وشكيب أرسلان وعبد القادر يوسف ومحسن جمال ومالك بن نبي
الاستشراق والشرق الغائب
في ردّه على سؤال عن أوجه الاختلاف بينه وبين الراحل إدوارد سعيد فيما يخص «الاستشراق»، بدت إجابة العظم مشوشة، فهو من ناحية يقرّ بالغلط الذي وقع فيه المستشرقون في تصورهم للشرق، ومن ناحية أخرى يعترض على الموقف نفسه حين يصدر عن سعيد. فالاستشراق في نظر سعيد يطرح عموميات، ويطور مفهوما كتلويا، جامدا، جوهريا ومثاليا عن الشرق، ولا يدرج المجتمعات التي يدرسها في مسار نمو ديناميّ أو استمرارية تاريخية. وتحليل الاستشراق كمنظومة تفكير وتمثل تشهد على الكيفية التي قارب بها الغرب الآخر وعامله عبر التاريخ، هو في نظر سعيد مفرط في الذاتية، ما يطرح التساؤل عن صواب تقسيم الواقع إلى كتل متباينة، متنافرة بالضرورة. يقول سعيد: «الاستشراق يستند إلى المظهر الخارجي، أي أن المستشرق، شاعرا أو باحثا، يُنطق الشرق ويصفه ويضيء ألغازه للغرب… فهو خارج الشرق، كحقيقة وجودية وأخلاقية في الوقت ذاته». فالشرق بهذا المعنى، وكذا الغرب، لا وجود له إلا في أذهان من يتخيله على هذه الشاكلة أو تلك. وسعيد يعترف، في مقدمة طبعة كتابه الفرنسية لعام 2003، بأنه لا يدافع عن شرق محدّد الملامح، لأن الشرق، كالغرب، معقّد، دائم التحول، عصيّ عن الإدراك، ولا يمكن بالتالي وضعه في قوالب جامدة. ولكنّ للمستشرق رأيا آخر، فهو ينطلق من موقع من يملك القوة والمعرفة، وكلتاهما تخوّل له فرض رؤيته للآخر كحقيقة صارمة. عن علاقة الخطاب عن الآخر والنفوذ، يقول تودوروف في مقدمة «الاستشراق»: «أن تفهم معناه أن تؤول وتُضمّن: وأيّا يكن شكل المعرفة، في وضعها السلبي (الفهم) أو الإيجابي (التمثل) فإنها تتيح دائما لمن يملكها التلاعب بالآخر؛ فيغدو سيّد الخطاب هو السيّد ببساطة». فالاستشراق بهذا المعنى هو ملمح من الاستعمار والإمبريالية في الوقت ذاته. هو خطاب، وطريقة تأثير على الشرق، وحتى خلقه. «العلم بالشرق، لكونه نتج عن القوة، يخلق في وجه من الوجوه الشرق، والشرقي وعالمه.» ذلك أن الغرب يملك النفوذ مثلما يملك المعرفة، ما يجعل الربط بينهما سلاحا قويا يفرض سلطانا كان فوكو أشار إليه بمصطلح «رابط المعرفة والنفوذ».
والحق أن الاستشراق، بما هو علم الشرق بجغرافيته وتاريخه وثقافته وحضارته، ظل منذ أن اتخذ صبغة علمية محلّ مساجلات لا تنتهي، بين مناهضين أبرزهم أحمد فارس الشدياق وشكيب أرسلان وعبد القادر يوسف ومحسن جمال ومالك بن نبي، أعربوا عن الغيرة التي يبديها المسلم حيال تراثه، لا سيّما أن الظاهرة الاستشراقيّة تزامنت على امتداد القرن التاسع عشر والنصف الأوّل من القرن العشرين مع الحركة الاستعماريّة والتبشيريّة، وارتبطت بها في مواقع غير قليلة. إضافة إلى طبيعة المنهج الاستشراقي في مقاربة التراث الإسلامي وخاصّة النصّ الديني، وهو منهج يقوم على معالجة فيلولوجيّة ولسانيّة وأنتروبولوجيّة وتاريخيّة لا تبالي بقداسة النصوص، بقدر ما تبحث في نشأتها وطرق انتقالها. وبين منافحين أمثال طه حسين وزكي مبارك وبنت الشاطئ وعبد الرحمن بدوي ومحمد كرد علي ونجيب العقيقي ومحمّد عوني عبد الرؤوف، نظروا إلى الاستشراق بعين موضوعية، واعترفوا بدور المستشرقين في ترجمة أمّهات كتب التراث وتحقيقها، وفضلهم في إعادة اكتشاف المفكرين العرب، وكذا في الاكتشافات الأثريّة، وبعث المتاحف الشرقيّة، ووضع «دائرة المعارف الإسلامية» التي صدرت بالألمانية والفرنسية والإنكليزية قبل ترجمتها إلى العربية.
وحتى وقت قريب، ظل الخطاب عن الشرق حكرا على الباحثين الغربيين، في أوروبا وأمريكا. ولم ينهض من العرب من يعيد النظر في ماهية الاستشراق وغاياته، بعد تحرر البلدان العربية من الاستعمار، ودخولها منعرجا جديدا. فمحد أركون ومحمد الطالبي وجمال الدين بن الشيخ، على سبيل الذكر لا الحصر، كانوا في البداية تلاميذ نجباء للمستشرقين في معهد الدراسات الإسلامية بباريس حيث أنجزوا أطروحاتهم وترسّموا مناهجهم في الدراسة والتحقيق، وانتظروا زمنا قبل أن يناقشوا، من الداخل، مسلمات الاستشراق الفيلولوجي، دون أن يجرؤوا على مراجعة التقليد الاستشراقي القديم مراجعة جذرية، بل إنهم ساهموا في تطويره بتجديد آفاقه وغاياته ومناهجه. بخلاف أنور عبد الملك الذي خرج عما درج عليه الاستشراق الكلاسيكي في البحث الفرنسي خلال ستينات القرن الماضي وسبعيناته، ولو أن مقالته «الاستشراق في أزمة» أو «أزمة الاستشراق» كانت ذات صبغة أيديولوجية. وفي سياقه، جاء كتاب إدوارد سعيد كتحليل جينالوجي للخطاب الاستشراقي، وكان غرضه «إنقاذ» جانب من الاستشراق العلمي من هيمنة دراسات المناطق Area Studies (دراسات تتناول مناطق من العالم عبر حقول معرفية متنوعة)، هيمنة تحوّل فيها الباحثون، باسم الكفاءة العلمية، إلى نوع من خبراء مرجعيين شأن برنارد لويس. ولم يكن نقده لكبار المستشرقين، من ماسينيون إلى غولدتسيهر، استهانة بعملهم بل وضع الإصبع على عدد من الإشكاليات التي شابت أعمالهم. ومن الطبيعي أن يجادلهم بأدواتهم المعرفية التي أخذها عنهم، وبلسانهم الذي تعلّمه منهم.
كان بإمكان العظم أن ينتقد مثلا نعت سعيد كتابه بـ»مقاربة غربية للشرق»، والحال أنه اكتفى بالمقاربات الفرنسية والبريطانية عن المسلمين العرب وغفل عن الألمان والروس والطليان، أو أن عمله انحصر في مسلمي الشرق الأوسط الناطقين بالعربية، فيما مصطلح الاستشراق لدى البريطانيين يحيل على فضاء أوسع، يمتد من السنغال إلى اليابان. أو أن يعيب على سعيد انتقاده استنادَ المستشرقين إلى النصوص وحدَها، والحال أن عمله هو أيضا نصيّ صرف، يجادل مواقف ويستشهد بمقولات لمفكرين ومستشرقين من الغرب. ولكنه، في رأينا، لم يتقصد تقديم صورة مشوهة عن الغرب، أو تحريض العرب على كرهه.
تصور الشرق للغرب ومركّب النقص
عطفا على ما تقدم في إطار جوابه عن السؤال نفسه، يقول العظم إن «الشرق يحاول صنع صورة حول الغرب ويشوّهها»، ويضيف: «هذا الصورة مبنية على رغبة وميول عاطفية يحاول من خلالها الشرقي إرضاء رغباته كما يتمناها ويحلم بها.» ويعزو ذلك إلى مركّب نقص يتلبّس بالشرقي، على غرار الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك الذي «حاول بدافع مركّب نقص محاكاة النمط الغربي بكل مواصفاته»، فيخيل إلينا هنا أننا إزاء الطرح الخلدوني لمبدأ تشبه المغلوب بالغالب. جاء في الفصل الثالث والعشرين من المقدّمة وعنوانه «في أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيّه ونحلته وسائر أحواله وعوائده» قوله: «والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال في من غلبها و انقادت إليه إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب فإذا غالطت بذلك واتصل لها اعتقاداً فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به وذلك هو الاقتداء.» غير أن العظم يختم بقوله إن «الكثير مما يقال حول الغرب في العالم العربي هو نوع من القدح والتهجم والذم أكثر من المعرفة الجدية الموضوعية»، فنحار عندئذ كيف يمكن للشرقي (المغلوب) أن يقتدي بالغربي (الغالب) وهو يقدحه ويذمه ويتهجّم عليه، والشرط في المقتدي انبهاره بالمقتدى به كنموذج يود التشبه به، وأغلب الظن أن العظم خانته العبارة، فلعله أراد أن يصف فصاما يعاني منه الشرقي، فيحقد على الغرب لأنه حقق جنة الله على الأرض وحرمه الحلم بها، وفي الوقت ذاته ينبهر به ويروم تقليده في نمط حياته.
من جهة ثانية لا نجاري العظم في اعتبار النزوع إلى تقليد الغالب صادرا عن عقدة نقص، بل هو جزء من سيرورة الإنسان في بحثه عن التقدم والترقي، فقد قلّدَنا الغربُ في القرون الوسطى، مثلما قلدت اليابان الغربَ حين قررت إبّان عصر الميجي، الاِنفتاح عليه والأخذ بأسباب نهضته، بعد أن أدرك قادتها أن ينابيع التقليد جفّت، وما عادت تسمح لها بالدخول إلى حضارة العصر. بل يحدث أيضا أن يتشبه الغالب بالمغلوب، شأن العرب بعد انتصارهم على الفرس والروم البيزنطيين.
والمفارقة أن يقرّ العظم بذلك، فبعد أن عزا اعتناق أتاتورك النموذج الغربي إلى عقدة نقص تسكن الإنسان الشرقي، عاد، في سياق آخر، ليصفه بالبطل. جاء في معرض ردّه عن تهافت الفكر الديني قوله: « لنأخذ مصطفى كمال أتاتورك ودوره كبطلأنقذ تركيا من السيطرة الاستعمارية، فهو قد تمكن من أن يبدأ ويفتح سيرورات مستمرة منذ ثمانين سنة إلى يومنا هذا، وعمله هذاحفر في عمق الثقافة والمجتمع التركي الإسلامي المهيمن منذ قرون. فقد استطاع هذا القائد أن يغير من مسار هذا المجتمع بقوةالإرادة السياسية التي تبنّاها.»
يقول العظم إن «الشرق يحاول صنع صورة حول الغرب ويشوّهها»، ويضيف: «هذا الصورة مبنية على رغبة وميول عاطفية يحاول من خلالها الشرقي إرضاء رغباته كما يتمناها ويحلم بها.» ويعزو ذلك إلى مركّب نقص يتلبّس بالشرقي
الفلسفة والرواية وجوائز الغرب
يؤكد العظم، في شيء من المواربة المفضوحة، على أن الجائزة التي منحها إياه معهد غوته الألماني مؤخرا إنما هي تقدير لعطائه وإسهامه في إثراء الفكر الإنساني، ولا تعني بالضرورة تطور الفكر الفلسفي عند العرب، فهو يميز بين «تكريم الشخص وتكريم الإطار الفكري الذي تنتمي إليه الشخصية المكرَّمة»، بما يعني تفوقه على نظرائه العرب الذين لا يبلغون مبلغه، ويستشهد من باب المقارنة بفوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل، قائلا إن ذلك لا يعني «أن الأدب العربي وصل إلى درجة الأدب العالمي»، مضيفا في مقام آخر أن «الحديث عن إنتاج فلسفي عربي معاصر وراهن أعتقد أنه مبالغ فيه كثيرا». أي أن الثقافة العربية لم تنجب سوى عبقريين اثنين هو ونجيب محفوظ لمجرد أنهما حظيا من الغرب بتكريم، وفي ذلك غمط كبير لجهود أدباء ومفكرين أثروا الساحة العربية، ولم يلتفت إليهم الغرب إلا لماما، لأسباب لم تعد خافية. و العظم، الذي درَس ودرّس وأقام في الخارج، يعرف الدوافع الخلفية لإسناد تلك الجوائز، فمحفوظ مثلا، ما كان ليحوز نوبل – وهو يستحقها عن جدارة – لولا موقفه من إسرائيل، ولا سيّما في ظرف سعت فيه الأكاديمية السويدية إلى تصحيح عالمية الجائزة، بعد أن صارت حكرا على أوروبا الغربية وأمريكا. إن مقارنة بسيطة بين أعلامنا وبعض من فازوا بها تبين مدى انحياز المؤسسات الغربية. أين وولي سوينكا من سعد الله ونوس؟ وأين جوزيف برودسكي من محمود درويش؟ وأين غاو شينغجيان من عبد الرحمن منيف؟ وأين باتريك موديانو من إلياس خوري؟ ولكن للغرب أحكامه – ما دام يملك النفوذ والمعرفة كما أسلفنا – وإلا بماذا نفسر منح جائزة ابن رشد للفكر الحر لعام 2014 في العاصمة الألمانية لرئيس حزب حركة النهضة الإسلامية التونسية راشد الغنوشي، الذي من مآثره قوله: «ماذا يهمّنا أن نعرف موقف المعتزلة من صفات الله، وموقف ابن رشد من الكون هل هو قديم أم مُحدَث، ورأي ابن سينا في النفس وخلودها، وموقف الأشعري من الكسب والقضاء والقدر وقضية القرآن قديم أو محدث… ألم يأت الإسلام ليقدّم للناس حلولا عملية ؟»، واعتباره المرأة كائنا تناسليا ما وجد إلا لإشباع رغبة الرجل في الجماع والتكاثر، فضلا عن تدميره الاقتصاد التونسي بعد الثورة، وتواطُئِه مع الإرهاب، ودفعه الشباب إلى الجهاد في سوريا؟
فيما يخص الفلسفة، صحيح أنها لا يمكن أن تزدهر إلا في إطار نهضة علمية شاملة، ومناخ تسوده الحرية، وحق الاختلاف بمعناه الأنطولوجي، وارتباطها بمحيط ثقافي غير خاضع للوصاية الثيولوجية التي تكاد تهيمن على المؤسسات والعقول، ولكن هذا لا يعني أنها غائبة كما ذكر العظم، ولنا في إسهامات ثلة من المفكرين أمثال طيب تيزيني وعبد الله العروي وهشام جعيط وفتحي التريكي وحسين مروة وزكي نجيب محمود وفؤاد زكريا وآخرين خير مثال.
وعودة إلى الجوائز التي لا تعني بالنسبة إلينا أي شيء، عربية كانت أم أجنبية، نذكّر بما جاء في كلمة كان ألقاها خوان غويتيسولو بمناسبة منحه جائزة ثيربانتس، نوبل الآداب الإسبانية: «أن أكون محلّ تبجيل من المؤسسة الأدبية يدفعني إلى الشك في نفسي، ولكن أن أكون في نظرها شخصا غير مرغوب فيه، فهذا يؤكد وجاهة موقفي من حيث السيرة والعمل. من علياء شيخوختي، أحس قبول هذا التكريم كضربة سيف في الماء، كاحتفال لا فائدة من ورائه.»
وصم العربية بما ليس فيها
ساءنا من العظم قوله «التعبيرات المطاطة التي اشتهرت بها اللغة العربية»، فالعربية لا تؤخذ بجريرة من يرسل الكلام عل عواهنه، إما سفاهة كما يفعل الساسة، أو تدجيلا كما يفعل الوعاظ، أو هذرا على غرار المعلقين الرياضيين. فاللغة، أي لغة، يمكن أن تكون فضفاضة تدمدم كطبل أجوف، ويمكن أن تكون دقيقة تحلّ كل كلمة موضعها، وإنما العهدة على قائلها. يقول العرب: خيرُ الكلامِ ما قلّ ودلّ. فالبلاغةُ عندهم في إيجاز القول وشحنه بالدلالات المفيدة، والمعاني البليغة. ومن الأمثلة على الإيجاز البليغ أن يحيى بنَ خال قال لشُريْك: علّمْنا مِمّا علّمكَ الله. فقال: إذا عمِلتُم بما تعلَمون، علّمناكم ما تجهَلون. وقالت زوجة يحيى بن طلْحة لزوجها: ما رأيتُ ألْاَمَ من أصحابك، إذا استغنيْتَ لَزِموك، وإذا أعسَرْتَ تركوك. فقال لها: هذا من كرَم أخلاقهم، يأتوننا في حال القوّة منّا عليهم، ويُفارقوننا في حال الضَّعْف منّا عنهم. وقيل للخليل بن أحمد، واضع علم العروض: ما لك تروي الشعر ولا تقوله؟ فقال: لأني كالْمِسَنّ، أشحَذُ ولا أقطَع. ويروى أيضا أن الخليفةَ المنصور كتب إلى جعفر الصادق يقول له: لِمَ لا تغْشانا كما يَغْشانا الناس؟ فقال: ليس لنا من الدنيا ما نَخافُكَ عليه، ولا عندك من الآخرة ما نرجوكَ له. فالعيب ليس في اللغة، وإنما في من يستعملها.