الغرائبي واليومي والخيالي والواقعي

رواية "منطق الزهر" لمحسن يونس
الاثنين 2021/03/01
لوحة فؤاد حمدي

لماذا نظل على حالة الطربوش؟ سؤال فرج الفوانيسي إلى ولديه يمثل جملة من الجمل المركزية في رواية “منطق الزهر” للكاتب محسن يونس، وهي الرواية العاشرة له، إضافة إلى خمس مجموعات قصصية، فضلا عن كتاباته للأطفال وفي منجزه ينحو باتجاه التجريب، ويقدم نصوصا لها خصوصيتها وتفرّدها.

في رواية منطق الزهر يبدو البيت والمصرف بجانب المهنة المنقرضة والجارة “بسيمة” علامات سيميائية في سردية تنتمي إلى اللارواية؛ إذ تغيب الحبكة الدرامية وتنامي الحدث، بل يمكن القول بالتمرد على قواعد الحبكة والجمع بين وظائف الحكاية كالاكتشاف والخداع والاختيار والتحفيز مع الوظائف التكاملية في السرد حيث العلائق بين حدث وآخر، فالحكايات منفصلة ومتصلة في آن، وتأتي هذه السردية عبر 21 فصل تجمع بين المتن والهامش من خلال تقنية الراوي العليم المحايد، ويتشكل النظام البنائي للنص من أساليب سردية متنوعة يبرز من بينها استبطان المرجع الخارجي وإعادة صياغة الحكايات في تناغم بين العناصر السردية، يصنع من خلالها برنامجا سرديا مركبا؛ إذ يتشكل الزمن من لحظات تضم حكايات صغيرة بين الهامش والمتن، يجمع الراوي داخلها بين أزمنة متنوعة، تضم الواقع من خلال اللحظة الآنية والتاريخ عبر الاسترجاع والذاكرة الاستعادية والحلم، ومن داخل هذه اللحظات يتشكل الاستباق والاسترجاع بتلقائية، ليقدم الحياة والتاريخ والصراع معهما داخل جسد النص بصورة ساحرة وساخرة عبر تيمات متعددة تمنح النص اتساعه غير المحدود، وصيرورته التأويلية، وقدرته على التشويق والضحك حد البكاء.

إن النص لا يكتفي بتصوير لواقع أو الدلالة عليه، بل يشارك في تحريك وتحويل الواقع الذي يمسك به في لحظة انغلاقه، إنه لا يجمع شتات واقع ثابت أو يوهم به دائما، وإنما يبني المسرح المتنقل لحركته التي يساهم هو فيها، فهو يرتبط باللغة وبالمجتمع إنه وليد خارج الواقع ولا متناه في حركته المادية يبني لنفسه منطقة تعدد للسمات إذ يجمع كما من العلاقات المتناقضة واللحظات المنفصلة والمتصلة، تجمع الواقع حيث البيت المتهالك الكائن أمام ترعة تمتلئ بمياه الصرف تنبعث منها رائحة خبيثة، ويعاني من نشع على حجارته وجدرانه تشبه المصفاة وقد تحول إلى أعشاش للطيور، وداخل هذا البيت يعيش “فرج عبدالوهاب الفوانيسي” الأرمل السبعيني صانع الطرابيش مع ولديه “محمد رمان” و”معروف”، إنه يعاني من الشيخوخة كالبيت تماما، وبجانبه جارته “بسيمة ” التي تمثل ملاكه الحارس والأنثى الحياة، ومع غيابها ينهار عالمه ويفقد أمواله، ومن خلال هذه الحكاية البادية عادية، والشخصيات المحدودة يتسع العالم ويمتد من تاريخ بناء البيت في زمن “طومان باي” إلى القط “بس” ومن حكايات “التنوخي” و”ألف ليلة وليلة” التي يعيد صياغتها وتوظيفها و”سعد زغلول”، وزمن رواج الطرابيش مهنته التي يتمسك بها وحتى الحكايات اليومية كجائزة البريد وبرنامج المسابقات واللحم الذي يتذوّقه من يد المرشح في انتخابات البرلمان، وتنتج هذه الحكايات بتنوّعها دلالات رحبة منفتحة لا حدود لأفقها، يؤكد من خلالها إن الدال النصي لم يعد مرتبطا بمعنى ذي جوهر واحد، إنه شبكة من الاختلافات التي تصب في تحولات الكتل التاريخية، وبما أن النص مساحة خصوصية للواقع والتاريخ فإنه يمنع من المطابقة بين اللغة كنسق لتوصيل المعنى والتاريخ ككل خطي مستقيم، أنه ما يُمكن من تحطيم الآلية التصويرية للخط التاريخي، ومن ثم يمكن قراءة تاريخ ذي زمنية مجزأة واستعادية وجدلية غير قابلة للاختزال إلى معنى وحيد، والممارسة النصية تسعى إلى زحزحة ذات الخطاب – بما تضمه من معنى أو بنية – عن مركزها لتؤسس وجودها داخل لا تناه اختلافي عبر موقف جمالي وواقعية مغايرة، ويبدو ذلك جليا من خلال العلاقة بين المتن والهامش في العناوين الداخلية للفصول، وكذا في الحكايات وتجاوزها من خلال إعادة صياغتها وتشكيلها جماليا (سمعت في التو ما يشبه الضحك، والكائن الحيوان يرتفع عن الأرض مقدار مترين، وينخفض ضاربا الأرض بقوائمه العريضة الصلبة، فترتج، كان يقول “معروف لا حق لأحد أن يستلب منك حتى تفاهتك، وأنا أقودك إلى كنز، سيجعل منك قارون هذا الزمان” (ص 85).صورة

 وتستمر حكاية “معروف إلى أن يتبدد الحيوان، تبدد الحيوان، صرت وحيدا، أقف على قدمي في مركز ميدان التحرير” (ص 86) أو “خرج الجد بنفسه، يحمل طلبية الطرابيش إلى سواق أوتومبيل الباشا، في أثناء هذا ادعى عمي بسام أن لديه في جيبه زلطة مطلسمة تجعله يختفي إذا أراد عن العيون،… في البداية فهم الباشا سعد زغلول أن عمي بسام فرد مقاوم من أحدى الفرق التي تقاوم وجود الإنجليز” (ص 48).

 وهذه الحكايات التي تحمل إلى جانب الغرائبية موقفها من التاريخ تتجاور مع الحكايات اليومية، حيث شرب الشاي والطبيخ وشراء السمك وصوت الطرقات على الباب، والعلاقة مع الجارة بسيمة وحتى في طيران معروف يشاهد الحارة والدكاكين والمنازل ومن يسكنونها، والسمسار في مساومته لبيع البيت، فالرواية توزّع مواضيعها من خلال التنوع الاجتماعي والتباين الفردي بين الأصوات وتعبر عنه أركستراليا حيث تتنوع العلاقات والصلات بينها، وهو ما يتحقق في سردية “منطق الزهر” حيث حكايات الماضي عن أسرته والتي تجمع بين الواقع والمتخيل وبين الغرابة والسخرية، وانعكاس الحدث الماضوي ليتحقق في اللحظة المعيشة، كما في سجن “محمد رمان” حين يقبض عليه مع بعض أصحابه وهم يسرقون مقياسا أثريا للنيل، فيستعيد “فرج” حكاية حبس جده وأعمامه، وحكاية القط “بس” وكيف عاش في البيت قبل أن يهرب به أحد أعمامه ويعيده إلى معبد “دندرة”.

وحين نستعرض سردية “منطق الزهر” لا يمكن إغفال التخييل الذي يتجاوز بناء عالم متخيل، ليمتد داخل التفاصيل والحوار متجاوزا البلاغة التقليدية إلى توظيف تقنيات متعددة ترتبط بالصورة والسيناريو والمجاز البصري، إضافة إلى الحلم والحكايات الخرافية وتوظيفهما في تنوع وتناغم قدّم من خلاله تشكيلات جمالية متعددة، صنعت المتعة والتشويق كما فتحت آفاقا دلالية، وأسئلة تكشف عن اللايقين في هذا العالم، ومنح ارتباطها بتيمة السخرية رحابة غير محدودة، والسخرية من التيمات الرئيسية في الرواية وتعد أقصى درجات الألم إنه ضحك يقودنا إلى البكاء.

أما عن المكان أو البيت فقد شكل حالة جمالية وهو علامة سيميائية رئيسية بجانب أنه شكل شخصية داخل النص، ليتجاوز المقولات السابقة عن جماليات المكان والبيت الوطن والحيز والفضاء إلى أخر هذه المصطلحات، أن البيت جزء من جسد فرج عبد الوهاب الفوانيسي وموطن للحكايات والتاريخ ودائرة للصراع ومحل سكنه ومهنته المنقرضة ومصدر دخله الضئيل كذلك، إنه يعاني الخرف والشيخوخة يشبهه وكأنه انعكاس لذاته.

صورة
لوحة فؤاد حمدي

أما الشخصيات فجاءت متنوعة بما في ذلك الشخصيات الهامشية، وشكلت أسرة فرج عبد الوهاب الفوانيسي صورة لأسرة مصرية صغيرة وبدا ” فرج” البطل الطرابيشي صاحب المهنة المنقرضة شبيها بكبار السن الذين نعرفهم، وهو يبحث عن أحلامه بالثراء ويقع ضحية لها مرات عديدة بشكل ساخر ومأساوي مرة حين يذهب إلى مكتب البريد ليكتشف أن الجائزة لا تخصه وتشابه الأسماء الذي أوقعه في ورطته، وتارة في مشاركته مع ولديه وجارته ببرنامج للمسابقات كأسرة وعلى الرغم من توقع الأسئلة يفشلون في الإجابة، ويعود متحسرا، وفي النهاية يخدعه التاريخ ويستغله محتالان ليفقد آخر مدخراته القليلة، إنه كما يناديه صديقه “طربوش” شخص عادي يبحث عن الخلاص من خلال أحلام لا تتحقق، يغذيها الماضي، أما ولداه “محمد رمان” العاطل بسلبيته وخيباته ومشاكساته مع شقيقه “معروف” فهما صورة أخرى له ولجيل يبحث عن وجود لا يتحقق، والجارة “بسيمة” نشعر بأنفاسها داخل النص، إنها برغم وحدتها تبدو أكثرهم إيجابية، وهي صورة لسيدة شعبية بسيطة تتعاطف مع جارها المسنّ هربا من وحدتها، وتمثل الأنثى الحياة والملاك الحارس، إنهم يتجاوزون الكائنات الورقية التي تحمل الخطاب الروائي، ولا يمكن اعتبارهم أهل الكهف إنهم شخصيات حية نعيش معهم وجوارهم، وجاءت الشخصيات الهامشية متنوعة خاصة أعمام فرج وحكاياته عنهم.

أما العنوان فقد ظهر في الفصل الأخير ومتوافقا مع المثل الشعبي الشهير” معلهشي يا زهر” ومع رهانات فرج الفوانيسي الخائبة، وهزائمه المتوالية في صراعه مع الحياة والتاريخ.

إننا أمام سردية شديدة الثراء تحمل خصوصيتها، ونظامها البنائي، وتصنع منطقها الفني، وتحتاج إلى قراءات متعددة سواء لعناصرها السردية أو محتواها وتشكل إضافة للرواية العربية.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.