الغزالة وأطياف السراب

الخميس 2016/09/01
تخطيط: حسام بلان

على صخرة أجلس مراقبا الخلاء الوسيع الذي تفرضه الصحراء، قبضة من وهج تنحو للجحيم المطلق، وعيّل جرته المخيلة لسن الجبل غير عابئ بالتهديدات ولا العلقة الساخنة التي في انتظاره، ما يربكه في تلك اللحظة هو مراقبة التحولات التي تخطها الكائنات فوق أديم الصحراء الملتهب، جيوش تتقدم وجيوش تتأهب للدفاع، والجنود من كافة الأشكال والألوان وبكل التداخلات والتمازجات خالقة أشكالا جديدة لحيوانات أسطورية سيتعرف عليها الغلام فيما بعد، لكنها الآن في وعيه تحمل كل الرعب الذي لا قبل للكون بأسره أن يجابهه.

وحيدا على صخرة في صحراء وحيدة، مهملة ومنسية إلا من سرابها وخلقها المتجدد في كل لحظة تتراءى لعين الصبي القابض على أنفاسه وحواسه المتيقظة في ألا يفوته شيء من المشهد العارم؛ كان النيل بعيدا في تلك اللحظة بالكاد يلمح سطحه المستوي دون شرد تحركه رياح الصيف الصامتة، هل كان يراه؟ أم هو ذكرى في خياله فقط، غير أن المياه التي نبتت بعيدا لم تكن كافية لطمأنته، فسرعان ما تبخرت كاشفة عن الهول العظيم الذي عليه أن يتابع تبدلات فصوله دون سند من أحد ينير له تقلبات السراب، أو يقنع الشمس أن تخفف من جنونها في وقدة الظهيرة، لم تكن يده الصغيرة قادرة على حماية وجهه وعينه من اللهيب، بقدر بؤسها وهى تحاول أن تستعيد تفاصيل المشهد البعيد القابع الآن كطيف مر بصبي ترك صحبته وراح يصعد مرتقاه وحيدا.

الحكاية القديمة لم تجد لها مأوي في متون الأوراق الصفراء ففرت من فم جدته للصحراء وحطت بكل كيانها أمامه، وكانت غزالة تمر قاطعة بحر السراب المتلاطم بالوحوش والعماليق غير ملتفتة إلا لجمالها الباهر الأخاذ، والذي أجبر الجيوش على الانفصال والإفساح لها كي تمر متأملين الجمال الطاغي الذي نبت فجأة وسط هذا القبح والضجيج وسكون الصحراء، في المنتصف توقفت والتفتت نحو الصبي، أكانت تشير إليه؟ أم تدعوه كي يلحق بها، وهو الذي لم يدرك الحكاية بعد، وظن الحكاية قد خطفته بداخلها فصار واحدا من شخوصها، أو أن لهيب الصخرة في قدميه العاريتين أفقده القدرة على التميز، أغمض عينه لحظة كي يستفيق، وحين فتحها كان المشهد قد تغير برمته، تلفت بحثا عن عيون الغزالة والسراب والجيوش والوحوش، وخاف أن يكون قد غفا أو أن الحكاية قد التفت من وراء ظهره، فتساند على كفيه واستدار فلم يجد لا نيلا ولا نخيلا ولا بيوتا لقرية كان يسكنها ويتجول بين دروبها ويقابل رفقته من عصبة كان تسمى نفسها وحوش الفلا، شاركهم كثيرا في غاراتهم المتوجة بالخيبة والضحكات الهازئة، كل ما يعرفه قد اختفى وحل الخلاء الفادح للصحراء وزئير هائج ينبت من قلب عاصفة تزحف مقتربة ببطء منه.

بعد نجاحهم في اقتناص عدد من السجائر، مما عدته العصبة فوزا يضاف لمغامراتهم وكونهم أصبحوا رجالا قادرين على فعل ما يريدون حتى وإن كان عليهم أن يدخنوا سجائرهم مستخفين من العيون في مغارة، كانت سحب الدخان تتصاعد متلكئة على الجدران الصخرية مكونة لمحة من معركة دارت خلف الجبل استعادها الصبي وقرر أن يقص ما جرى لكن بتعديل بسيط، فقد أوعز لرفقته أن ما سوف يحكيه هو إعادة لحكاية سبق وسمعها من عابر شبه مجذوب، واستفتح الحكي بعيون الغزالة فتأوه البعض ودخل شراك القص طائعا، وعبر الجيوش المتقاتلة كان قد أحكم قبضته على سمعهم وأرواحهم ووجدانهم فكانوا يستزيدونه وهو لا يدرك حتى الآن ما الروح التي تقمصته في الحكي غير أنه يدرك أن شيئا هائلا يسكنه ولا بد لأحد من أن يسمعه؛ أن ينصت لصحراء تريد أن تتشكل وفق إرادتها، كنبتة تخاصر ريحا رخية وترقص على مهل على وقع نسغها الداخلي مكونة مع إيقاع الريح لحنا بدائيا حوشيا يخصها بين ألحان الكون المتعددة.

ربما كانت صحراء الكتابة أكثر كرما وعطفا من صحراء تشكل سرابها بنزق غير مستعاد، غير إنها أكثر إيلاما في صدها وجنوحها ورعونة ما ترتكب من حماقات تشبه غارات عصبة الفلا الخائبة إلا قليلا، في زمن آخر سيدرك ذلك الصبي المفتون بالغزالة وعيونها أن للسراب ألوانا وأوضاعا أخرى، فسراب البحر في الصحراء أزرق وأشد قسوة، وسراب الزروع أخضر كثير المراوغة والتخلق لا يستقر ولا يمنح نفسه إلا للمنذورين للتوهة والطيش؛ كرغبة لن تتمكن من الإشباع أبدا؛ غير أن سراب الغزالة يظل هو الأكثر فتنة وغواية.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.