الفاعل الغائب
تستدعي أي مقاربة للعلاقة بين النقد والتجربة الشعرية العربية المعاصرة دراستها، ضمن سياقها التاريخي والمعرفي، الذي ظل فيه النقد العربي حائرا في اختياراته المنهجية بين إغراءات المدارس النقدية الغربية الحديثة، والتراث النقدي العربي القديم، دون أن يتمكن من حل مشكلة الهوية، والعبور نحو صياغة هوية نقدية خاصة، وقاعدة مفهومية تواكب التطور المعرفي والنقدي الحديث من جهة، وتستجيب لحاجات النص الجديد نظريا ومنهجيا من جهة ثانية.
لقد أسهمت هذه التجاذبات على مستوى الوعي النقدي العربي في خلق حالة من التشتت، جعلت الممارسة النقدية تقع تحت تأثير المناهج النقدية الغربية، نتيجة التطور السريع لهذه المناهج، وانبثاقها من داخل بعضها البعض، حتى بات عاجزا حتى عن مواكبة تطورها. لذلك لم يستطع أن يؤسس لقاعدة مفهومية وإجرائية تساعده في الانطلاق نحو تكوين وعي نقدي خاص به. والحقيقة أن هذه المشكلة التي واجهها النقد العربي، وما زال، كانت وما زالت جزءا من مشكلة أوسع ترتبط بالواقع الثقافي العربي، وغياب المرجعيات الفلسفية والفكرية، التي يمكن أن يستند إليها هذا الوعي في انطلاقته نحو البحث والتجديد، على غرار ما هو حاصل في الثقافة الغربية.
التأسيس الغائب
لقد عاشت التجربة الشعرية العربية الحديثة في مرحلة صعودها خلال النصف الثاني، من خمسينات القرن الماضي، والنصف الأول من ستيناته صراعا قويا بين اتجاهين من الوعي الجمالي والفكري، اتجاه انتصر للوظيفة الاجتماعية للشعر، تمثل في شعراء قصيدة التفعيلة، وقد ظهر فيه واضحا تأثير الفكر اليساري وأطروحاته الجمالية الخاصة، عن الوظيفة الاجتماعية للأدب، واتجاه آخر كان متأثرا بتحولات الشعرية الغربية الحديثة والفكر الليبرالي، تمثل بشعراء قصيدة النثر. وعلى الرغم من أن الاتجاه الأول شهد تراجعا كبيرا مع صعود قصيدة النثر وفشل المشاريع السياسية، فإن الاتجاه الثاني لم ينتقل هو الآخر من مرحلة النقل، إلى مرحلة التأسيس لأسباب عديدة، كان أهمها أن رواد هذه التجربة هم من كانوا ينظرون لهذه التجربة، على ضوء المعطيات الناجزة لمفاهيم قصيدة النثر الغربية. لذلك لم تفرز الحركة الشعرية الجديدة نقادا يواكبون تحولاتها، ويعمقون أطروحاتها على المستوى النظري والإجرائي، في ما يخصّ مفهوم الحداثة الشعرية، وأشكال التعبير عنها في القصيدة الجديدة.
ومع غياب هذه المرجعيات النظرية كان على الشاعر العربي، في هذا المشهد أن يعتمد على جهده الخاص وموهبته، في تعميق تجربته وتطويرها على مستوى الذات والعلاقة مع العالم، عبر استيعاب منجزات التجربة الشعرية العربية والعالمية، وعلاقته باللغة بوصفها الحامل الأساس في مشروعه الشعري، إضافة إلى إغناء خزينه الثقافي العام أو البعد المعرفي للتجربة، بعد أن أصبحت تتقاطع مكونات ثقافية وأدبية عدة، في فضاء القصيدة الجديدة ووسائل تعبيرها. لكن هذا التطور الذي شهدته قصيدة الحداثة، لم يرافقه تطور مماثل في الممارسة النقدية العربية، ووعيها النظري لهذا التطور على المستوى المنهجي، لأسباب عدة كان أهمها كسل النقد وتقصيره عن تطوير أدواته، وأشكال مقاربته وتحليله لهذه النصوص الجديدة، أو نتيجة التلفيق في الممارسة النقدية، بعد أن تنازعت النقاد اتجاهات نقدية شتى.
نكوص نقدي
وتعدّ حقبة ثمانينات القرن الماضي وما تلاها بداية التراجع الواضح، في انشغال النقد العربي بدراسة الشعر العربي الحديث ومواكبة تحولاته، على مستوى اللغة والبلاغة الحديثة وخصائص التعبير في القصيدة الجديدة، بسبب التحولات التي كانت تطرأ على أشكال الكتابة الشعرية، وعجز الحركة النقدية عن مواكبتها. والحقيقة أن هناك عوامل عديدة أسهمت في ضعف المواكبة النقدية للتجربة الشعرية الجديدة، كان من أهمها عجز هذه التجربة عن بلورة حركة نقدية تواكبها تنظيرا وتحليلا، مع دخول مفاهيم جديدة وتشكل رؤى متعددة، حول مفهوم الكتابة الشعرية وشبكة العلاقات الداخلية التي تنظمها من الداخل، وفي مقدمتها علاقات الانزياح اللغوي والبلاغي الذي أسهم في بناء علاقات جديدة على مستوى اللغة وقواعدها، ساهمت في توسيع دلالات اللغة، وتشكيل أساليب تعبير وتراكيب جديدة، عبرت عن رؤية الشاعر الجديدة للأشياء واللغة.
أما السبب الآخر والأهم فهو صعوبة الانتقال في النقد من المستوى النظري للمناهج الحديثة، إلى المستوى التطبيقي، خاصة مع بروز نوع من الكسل النقدي، ترافق مع غياب القضايا الكبرى، وتراجع حضور الشعر في الثقافة العربية. وكما هو معروف فإن كل مرحلة تحول تشهد حالة من الفوضى الشعرية، واختلاط المفاهيم والرؤى، ما ينعكس سلبا على واقع الشعر، وبالتالي على حركة النقد المواكبة له.
إن مشكلة نقد الشعرالعربي، والتي هي جزء من مشكلة النقد العربي الحديث عموما، قد تمثلت في افتقاده إلى مرجعيات فلسفية وفكرية، يستند إليها في تكوين وعي نظري، على تواصل وتفاعل مع التجربة الشعرية الجديدة، يضاف إلى ذلك تركيز حركة الترجمة العربية، على الأعمال الخاصة بنقد الرواية الحديثة ونظرياتها السردية، الأمر الذي جعل مفهوم الحداثة الشعرية في الشعر الغربي بتحولاته واتجاهاته المختلفة، يصل إلينا معزولا عن سياقه الفلسفي والمعرفي في الغالب، وهو ما انعكس سلبيا على أي محاولة لتأسيس علاقة موازية بين النقد والشعر، وأدى بالنقد أن يتخلى عن دوره على مستوى التنظير والتحليل، خاصة مع التحديات الجديدة التي طرحتها الكتابة الشعرية الحديثة على النقد، على مستوى بنيتها اللغوية والبلاغية الجديدة، وشبكة علاقاتها التي أقامتها مع الفنون والأجناس الأدبية الأخرى.
لقد أسهم هذا الوضع في خلق حالة من البلبلة وفوضى الكتابة، نتيجة لغياب العلاقة الحوارية بين النقد والتجربة الشعرية، وعدم وجود مرجعيات نظرية ونقدية، تستند إليها في اختياراتها، ما جعل هذه التجربة تتخذ في الغالب من قراءاتها الخاصة للشعرالغربي المترجم، وبعض تجارب رواد قصيدة النثر مرجعية لها، دون أن يكون هناك إطار نظري تعمق من خلاله رؤيتها إلى الكتابة الجديدة، بوصفها وعيا جديدا ومعمقا باللغة وطرائق تشكيلها وبنائها، بصورة تعيد من خلاله رسم صورة الأشياء، وعلاقة الذات بالعالم، ولذلك كان طبيعيا أن يتحول السائد في الكتابة الشعرية العربية، إلى مرجعية للتجارب الجديدة، دون أن تكون للنقد مساهمة جدّية في تعميق تحولات الكتابة الجديدة، وتطويرها على مستوى الوظيفة الشعرية للغة، وخلق نظام علاقات جديدة داخل القصيدة.
النقد والمرجعية
ثمة أسباب تقف في خلفية هذا المشهد، من أهمها محدودية المرجعيات النقدية الغربية الخاصة بالشعر، والتي يمكن أن يتغذى منها النقد العربي الحديث، خاصة في ما يتعلق بقصيدة النثر واستراتيجيات كتابتها، الأمر الذي جعل أغلب شعراء قصيدة النثر يتخذون من تجارب كتابة قصيدة النثر في الغرب مرجعيات لها، أكثر من ما اتخذوا من التنظير النقدي الغربي مرجعية لتكوين وعيهم الجمالي الجديد، باستثناء الشعراء الرواد من أصحاب مجلة شعر، الذين تبنوا أطروحات سوزان برنار في كتاباتهم الجديدة والتنظير لها.
لقد تجلت المشكلة في الكتابة الشعرية العربية الجديدة في أنها جاءت مترافقة مع بداية تراجع حضور الشعر في الثقافة العربية وصعود الرواية، التي أصبحت كتابتها تشكل إغراء حتى بالنسبة للشعراء أنفسهم. والحقيقة أن الانشغال النقدي بالرواية العربية لم يكن سببه الوحيد هذا الصعود الكبير للرواية، وانتشارها، بل وجود وفرة كبيرة من المرجعيات النقدية الغربية المتعلقة بنظريات السرد، ونقدها، ما شكل أرضية غنية وواسعة للتفاعل مع هذه المرجعيات، والاستفادة من مفاهيمها ومناهجها نظريا وتطبيقيا.
لقد جاءت محدودية الدور الذي بات يلعبه النقد، مترافقة مع التحولات التي بدأت تطرأ على الكتابة الشعرية، لأسباب ذاتية وموضوعية في آن معا. على المستوى الأول كانت هناك كتابة جديدة تحتاج إلى مفاهيم وأدوات تحليل وقراءة جديدة، والنقد العربي الذي كان صدى للمناهج النقدية الغربية، لم يجد ما يعينه من مرجعيات نقدية على ممارسة هذا الدور. إن التحولات التي طرأت على البنية الجديدة للنص الشعري على مستويات بنيته اللغوية والاستعارية والجمالية، زاد من صعوبة هذه المهمة، وحاجتها إلى الاجتهاد والبحث، وهو ما ظلت تفتقده الحياة النقدية العربية باستثناءات معروفة. أما على المستوى الموضوعي فقد كان هناك غياب اهتمام واضح لدور النشر بالشعر، وبالتالي بالنقد الذي يمكن أن يواكبها نظرا لمحدودية القراء، وهي التي تبحث عما يحقق لها الربح في سوق النشر.
محدودية الدور
إن المغامرة الجديدة للكتابة الشعرية العربية الحديثة بتجاربها الأصيلة، تتطلب مغامرة نقدية مواكبة لها، تنطلق من نفس الهواجس والتصورات، وتتقاطع معها في تجديد وتطوير اللغة النقدية، وأشكال مقارباتها للنص الجديد، مستفيدة في ذلك من النقد الذي وجهته المناهج النقدية إلى بعضها البعض حول نظام العلاقات داخل النص والتأويل، وحضور الخارج في الداخل وغير ذلك من قضايا تشكل جوهر المقاربة النقدية للنص الشعري في هذه المناهج. إن من غير المعقول استخدام مفاهيم وأدوات تحليل قديمة لنص حديث، لذلك لا بدّ من تطوير هذا الوعي النقدي والجمالي في مقاربة النص الجديد، وهو ما يحتاج إلى ناقد واع بجماليات الكتابة الجديدة، وقادر على بناء علاقة حوارية مفتوحة معه، تغني وتغتني في آن معا.
والحقيقة أن المشكلة في محدودية المشاركة النقدية في مقاربة التجارب الشعرية الجديدة، لا تقتصر على النقد وحده، بل تتحمل فوضى المشهد الشعري واستسهال الكتابة الشعرية عند الكثيرين مسؤوليتها عن تراجع دور النقد، خاصة وأن النقد لم يهتد بعد إلى حل معضلة علاقته بالمفاهيم والتصورات التي بلورتها المناهج النقدية الغربية، في ضوء علاقته بالنص الشعري كبنية ومفهوم ودلالة.
وإذا كانت محدودية انتشار الشعر وتراجع مستويات قراءته، هي من أسباب عزوف الناقد عن نقد الشعر، فإن صعوبة لغة الشعر الجديدة، من خلال علاقات الانزياح اللغوي والبلاغي التي أصبحت تميز هذه اللغة، هي أسباب أخرى لهذا العزوف، خاصة وأن هذه المقاربة الجديدة للشعر باتت تقتضي تأصيلا نقديا حقيقيا وناجعا، تمكنها من ولوج هذا العالم المحتشد بالعلامات والرموز والانزياحات في البلاغة واللغة، لفكّ مغاليقه واكتناه معناه وإدراك عناصر جماله. إن هذا الدور الهام يقتضي، على مستوى النظرية والمنهج تكاملا وتطويرا، يعكس حيوية المشهد النقدي، وقدرته على إغناء تجربته عبر استيعاب المعطيات الحديثة للنقد الغربي، والعمل على تطويرها وفق ما تتطلبه حاجات القصيدة العربية المعاصرة، بما يعيد للشعر حضوره الحقيقي في المشهد الثقافي العربي، ويحرره من حالة الفوضى والعبث التي يعيشها الآن.