الفتى مطر جالب الخبز

الجمعة 2019/03/01
لوحة: أحمد عنان

الصبي مطر

ككل يوم حال انبلاج ضوء الفجر، ولأنك لا تبينين من سطح منازلنا، فمئذنة المسجد الشاهقة تحول بيني وبينك، أجدني أقف الآن قبالتك في مواجهة الأفق الغربي يا نجمة الصباح. انتظرت حتى خرج أتقياء القرية من صلاتهم في المسجد، وتواروا من جديد في دفء مخادعهم، لأكون في حضرتك. فهم يحذّرون بشدة من مناجاة النجوم. أراكِ الآن قريبة جدا في الأفق، حتى لأخال أني لو صعدت على جذع النخلة العوجاء في طرف ساحة القرية لأمسك بك. أنت القريبة البعيدة. أراك في ألق تومضين حالما يعلّق الليل دكنته على مشجب الأفق مستريحا من عبء أسرار الأرضيين.

يشكو الساكنون مرارا من أن الخبز الذي أجلبه لهم فاتر. حسنا ماذا أصنع، وخبزُ التنور يفقد دفئه سريعا؟!..يسرب حرارته إلى الفضاء ويبرد. كادوا ذات مرة أن يمنعوني من مهمة جلب الخبز! فهم لا يسمحون للصبيان بالخروج قبل الشروق إلا لجلب الخبز. عندها كنت سأفقد المبرر كي ألقاك فأنت لأسباب لا أعرفها تتألقين لزمن وجيز ثم لا تلبثين أن تتواري عن الأنظار!

أتذكر الآن قابلة الحي (أم الدعاء) وهي تحذر الصِبْيَة من عد النجوم حتى لا تنمو على ظهور أكفهم الثآليل.

أليست، وهي القابلة الطاعنة في السن، التي رغم تعدد زيجاتها إلا أنها لم تنجب! أليست هي من تساعد النسوة على الولادة حين يأتي إحداهن المخاض، فأصبحت بذلك تخاف على كل صبي في القرية خشيتها على ابنها كما تكرر دائما؟

أنا وحدي اكتشفت سرها، وحدي أنا اكتشفت عدم صدقها. ولن أبوح به لأحد سواك كي لا يشاركني أحد فيك، ولكي تكوني نجمتي أنا فقط. اسمعي؛ يكفي المحذور الكاذب تجربة واحدة لتكتشف أنه وهم، فليلة صباح اليوم الأول لي معك لم أنم خوفا من الثآليل، لكن بعد ذلك عددتك سرا مئة مرة وهذه كفي لا تشكو شيئا…. سوى…!

أخذ الفتى ينظر إلى ظهر كفه اليسرى، يقلبها ظهرا لبطن.

أم الدعاء

يا الله، رحمتك تسبق عطاءك..

أخشى على الصبيان من التعلق بالنجوم. التعلق بالنجوم يورث الأحلام. الأحلام لدى الصغار مثلبة، تفصلهم عن الواقع، تصيبهم بالهلوسة. عشت طويلا كي أرى القليل، القليل من الأحلام يتحقق، والكثير الكثير من الأبناء ينكسرون. ثم إننا نحتاج بشرا يسعون على الأرض، يلتحمون بها، يحرثونها، يزرعونها، يمشون في مناكبها؛ هكذا تعمر الأرض وليس بالأماني وقرض الشعر. في دنيا قاسية كدنيانا لا حاجة لنا بالفلاسفة، ولا بعبدة النجوم والأفلاك، نحتاج لمن يصوغ الحلم من واقعنا.

الفتى (مطر)، جالب الخبز، ليس كالأطفال! تلذ له العزلة، ويلازمه الصمت، رغم بوح عينيه. يكاد، حين يتحدث، يقرض شعرا. أرتاب في قابل أيامه، ليت لسانه ينطق فأكون على ثقة من ظني. هي سنة واحدة، سنة واحدة فقط ويبلغ الحُلُمْ. فمولده كان بعد خمس ليال من سنة الخسوف العظيم ذلك الذي ليومين أحال النهار ليلا، ولولا تضرع المصلين الباكين وقرع الطناجر لحلت القارعة. عندما يبلغ الحلم سأزفه للفتاة (سحاب) الجميلة. هي على بعد شهرين فقط من بدء استدارة أعطافها، بل إنها لدى عينين خبيرتين كعينيّ بدأت تستدير. موسم نضج الرطب القادم ستكون جاهزة، وربما قبل ذلك؛ حين يصبح الخلال بسرا. يوم أمس شاهدت أمها تفتق المخبون من أثوابها، ونصحتها أن تضيّق وسع جيد لباسها. الإناث مثلها، اللاتي يولدن بأقدام صغيرة وأعناق طويلة، لا يلبثن حتى يكن الجميلات ألفاتنات حال نضجهن، رغم ما قد يعتريهن من تصابٍ وشقاوة في الصغر. أحسب سحاب كفيلة بأن تُنسي أي رجل، أي شيء في حياته عداها حتى لو كان ذلك الرجل شاعرا متوحدا مثلما قد يصبح مطر. حسنا هذا ما ينقصنا؛ شعراء حالمون!

سحاب

جسدي يزداد ثقلا مع الوقت، لكن روحي لا تزال تعدو خفيفة في ساحة القرية، بت أقتصر في اللعب على “البروج“[1] فقط، فلعبة الخطة[2]، حين أشب قافزة على رجل واحدة تتضافر معها أعطافي أسفل ثوبي حتى لكأنها ليست من جسدي! يزعجني ذلك، يجبرني على السكينة. أهدتني أم الدعاء خاتما مكيا بالأمس له فص من عقيق. لا أعرف ما دهاها؟! فحين تراني في الساحة هذه الأيام؛ تصحبني إلى داخل البيت. تجلسني متربعة، تستقبل ظهري، وتنسل شعري بدهن عطر. ولا تكف عن الحديث عن الفتى جالب الخبز.

قلت: هل هو مطر؟!

قالت: وأنت سحاب.

مما أشغل بالي. فتتبعته بنظري من خلال شق باب بيتنا. عرفت أنه لا يتقن لعب الصبيان الخشن وتخطئه الحجارة التي يتقاذفونها. لا أدري في الحقيقة هل يتقي الحجارة أم الحجارة تتقيه.

لو بس تسمح لي أمي بالابتعاد خطوتين عن باب بيتنا، وتكف عن مناداتي كل حين لتتأكد من عدم ابتعادي عن مدخل البيت! لذهبت أكتشف إلامَ تراه يستغرق في النظر، وما ذا تراه يترقب؟

سنحت لي الفرصة أخيرا بعد أن أوصتني وقد أضحت طريحة فراش الحمى بأن أستلم من فجر الغد أرغفة الخبز منه.. هل نمت ليلتها؟! لا بد آني فعلت، وإلا كيف حلمت ذلك الحلم الذي رأيت فيه سيد الخيل يتيه بقرنه في وسط القرية. لكن يا لسوء طالعي، فعندما فتحت الباب بعدما مللت الانتظار، ألفيت فقط نصيب بيتنا من الأرغفة مطوية بحرص ولم أره هناك!.

المطرّب[3]:

لليوم السابع تستيقظ القرى القريبة على صوت منادٍ أجش يتغلغل سجعه في خلجات الأنفس وخافيات الصدور. ينادي وبين كل نوبة نداء وأخرى يعيد حديثا مكرورا في نفسه:

عجيب والله! لا بد أنه آخر الزمان، لم أصادف من قبل من طلب مني مثل هذا الطلب. بعد أن كنت أنادي على ديك شارد، أو تيس جامح، أو بقرة ملتاثة، يطلب مني المناداة على فتى في مثل هذا العمر! هل يتوه الفتيان أبدا إلا إذا عشقوا! لم أصدق ذلك في اليوم الأول. قلت لهم لعلها شقاوة الفتيان، أو صبوة الغلمان وسيعود أدراجه. أجابتني تلك المرأة التي لا تهرم، تلك التي دوما تبدأ حديثها ابتهالا وتختمه دعاء:

- لم يحدث أن رتقت له أمه ثوبا، أو أنّبته على عيب.

ثم لا يلبث أن يعود للنداء:

 “من لقي الضالة.. جزاه الله خيرا

من رأى صبيا اسمه مطر

 في عمر الزهور،

 يقرض الشعر دون شعور،

 من صباح الأمس غاب، لم يعد،

بعد أن ترك أرغفة ساخنة عند عتبات الدور،

الصبي يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق،

علامته الفارقة أثر حرقٍ في كفه اليسرى من فقاعة خبز التنور.

الهوامش

[1] لعبة العريس والعروسة في الخليج والبروج من التبرج ربما!

[2] لعبة مضلعات على الأرض تتطلب القفز.

[3] شخص مهمته المناداة سيرا عن المفقود من الأشياء.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.