الفحولة بوصفها رأسمالا رمزيا
ثماني ركائز يمكن الوقوف عليها في طروحات الفيلسوف التنويري عزيز العظمة حول ثنائية “العفة والشبق”، حيث التمييز القائم بين الرجل والمرأة. إنه المدار المستند إلى فكرة الأثر الذي يتركه التراث وتجلياته على الواقع، وطريقة رسم معالم فكرة الأنثى عبر التصوّر والخيال، وطبيعة تسرب مفهوم الشرف وإعادة إنتاج القيم. وهو التوقف عند صورة المرأة في الخطاب العربي حيث جاهزية الوصف لهذا الكائن القائم على “المـتآمرة، المحتالة، اللعوب”، وأحوال التداخل في المعاني والصور حتى تجعل منها “مسخا”، بعد أن يتم إخضاعها بالكامل لمخيال الرجل من دون اقتصاد حتى يتم ركنها في زاوية “الإغواء-الحريم”. فيما يتعرض الواقع لعواقب الأحكام المسبقة ليتم وسمها بـ”الشر، الخطر، الخراب، الفتنة”. إنها المرأة في العقلية الفحولية تلك التي تموقعها في مركز التهديد “لاكتمال الرجولة”.
سيل الفحولة
تتصدر الفحولة وعي العالم. هذا على صعيد المقارنة المباشرة ما بين الرجل والمرأة. الواقع أن الإحالة المباشرة تجعل هذا الثنائي في أشدّ حالات الجنوسة حضورا ورسوخا، حيث ثنائية الذكر والأنثى. ذكر يتسيّد كلّ شيء في التفاصيل التي يزخر بها العالم. وعلى مختلف المجالات والمستويات، بدءا من السطوة والهيمنة والسيطرة والقوة والنفوذ. وصولا إلى الأدق من التفاصيل التي تميّز الحياة البشرية. العالم في أشد حالات الذكورة؛ تاريخيا وأنثروبولوجيا وفلسفيا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا. لا يقف الأمر على تداعيات المجتمع البطريركي وتراتبيات الأبوية، تلك التي تترسخ معالمها في الأسرة النووية وتتسرب في معطيات العلاقات العشائرية والقبلية، وتتوسّع مدركاتها ومعطياتها على صعيد السلطة والحظوة، ليكون الحضور عبر مدركات “رؤية العالم”، حيث البحث الصميم في فعالية القيم والمعايير والأنظمة وطريقة تشكيل التصورات.
بالإضافة إلى المؤثرات التي تفرزها معطيات الذاكرة الدلالية (Encoding)، حيث التوجه نحو تمييز المفاهيم العديدة والكثيرة، والعمل على تمييزها خلال لحظة الاستجابة. والعمل على توظيف مفهوم المسافة الدلالية من أجل الوقوف على الوعي بطبيعة العلاقة القائمة بين مفهومين. انطلاقا من المسعى نحو “وصف الواقع″ عبر ترصّد الطريقة التي يتم فيها إنتاج الوعي، بناء على محددات الشرط الموضوعي، حيث التجربة والممارسة والخبرة. و”الشرط الذاتي” المستند إلى العقل والأحكام المسبقة والمقولات المتداولة على صعيد الواقع.
فحولة عارمة يتصدرها الرجل-الذكر-الفحل، فيما يختل حضور الكائن الذكوري على سدة الواقع حين يتبدّى شيء ينتقص من فحولته المفترضة. واقع تنطوي مجمل ممارساته وخبراته وتجاربه على وعي الفحولة باعتبارها شرطا موضوعيا. فيما يكشف الواقع بمجمل مقولاته وعلاقاته على هيمنة التقنين الجندري-النوعي، الذكوري تحديدا. لا يتعلق الأمر بتذكير أو تأنيث قدر تعلق الواقع بالشرط الذاتي حيث العقل الذي يحكم العالم ويحدد مسار الموجهات والممارسات والخطابات والعلاقات.
التاريخ تكتبه الذكورة
هكذا هو الواقع حيث العالم-الثقافة-التاريخ، هو رهن بصناعة رجولية موغلة بالذكورة بامتياز. حيث الارتهان للمعاني بمنتجها ومن واقع التطلع نحو تمييز المستويات سعيا نحو فرز الدلالة، فإن الحضور يبقى لرباعية “الحقل، الفعل، المضمون، الموضوع″. حيث الموضوع المتمثل في المرأة، والبحث في المضمون الذي لا يمكن له الإفلات من براثن الاحتكام الأيديولوجي والفعل المنطوي على مسار التفاعل الاجتماعي، وتمظهرات وتجلّيات العلاقة القائمة بين الرجل والمرأة تلك التي لا يمكن لها أن تحيد قيد أنملة عن إفرازات الحقل السياسي. تطلّع لا ينفكّ يسعى نحو تمييز الوعي والإدراك في صلب مفهوم المرأة، بناء على المحاولة الدائبة نحو فرز النسق الداخلي بما فيه من مواقف وسلطة، والنسق الخارجي بما يتوافر على علاقات وارتباطات.
في تكلف العفة
الأفكار مطروحة على الواقع لكن طريقة التوظيف تبقى رهنا بمن يكيّفها. وهكذا نكون بإزاء المبادرة والقدرة على الإمساك بخيط المعنى، لا سيما حين نكون وجها لوجه في تمييز مسار العلاقة القائمة بين الرجل والمرأة.
طرف العلاقة القويّ والمبادر بقي تاريخيا يسير لصالح الرجل، لا سيما وأن الحضور الطاغي لعلاقات الإنتاج كان له الدور الأمضى في ترسيخ مدار الحضور الذي استحال إلى واقع راسخ متجذر. ولو قيض لنا الرجوع إلى اللغة لوجدنا المزيد من أحوال الحياد حول الرجولة والأنوثة. فمفردة العفاف على سبيل المثال في الصحاح؛ “عَفَّ عن الحرامِ يَعِفُّ عَفَّا وعِفَّةً وعفافاً وعَفافةً، أي كفَّ؛ فهو عفٌّ وعفيفٌ، والمرأة عَفَّةٌ وعَفيفَةٌ”، أو مفردة شبق في لسان العرب؛ “الشَّبَقُ شدة الغُلْمة وطلبُ النكاح يقال رجل شَبِقٌ وامرأة شَبِقةٌ وشَبِقَ الرجل بالكسر شَبَقاً فهو شَبِقٌ اشتدت غلمته وكذلك المرأة”.
القيم والعادات والطبائع تتغير، فما كان شائعا ومتداولا في عهد ما، سرعان ما تجده وقد أضحى مرفوضا ولا يحوز القبول من قبل ذات المجتمع في فترة لاحقة
توزيعات القوة
عالم الاجتماع ماكس فيبر قدم فرضياته حول نظرية الفعل (ActionTheory) حيث التطلع نحو قراءة المعنى، والتفسير وطبيعة الفعل المتعلق بدنيا العيش. فيما يكون التوقف عند مفهوم فرص الحياة (LifeChances) في تتبع لمسارات الطبقة والمكانة والموقف الطبقي. على اعتبار أن الفرد يتطلّع من خلال أفعاله نحو ترصّد الفرص المتاحة أمامه، بناء على توزيع مكامن القوى في المجال الاجتماعي.
إنه التوجه نحو الوقوف على مضمون الفهم بوصفه تفسيرا، وليس بحثا عن الهدف والغاية، انطلاقا من قراءة الفعل الاجتماعي القائم على القصد والغاية والعلاقات القائمة بين الفاعلين. وصولا إلى ترصّد أحوال العلاقات داخل النظام الاجتماعي بوصفه المسؤول عن مسار التفاعل. ولا يمكن التغافل عن التعرض لـ”مفهوم دلالة القيم”(SignifyofValue)، انطلاقا من اختبار الوقائع المتعلقة بطبيعة العلاقة القائمة بين الرجل والمرأة، والبحث عن إبراز المضمون المضمر حول المرأة واقعا وصورة ومخيالا. ومحاولة الكشف عن المجمل من زوايا النظر حولها وفرز العلاقات السببية سعيا نحو إبراز دلالة القيمة فيها مع أهمية تحليل الظروف التي تحيط بهذا الكائن الإنساني.
بالإضافة إلى محاولة الإفادة من منظومة عناصر التفاعل (ElementsofInteraction)، والتي يصوغها أنطوني جيدنز في المعنى والتمييز الأخلاقي والعلاقة السلطوية.
إنه المسعى نحو البحث في البنية الثقافية ورصد المجمل من التغيرات التي تحدث في الزمان والمكان. باعتبار أن التاريخ ما هو إلا منجزا ثقافيا واجتماعيا. ومن هذا لا يمكن الركون إلى التمييز في التاريخ على ما هو هامشي ومركزي. حيث التطلع نحو تحليل البنى الثقافية والاجتماعية والتوجه نحو الخلاص من هيمنة السرد في التاريخ. إنه البحث الساعي نحو الخلاص من النظرة الفوقية والتوجه نحو دراسة التغير من خلال العادي واليومي والقابل للفهم، نظرة تبدأ من الأسفل وتهتم بالمجمل من التفاصيل التي تزخر بها الحياة، عبر قراءة اللغة والخطاب والعقليات، وحيث التنوع في طريقة طرح السؤال الذي لا ينصبّ اهتمامه على جانب على حساب آخر. لكنّ طرحا كهذا يبقى رهنا بقيمة الحضور والتأثير اللذين يمارسهما الرجل-الذكر-الفحل على الواقع.
المرأة اللعوب، المغناج، المحتالة، صورة خضعت لتوجهات ورغبات السارد-الذكر في ألف ليلة وليلة. لكن المرأة لم تتردد عن التطلع نحو سلاح السرد من أجل الحفاظ على حياتها، فلم تتردد شهرزاد عن إغواء شهريار الطاغية-الشبق-المفتون بالثأر من أجل رجولته عبر سلاح السرد. علاقة تقوم بين طرفين حسمت لصالح الطرف القويّ الذي أمسك بموجهات علاقات الإنتاج برمّتها. فكان التتويج لمجمل العلاقة عبر التطلع نحو السيطرة على موجّهات المعنى، تلك التي تكون بمثابة السلاح الأمضى في السيطرة والتوجيه والهيمنة. تطلع يقوم على إسباغ ما فيك من سجايا سلبية على الطرف الآخر، مقابل مصادرة كل ما هو إيجابي والعمل على إضافته إلى الرصيد الشخصي للرجل-الذكر.
لا شك أن القيم والعادات والطبائع تتغير، فما كان شائعا ومتداولا في عهد ما، سرعان ما تجده وقد أضحى مرفوضا ولا يحوز القبول من قبل ذات المجتمع في فترة لاحقة. هذا بالإضافة إلى أحوال الاختلاف بين الثقافات، فما هو طبيعي وسائد ومتجذّر نراه غريبا وشاذا لدى ثقافة أخرى وهكذا دواليك. الأمر هنا لا ينطوي على منظومة القيم بقدر ما يقوم على طبيعة التحولات الجذرية التي تبدأ بفرض حضورها على الواقع.
وهكذا تسرّبت المزيد من العادات والتقاليد وغدت أساسية ولا يمكن العيش من دونها، فيما كانت في الأمس القريب غير معروفة. لكن الاعتياد والتداول والتجذّر في المغروس النسقي يجعل منها في حكم الأساسي والثابت. إنها تفاعلات الأحداث والسلوك البشري والتوجيه وممارسة الوعي الإنساني في صميم الواقع. محاولة نحو رصد الممارسة الإنسانية بعيدا عن جاهزية المثل والقيم الراسخة، فتفاصيل الحياة سيكون لها الحضور والتأثير في صميم الخبرة الإنسانية حيث المسعى نحو النجاح في التجربة المباشرة، وحيث الفحولة تلك التي تتبدّى بوصفها عفّة وشرفا ونبلا ونقاء. فيما تحضر الشهادة والذاكرة لتكونا بمثابة التعبير عن تثبيت الواقع، وبالتالي القدرة على إنشاء معرفة يكون لها الوقع في التأسيس للتمثل والاستيعاب، وبما يمكن أن يطلق عليه بالمعرفة المشتركة. فالإنسان نتاج الظرف والذهنية السائدة ومن هنا فإن تشخيص الأحوال النفسية والعقلية تستدعي الوقوف عند المحيط الاجتماعي حيث الممارسات الجمعية والتمثيلات العقلية تلك التي تسّهل عملية تواصل الفرد مع المجتمع.