الفضاء المعماري ومفهوم الإنسان
مساحات النشاط الإنساني مرتبطة باستعراض ما هو نظيف ومتماسك، واستثناء كل ما هو وسخ، كون العمارة الحديثة ترى في البشري كائنا ذو حدود تمنع تسرّب مكوناته للخارج. تعكس المساحات المعمارية بأنواعها المختلفة النشاط الإنساني وتحدد شكله، إذ تُعتبر الجدران والأسقف حدودا خارجية، وأغراضا منفصلة عن الموضوع البشري، لكنها في ذات الوقت تهدف إلى احتواء الفرد، فهي الامتداد المادي لجهوده لسد فتحاته التي تترك الجسد على علاقة مباشرة مع الخارج، كالفم والأنف والشرج، فأشكال التسريب والتصريف في العمارة، مصمّمة للتخلص من السوائل البشرية الزائدة، وانعكاس لمفاهيم النظافة التي يجب أن تبقى فضاءات إنتاجها مغلقة وغير مرئية، بحيث لا يتّسخ الجسد ولا الفضاء، هذه الرؤية للعمارة مرتبطة بالانفصال الفلسفي بين العقل والجسد، بوصف الأخير قابلا للتحرّك بين ثنائية نظيف – وسخ، بعكس العقل أو الأنا العقلانية، التي لا تعترف إلا بما هو صلب ومتماسك وخال من التسريب.
يتجلى تأثير العقلانية الأوروبية على العمارة في تبني الأخيرة لثنائية عقل – جسد، والتي تُترجم معماريا بفصل الكيان المعماري عن الموضوع البشري، واعتبار الفضاء غرضا لا ينتمي للجسد، ومع تطور الظاهراتية بدأت وحدة الجسد والعقل البشري بالظهور، ما جعل العمارة تتحول إلى نشاط بصري يعكس عين الناظر، بصورة أدق عين الذكر النظيف، وفي كتابها الصادر هذا العام “Architecture in Abjection: Bodies Spaces and Their Relations” تسعى الباحثة المعماريّة زوزانا كوفر إلى تقديم مقاربة جديدة للنظرية المعمارية تصبح فيها الفضاءات والأجساد موضوعات فاعلة بحد ذاتها، تتلاشى الحدود بينها، ونكتشف شكلا جديدا للنشاط البشري سببه إعادة تكوين فضاءات التسريب والإطراح.
استقلال الموضوعة
تسعى كوفر في بداية الكتاب إلى خلخلة مفهوم “الأنا”، إذ ترى أن مفاهيم ديكارت المرتبطة بالمنطق تعيق اكتشاف أوجه خفيّة من النشاط البشري، وتعتمد في مقاربتها الجديدة على مفاهيم جوليا كريستيفا وجيل دولوز، إذ تستعير من كريستفيا مفهوم “abject”، وهي نوع من التغيرات التي تصيب الإنسان وتدفعه للتشكيك بذاته كموضوع وترسم حدود أناه، أي أن الفرد العقلاني يطرح مُفرزاته ليحافظ على وحدته، هذه “العمليّة” لا نراها في المرحلة الـ”ما قبل أوديبية”، فالفرد حينها لا يدرك مفاهيم “داخل” و”خارج”، ومع تطور العمارة أو النشاط البشري لتكوين الفضاء الإنساني من حوله، ترسم هذه الأنا حدودها النفسية والمكانية، إذ ينفصل جسد الأم والمكان والفضلات عن جسد الطفل، ليتعرّف بذلك على جسمه الذاتي كموضوع ويدرك حدوده وفتحات إفرازه. كما تستعير من جيل دولز، الذي يرى أن الموضوعة البشرية لا تمتلك تعريفا ثابتا، ويقترح ما يسمّيه بـ”الجسد دون أعضاء”، أي لا حدود واضحة بين الوظائف الداخلية والخارجية، وخصوصا أن المفهوم التقليدي يرى أن عمليات الإطراح ذات منتجات سلبية، ولا تساهم في بناء الموضوع بل بتوسيخه.
نقرأ عن الغبار والفضلات والتسريبات بوصفها جزءا من التكوين البشري والمكاني والتي تكشف الحدود الوهمية للموضوع الإنساني، فالغبار يتكون بنسبة كبيرة من الجلد البشري الميّت الذي يتطاير في الهواء ويندمج مع فضاء الغرفة ومكوناتها التي أيضا تتسرّب وتتراكم على أجسادنا، وكأن البشري والفضاء الذي يحويه في تغيّر وتداخل دائمين، أما مفاهيم النظافة ليست إلا سعيا لإغلاق الثقوب والفتحات، ومنع التسرب، وهنا تبرز الفضاءات المتناقضة التي يكون الجسد ضمنها متّسخا ونظيفا في ذات الوقت، كالحمام مثلا، الذي يسمح عبر ثقوبه وتمديداتها الخفية، بالتخلص المباشر من الفضلات دون “توسيخ” الحمام أو الجسد.
فضاءات الإطراح
توظف كوفر المقاربات السابقة معماريا، إذ تقدم لنا مجموعة من “العقود”، بوصفها تحدد فضاء الفعل وآليات تنفيذ الأفعال خطوة بخطوة، أشبه بسيناريوهات متخيلّة في فضاءات واقعيّة وموجودة مسبقا، إذ تسعى لجعل فعل الإفراز أشبه بحدث، يخلخل الحدود، وتقترح أشكالا جديدة لعمليات الإطراح، وهذا ما يرتبط بالبرنامج الذي يحويه كل عقد، إذ نقرأ في جداول دقيقة الخطوات التي يجب اتبّاعها، بحيث تكون عمليّة “التحلل” إيجابيّة، أي لا تعتمد فقط على الإطراح وإفراز ما يجب التخلص منه، بل إنتاج مكونات فاعلة، بحيث لا تقتصر العمليّة فقط على تقليم وتكوين الفرد النظيف، بل إعادة تشكيل لجسده ضمن الفضاء.
يقترح الكتاب ثلاثة “عقود”، وهي فتحة الجدار وغرفة الحياكة والعيادة، ففي الفضاء الأول مثلا، تقترح حماما غير مكتمل التنفيذ، يتداخل فيه التراب مع المساحات النظيفة، وعلى من يشغله أو يريد استخدامه أن يسعى إلى تجنب هذا “الغبار”، ومحاولة الحفاظ على ذاته نظيفا، ضمن حفر التسريب والتصريف التي يحويها الحمام.
هذه المقاربة والتناقض الذي يخلقه الفضاء يسائل حدود الموضوع البشري العقلاني، كون من يخرج منه، لن يكون نظيفا كليّا، وخصوصا أن عملية تنظيف الجسد المقترحة، تتضمن قص الشعر والأظافر والاستحمام وترك الفضلات في فتحات مخصصة، لا في أجهزة مصممة لتخفي الفضلات كالمرحاض. هذه العملية تجعل فضاء الحمام امتدادا للجسد البشريّ، بحيث تتداخل المفرزات، وخصوصا أن الفتحات في الحمام تعيد تكوين الفضاء ذاته، باستخدام مفرزات الغرفة نفسها وما طرحه الجسد البشري، هذا “العقد” يحوّل فضاء الحمام إلى مكان لا يمتلك صيغة ثابتة، إذ يعيد تكوين ذاته مرارا على أساس التفاعل البشري معه عبر تداخل المفرزات وتبادلها أحيانا.
يحاول الكتاب طرح أفكار واحتمالات تشكك في الموقف العقلاني للعمارة، بوصفها جهودا لإنتاج حواجز تسعى لإغلاق الجسد وتكوين حدوده، باعتباره نتاج مجموعة من العلاقات والفضاءات التي تصوغه بالشكل الذي نعرفه، هذه العلاقات لا تحوي فقط العوامل الفيزيائية، بل القوى الثقافية التي تسعى إلى جعل موضوعة الإنسان وحدة معزولة عن الخارج.