الفكر التوفيقي والخِيَار الثالث
إزاء كُلِّ واقع قائم يعجزُ النَّاسُ عن تغييره، ثمَّة، دائماً وباستمرار، ثلاثةُ خيارات مبذولةٌ أمام النَّاس ليختاروا أيَّ نهج يسلكون، وعلى أيِّ طريقٍ يسيرونَ، وإلى أيِّ هدفٍ أو غاية يقصدون. وقد سبق لي أنْ أوضحتُ، في مقال سابق فحوى الرأي الذي كُنْتُ قد بلورته لنفسي إزاء كلا الخيارين الأولين القائمين، مبتدءاً وخبراً ومُفتتحاً وخاتمة، على مبدأ «تسليم مفاتيح المصائر» لقوى غيبيَّة لا تمتُّ للوعي الإنسانيِّ الذي يعي نفسه ويُدرك واقعه بصلة، أو لقوى غريبة لا تمتُّ للواقع القاتم القائم، المُراد تغييره، بأيِّ صلةٍ أو علاقة تُلْزِمُهَا بالسَّعي، مع رافضيه من النَّاس، صوبَ تغييره.
من ليس له صِلَةَ تجذُّرٍ في أرضٍ وثقافة، ومَنْ لا يكتنزُ وجدانهُ رسالة وجود إنسانيٍّ حقٍّ ومُنِير، ومَنْ لا يتوافرُ على أدنى انتماء إلى أهلٍ أو شعبٍ أو أُمَّة، ومَنْ ليس مسكوناً بوطنٍ يُعَمِّرهُ، ويُضيءُ رحابه بأنوار المعرفة والإبداع الإنسانيِّ والجهد الخلَّاق والعمل الدَّؤوب، ومَنْ لا تَعْمُرُ وجْدَانَهُ قيمُ الإنسانيَّة وخلاصاتُ ماهيتها وأنوار جوهرها العميق، ليس هو، ولن يكون هُوَ، مَنْ يتأهَّبُ، أو يَسْعى لأنْ يُهيِّءَ نفسهُ، للتَّفكيرِ، ولو للحظةٍ، في تغيير الواقع القاتم القائم في المجتمع الذي يُمَارسُ فيه، مع آخريه من الكائنات البشريَّة القاطنة هذا المجتمع، نوعاً من الوجود البهيميِّ الذي هو بمثابة وجودٍ إنسانيٍّ مُؤجَّل!
وهؤلاء هُم، فيما أحسبُ، أصحابُ كلا الخيارين الموضَّحين في الفقرة الأولى، وهُم أتباعُ أصحابهما ومن تبعهم حتَّى آخر سلالة الأتباع والتَّابعين والمأجورين والكائنات الهجينيَّة الشَّوهاء!
أمَّا الخيار الثالث الذي يقعُ، وفق التَّصور التَّوفيقيِّ التَّلفيقيِّ، بين خياريِّ «تسليم مفاتيح المصائر» المذكورين أعلاهُ، فإنَّه يتجسَّدُ، فيما أتصورهُ الآن وأنا جالسٌ لأكتب، بمشهد كاريكاتوري هزلي يتبدَّى فيه المجتمعُ أو الشَّعبُ أو الأُمَّةُ، في تلازمٍ مع الكيان السياسي الذي يُمثِّل أيَّاً منها منفرداً بنفسه أو مع الكيان الذي يمثله مُجْتَمِعاً مع غيره من المجتمعات والشُّعوب وفق صيغة توافقية تلفيقيَّة وُضِعَت لهم، أو فُرِضَت عليهم من قبل غيرهم، أو جرى ارتجالها من قبلهم جميعاً، كأُمَّمٍ أو شعوبٍ أو أقوامٍ أو عَشَائِرَ وقَبَائلْ، في صورة كائن هو أقرب ما يكون إلى كائنٍ هجينيٍّ غريبِ الهيئةِ والسَّمات؛ كائنٍ يتباين حجمه بتباين الجهة التي يُمَثِّلُهَا، وتتأسَّس غرائبيتهُ إمَّا على كونه قد أَلغى عقلَهُ الإنسانيَّ الحيَّ إلغاءً تامَّاً، أو أَضْمَرَهُ إذْ جمَّد حيويتَهُ لقِلَّةِ استخدامه إيَّاهُ، أو على كونه قد استسلمَ، بخنوعٍ مُذلٍّ، لمن أجرى له عملية مسح دماغ استوجبت حذفَ جميع محفوظات عقله، ومكوناته، وملكاته الفطرية، فأطفأت أنوارهُ، أو حجَّرته أو قلَّصت مدار إعماله إذْ قصرتهُ على حيِّز استهلاكيٍّ مفتوح على تمدُّدٍ لا يُفارق طبيعتَهُ الاستهلاكيَّةَ البهيميَّةَ النَّهمة!
هكذا يُذْعِنُ هذا الكائنُ الاستهلاكيُّ الهجينيُّ لمن يتقصَّدُ تزويدهُ بعقل إلكترونيٍّ استهلاكيٍّ حديثٍ، صَلدٍ ومُمَغْنَطْ، أو بعقلٍ تَكَلُّسيٍّ غيبيٍّ قَديمٍ، حجريٍّ ومُغْلَقْ؛ عَقلٍ يتمَّ تنزيلهُ بمفرده، أو عقلين يتمُّ تَنْزِيلُهُمَا، معاً، وفق آلية تتيح تجاوبهما، وتؤسِّس إمكانيَّةَ استمرار تبادلِ الأدوار، أو توزيعها، بينهما، في سياق تحالف سَوادين: إلكتروني حديث وتكلُّسيٍّ قديم.
وبطبيعة الحال والغاية، فإنَّ عمليَّة تنزيل هذا العقل المُفرد، أو هذا العقل المُركَّبِ، توفيقاً وتلفيقاً، من تحالف سوادين، لن تقعَ إلا في معدة هذا الكائن، وذلك مع الحرص على قصر ممكنات تواصله مع أعضاء هيكله الأخرى على الأعضاء التي تتمركزُ فيها بُؤر تحفيز غرائزه، أو إخمادها، كُلَّما اقتضت حاجة مزوِّديه بهذا العقل، أو ذاك، تحفيز أي منها، أو عددٍ منها، أو تحفيزها جميعاً، أو إخماد أيٍّ منها، أو عددٍ منها، أو إخمادها جميعاً، وذلك في مواقيت مُعيَّنة، وأماكن مُحَدَّدة، ولأمداء زمنيَّة محسوبة بدقَّةٍ تُحدِّدها مقتضيات الضَّرورة والحاجة، ودائماً، حسب التَّخطيط المُسْبَق، والغايات المرجوَّة، ومقتضى واقع الحال.
وبالطَّبع، فإنَّ التَّجلي الأبرز لهذا الخيار الثالث، إنما يتجسَّدُ في عقلٍ يتركَّبُ، توفيقاً وتلفيقاً، من عناصر متغايرة يتمُّ التقاطها من بين العناصر المكوِّنة لكلا العقلين المُعْتِمَينِ المُشار إليهما؛ أي العقل الإلكتروني الحديث الموسوم بالصَّلادة الاستهلاكيَّة والتَّمغنط، والعقل التَّكَلُّسي القديم الموسوم بالظَّلاميَّة التَّحَجُّرية والانغلاق، وذلكَ على عجلٍ، وبلا أدنى تأمُّل أو تفكُّرٍ أو تمحيص تُوجِبُهُ فطرة العقل الإنسانيِّ وأنواره التي نعرفها، وبمفارقة تامَّة للواقع القاتم القائم مقرونةً بمجافاة مُطلقة لفكرة السَّعي إلى تغييره، وذلك في نطاق سعيٍّ توحُّشيٍّ محموم لتأبيد تحالف الظَّلمة والاستبداد والاستعمار والفساد والجشع المُفضي إلى أخذ الإنسانيَّة إلى كُلِّ ما يُناقضُ حقيقتها!.
وهنا تتبدَّى حقيقة ما كان قد سُمِّيَ من قبل الأعم الأغلب من «مُفكِّرينا»، وربما على سبيل التَّجاوز أو التساهل الاستخفافيِّ الذي يصلُ الخطأ بالخطيئة، بـ «الفكر التَّوفيقي»، إذْ لا يُمكنني تصوُّر أنْ يكونَ الفكرُ الحقيقيُّ؛ أي الفكرُ النَّاجمُ عن تفكيرٍ جدِّيٍّ وجذريٍّ مُؤَصَّلُ، فكراً توفيقاً تلفيقيَّاً على هذا النَّحو الذي نُعاينه ونُعاني عقابيلهُ في واقعنا العربي، وما ذلك إلا لأنَّ التّوفيق التَّلفيقيِّ بين الأفكار المتناقضة، والأوضاع المتعارضة، والحالات المتباينة، والرؤى المتصارعة، ذاك القائم على جمعها، تعسُّفاً، وهي في حالة انكباحٍ تامٍّ عن أيِّ قدر من التفاعل الخلَّاق، في إطار هيكلٍ تَصَوُّريٍّ مُرتجلٍ وفارغ، ليس إلا تزييفاً للفكرِ يُخرجهُ عن معناهُ، ويُحيلهُ، عبر التَّصورات التَّخييلية التي تُجافي فطرةَ العقل وتناقضُ معاييرَ التَّفكير الحق، إلى «أيديولوجيا عمياء» تتقصَّدُ تغطية الواقع القائم، أيَّاً ما كانَ حالُ هذا الواقع أو لونهُ أو كانت درجةُ قتامته، بقناع زائف يتأسَّسُ، في كُلِّ وضعٍ مماثلٍ وحال، على تجاهل حقائق الواقع المعنِيِّ بغية تأبيد حضوره عبر إلغاء العقلِ وإسكات صوته، وصمِّ أُذُنيه، وإطفاءِ أنواره!
وبطبيعة الحال، فإنَّ إلغاء العقل عبر استبدال «عقل توفيقيٍّ تلفيقيٍّ مُركَّبٍ: على نحوٍ اعتباطيٍّ كهذا الذي أشرنا إليه للتَّو به، أو عبر إبداله بـ»عقلٍ استهلاكيٍّ غرائزي مُصَنَّعٍ»، سواءٌ أكانَ هذا العقلُ إلكترونياً مُصنَّعاً في أزمنة الإمبريالية وما بعدها، وهي الأزمنة المتلازمةُ، توافقاً أو تعارضاَ أو مراوحةً مُلتبسة بين توافق وتعارض، مع أزمنة الحداثة وما بعدها، أم كان تَكَلُّسياً تمَّ قطعُهُ على عجلٍ، وبلا نحتٍ أو تقشير، من جدران دياميس كُهوفِ أزمنة تعود إلى عُصور ما قبل انبثاق زمن الإنسان العاقل، أو إلى عُصور تاريخيَّة مُظلمة تتصَوَّرُ «الأيديولوجيا العمياءُ»، وتُروِّجُ، أنَّها كانت مفعمة بـ»النَّور الإلهي» أو بـ»البهاء الأبويِّ» المستمدِّ من «روح الله»! أو من أقبية أزمنة يُتَصَوُّرُ، ببلاهةٍ مُنقطعةِ النَّظير، أنها تُجَلِّي أقصى درجات الرُّقي الحضاري والكمال الإنساني، فيما هي لا تعكسُ على مرايا العالم إلا عتمتها الحالكة السَّوداء وصلادة جدرانها المُتكلِّسة التي حَفَرتْ عليها أظلافُ وحوش كاسرةٍ «شَرائعَ غاب»، و»أيديولوجيات عنصريَّة ظلاميَّة»، و»تصوُّرات أسطوريَّة تتسلحُ بإلهٍ حاقدٍ وسيف»، كُلُّ ذلك وغيره مما يُماثله، سوف لن يُفضي إلى شيء سوى حال تُشْبِهُ الحال، أو تتطابق تماماً مع الحال التي عليها حال العرب المستهدفين بالإبادة، ومجتمعات بلادهم المستهدفة بالتَّحوُّل الكُلِّي إلى «أسواق استهلاكيَّة مفتوحة» و»مزارع تفريخ» لا تُفرِّخ غير كائنات هجينيَّة ذات أفواه بهيميَّة لا تشبعُ ولا ترتوي، وكياناتهم السياسية التي يُرادُ لها أنْ تظلَّ محضَ «هياكل فارغة» تحكم النَّاس بخوائها المسكون بزيف القداسة وهشاسة البَلَهِ الأعمى، وبأنظمة التحريم والاستبداد والتَّبعيَّة المُطلقة والعنف الوحشيِّ والمنع والقمع، وهو حالُ العرب في زمننا هذا الذي يمتدُّ ويتطاولُ في الزَّمن الأفقي المتمدِّد على محافَّات السُّكون المُهلك، والوجود المُؤجَّل، منذُ يربو على ألف عامٍ وعام.
ولأنَّ شروطاً موضوعيَّة وذاتيَّة تتلبَّس طابعَ الجبر والاختيار، أو الضَّرورة والحرية، في جلاء ساطعٍ أو في مُراوغة بادية أو في التباسٍ وغموضٍ، قد حتَّمت وُضْعَه في خضم التَّجلِّي الأبرز لهذا الخيار الثالث، يَجِدُ هذا الكائنُ الهجينيُّ نفسهُ واقفاً على مسافة مُعيَّنة تتفاوت أمداؤها، قُرباً أو بُعْداً، من كلا الخيارين اللَّذين يُشيران إلى واقعين قائمين، «هُنا» و»هُناك»، يُحتملُ وجودهما على مُستوى التَّصوُّر الذي نُحاولُ التقاطهُ لمقاربة تمظهراتهما المتنوِّعة في مدارات الواقع الفعلي القائم في بلاد العرب (أي هُنا)، وفي مجالات الأنشطة الإنسانيَّة وحقولها المتنوِّعة، الاقتصادية والاجتماعيَّة والسياسيَّة والثقافيَّة والفكريَّة والفنِّية والإبداعيَّة، وغيرها وغيرها من المجالات والحقول التي يُفترضُ أنَّها هي مجالات الأنشطة الإنسانيَّة وحقولها الحيويَّة التي تبني المجتمعات الإنسانية، وتشكِّل مدارات وجودها في الوجود، وتجعلها تنخرطُ في صيرورة دائمة تحملها صوب مُستقبلٍ مفتوح على مستقبل مفتوح لا يأتي إلا من المستقبل.