الفلسفة بصيغة المؤنث
تاريخٌ ممتد من فرض الرواية الذكورية على التاريخ ألقى بظلاله على بلورة منظور واضح وكلي لإسهامات المرأة في المجال الفكري في ظل هيمنة الفلسفة الذكور على تاريخ الفلسفة، من هنا تكتسب الكتابات عن الفكر النسائي أهميتها في تبيان الجانب الفكري للنساء اللاتي طالما عانين من حصرهن في دائرة الجسد في مقابل التعتيم على جهدهن الفكري.
في كتاب “الفلسفة بصيغة المؤنث” للباحث المغربي رشيد العلوي، والصادر حديثًا عن مؤسسة هنداوي للنشر، يُقدِّم الكاتب سيرة وفلسفة بعض النساء اللواتي دخلن عالم التفلسف، وجوه بارزة لعبت أدوارًا مهمة في التنظير لقضايا لم تطرح من قبل، كما هو الوضع بالنسبة إلى الفيلسوفة جوديث بتلر أو سيلا بن حبيب أو نانسي فريزر. جميعهن رغم اختلاف مشاربهن وانتماءاتهن تركن أثرًا فلسفيًا عميقًا، وبعضهن معاصرات لا تزال رؤاهن الفكرية تُنير الواقع الراهن بقضاياه المُعقّدة والمُتشابكة.
يُقدِّم الكتاب نظرة بانورامية على الملامح العامة لسيرة وفلسفة كل من: إديث شتاين، سيمون فايل، صبا محمود، نادية دو موند، جوديث بتلر، آين راند، نانسي فريزر، سيلا بن حبيب، حنة آرنت، ورغم ما تحمله مثل تلك المؤلفات من أهمية في مجتمعات لا تزال النساء فيها عُرضة لنظرات قاصرة، فإنه يظل غير كاف في بلورة المعالم الفكرية لكل اسم من الأسماء المطروحة بشكل متكامل كونه اكتفى في بعض الأحيان بطرح نبذة سريعة ومتعجلة عن بعض الكاتبات مثل آين راند وحنة آرنت وجوديث بتلر، فضلًا عن عدم الاهتمام الكافي بالبُعد السيريّ للكاتبات وما إن كانت الأنوثة قد شكّلت لهن معوقات في مسيرتهن الفكرية بدرجة أو بأخرى.
يفتتح الكتاب بالحديث عن الفيلسوفة الألمانية إديث شتاين (1891: 1942) التي تتلمذت على يد الفينومينولوجي الشهير إدموند هوسرل، والذي عينها مساعدة له عام 1917، أصدرت إديث كتبا فلسفية ومعرفية عدة ركزت على قضية المرأة والحقيقة والتربية والوضع الإنساني. في كتابها “العلم والإيمان” خلقت حوارًا بين هوسرل وتوما الأكويني، في “بناء الكائن البشري” نجد بحثا في أصل الجنس البشري وتطوره وأعراقه ومعتقداته، وفي كتابها “جوهر الحياة” تعالج قضايا تربوية مثل تربية الروح والنفس وأهمية الحضور النسوي في التعليم، وفي كتابها “قدر المرأة” معالجة لقضايا المرأة من باب أخلاقية المهن النسائية.
بشكل عام، يمكن تقسيم أعمال الفيلسوفة الراهبة شتاين بحسب المتخصص في فلسفتها اللاهوتية جون فرنسوا لافين إلى ثلاثة محاور: المحور الأول يتعلق بتحليل الشخص البشري في نوازعه وانفعالاته الداخلية للبحث عن تصور شمولي للكائن البشري. المحور الثاني يخص التربية بما يوافق المعرفة الباطنية للكائن، أما المحور الثالث في مجال الميتافيزيقا فقد اطلعت على توما الأكويني وتأثرت بكتاب هيدغر “الكينونة والزمن”، ويُشكّل بحثها تحت عنوان “الكينونة الفانية والكينونة الأبدية” أعمق تأمل فلسفي في قضية الغير والتعاطف الذي يسير في اتجاه تحقيق الذات.
أما سيمون فايل فقد عاشت أربعة وثلاثين عاما كتبت خلالها خمسة وعشرين كتابا، كانت فيلسوفة ملتزمة بقضايا المضطهدين، ووسِمت فايل بكونها الفيلسوفة الروحانية أو الفيلسوفة الماركسية ذات النفحات الصوفية، يلتقي فكر حنة آرنت الفلسفي مع فكر سيمون فايل في كثير من القضايا من قبيل العنف، الشر، الحرية، الألم، الحقيقة، التجذر، نقد التوتاليتاريا، المحبة، بينها وبين حنة آرنت علاقة فكرية غير مباشرة، فمثلما عُرِفت آرنت كمناهضة للتوتاليتاريا والفكر الجامد خطت سيمون كلماتها القوية ضد الفاشية وضد الأنظمة الشمولية في “تأملات في قضايا الحرية والقهر الاجتماعي” وفي “كتاباتها السياسية والتاريخية”.
وعلى صعيد الكاتبات المعاصرات، يسرد الكاتب سيرة الأنثروبولوجية الأميركية صبا محمود التي تهتم بقضايا عدة حول النظرية السياسية والأنثروبولوجيا في منطقة الشرق الأوسط، ولها مساهمات في الأخلاق والسياسة والعلاقة بين الدين والعلمانية ومكانة النساء ودورهن في تلك المجتمعات. نالت صبا محمود شهرة واسعة بفضل أبحاثها القيّمة حول مكانة النساء في المجتمعات ذات الغالبية المُسلِمة، أنجزت بحثها الميداني الأول “سياسة التقوى: الإحياء الإسلامي والشخصية النسوية” ما بين 1977 و1995 حول المرشدات الدينيات في القاهرة. ونشرت مجموعة من العناوين المهمة منها “هل النقد علماني؟” مع طلال أسد وجوديث بتلر وويندي براون، وهو مؤلَف نقدي يعيد النظر في الجدل الذي أثارته الرسوم الدنماركية والذي صور بأنه صراع بين التجديف وحرية التعبير. تُركز على موضوعات مهمة من قبيل الحرية، الأخلاق العملية والتقاليد، دور الشعائرية، وتعمل على التفكير بشكل نقدي في تطورات المجتمعات المعاصرة.
في المقابل، فالباحثة النسوية نادية دو موند التي تعد من أبرز نساء الفكر الماركسي دفاعًا عن مجتمع المساواة بين الرجل والمرأة في سبيل تحرير المجتمع المعاصر من كل أشكال البطريركية، ترى أن النسوية تعني الوعي بمكانة النساء في المجتمع البطريركي الذي يوجد في علاقة مع مختلف أشكال إعادة الإنتاج الاجتماعي والاقتصادي، وأن تحرر النساء يعني تحرر نصف النوع البشري ونصف الطبقة العاملة فهو أداة لا غنى عنها في الكفاح من أجل تحرر البشرية ككل. تستند دو موند إلى البحث في الأثر المادي الملموس لوضعية النساء في المجتمعات البدائية لفهم الأسس الأولية التي قامت عليها اللامساواة بين الجنسين قبل ظهور المجتمعات الطبقية بالشكل الذي ستتطور فيها إلى حدود الوضع الذي نعيشه اليوم في ظل سيطرة الرأسمالية على مجمل مجالات الوجود البشري.
أما جوديث بتلر الفيلسوفة اليهودية الأميركية ذات الأصول الروسية المجرية، فيحظى عدد من كتاباتها وأفكارها بانتشار عربي كبير مقارنة بغيرها من الكاتبات المعاصرات. ولدت بتلر عام 1956، واهتمت بالفلسفة السياسية والاجتماعية ونظرية الأدب والدراسات الثقافية والجنسانية، نشرت رسالتها للدكتوراه تحت عنوان “ذوات راغبة: تأملات هيغيلية حول فرنسا القرن العشرين” طورت فيها فهمًا جديدا للعلاقة بين الرغبة والاعتراف بالدمج بين فكر سبينوزا وهيغل. تشكّل الفكر الفلسفي لبتلر منذ مراحل مبكرة من حياتها، وقد جالت في الفكر الحديث وساجلت سبينوزا وروسو وهيغل وكانط وطورت فلسفة فوكو وفرويد وألتوسير وجاك لاكان وهابرماس وجاك دريدا وسيمون دي بوفوار.
وفيما يتعلق بالقضايا المعاصرة، تعتبر بتلر من دعاة الحل الثالث للقضية الفلسطينية بالبحث عن الاعتراف المتبادل بين الشعبين، وتسوية العيش المشترك حيث الأمن والاستقرار، ترفض العنف تحت أي مبرر. إذ صرحت في محاضرة لها عام 2010 في الجامعة الأميركية بالقاهرة عام 2010 أنها لا تؤيد ممارسة المقاومة العنفية أو عنف الدولة وهو ما تؤكده في كتاباتها “حياة قلقة-مستباحة: قوى العنف والعزاء”، “أطر الحرب: متى يؤسى على الحياة؟ و”طرق متفرقة: اليهودية ونقد الصهيونية”، “حياة هشة: حول سلطة العنف بعد أحداث 11 سبتمبر”.
يعرّج الكاتب للحديث عن سيرة وفلسفة الكاتبة الروسية آين راند التي ولدت في روسيا عام 1905، ودرست في عدد من الجامعات الأميركية. ففي عام 1963 حصلت راند على الدكتوراه ونشرت بحثها تحت عنوان “فضيلة الأنانية” الذي لخصت فيه فلسفتها الإثيقية والسياسية، وتركت في عالم السينما الكثير من رواياتها التي تحولت إلى أفلام شهيرة. ويعتبر كتابها “فضيلة الأنانية” فضلا عن كتاب “مدخل إلى الموضوعية الإبستمولوجية” معبران عن مجمل فلسفتها ومذهبها الأخلاقي في الموضوعية والعقلانية.
تشمل فلسفة آين راند حسب الفرنسي سيباستيان كاري مجالات أساسية مثل الميتافيزيقا إذ نحتت مفهوم الواقع الموضوعي من منطلق أن الفكر ليس جامدًا ولا مُتعاليًا يسبح في سماء المعقولات وإنما هو محايث لواقع موضوعي، وفي الأخلاق تمحور مذهبها حول مفهوم “المصلحة الفردية” من منطلق أن نزعة الإيثار التي تعود إلى الفلسفة الحديثة قد أفسدت الحضارة البشرية، وفي مجال السياسة دعت لتصور بديل للدولة يقترب من الفوضوية الروسية إذ ينبغي على الدولة الحفاظ على مصلحة الأفراد الذاتية.
ومن الفيلسوفة الراحلة آين راند إلى الفيلسوفة الأميركية المعاصرة نانسي فريزر ينتقل الكاتب ليوضح المجالات الأساسية التي تهيمن على فكر فريزر وهي: المجال السياسي الذي تعيد من خلاله النظر في مفهوم الفضاء العمومي عند هابرماس مقرة بوجود فضاء عمومي كوني يتجاوز الحدود الكلاسيكية السيادية وتلعب فيه فئات اجتماعية جديدة أدوارًا مهمة. المجال الثاني وهو الثقافي وتعيد فيه النظر في مفهوم الاعتراف مع ظهور الأشكال الجديدة للتفاوتات بين الناس في الرأسمالية المعاصرة. أما المجال الثالث فهو الاقتصادي وفيه تعيد النظر في مفهوم إعادة التوزيع لإيمانها بالحاجة إلى وضع جديد تسميه وضع ما بعد الاشتراكية، كما أن اهتمامها بنظرية خطاب نسوي يأتي في سياق إيمانها الكامل بحجم المعاناة التي تزداد مع توسع الرأسمالية في طورها النيوليبرالي.
وقد توسع الكاتب في التعرض لأفكار الكاتبة التركية سيلا بن حبيب، التي ولدت في إسطنبول بتركيا، والتي تهتم بالنظرية النقدية والنظرية النسوية. تنظر بن حبيب إلى الفلسفة السياسية لا كبحث في تاريخ الفكر أو الفلسفة السياسيين بقدر ما هي الاتصال بالأحداث الراهنة والمعيشة، كما ناقشت التفاوت القائم بين وسائل الاتصال والإعلام في تبادل الرأي والمعلومات وبين التداول المتبع في التشاور حول اتخاذ القرارات لأن التداول هو شكل بديل لاتخاذ القرار في المؤسسات وليس في وسائل الإعلام التي تعد مجرد أدوات لتبادل الرأي. في كتابها “النقد، المعيار واليوتوبيا” صاغت مفهوم النقد من جهة أصولها الفلسفية الحديثة التي تعود إلى هيجل مضيفة إليه مرتكزات النقد الهيجلي المنهجي والمعياري لنظريات الحق الطبيعي.
هناك مرحلتان أساسيتان في تطور فكر الفيلسوفة سيلا بن حبيب الفلسفي والسياسي: الأولى مرحلة ما قبل التسعينات وقد مثّلت الفلسفة السياسية والمعاصرة مصدر فكرها الفلسفي، تشكّل فكرها من خلال اشتغالها على عباقرة الفكر السياسي الحديث من أمثال هيجل، وتوماس هوبز، وكانط، وحنة آرنت، وهابرماس. أما مرحلة ما بعد التسعينات فانكبت على معالجة قضايا الوضع البشري الأكثر إلحاحا كالنسوية والهجرة والتعدد الثقافي والمواطنة العالمية والديمقراطية والعدالة، وهي مفكرة تنتمي إلى الجيل الثالث للنظرية النقدية ويهدف مشروعها العام إلى بلورة نظرية كوزموبوليتية للعدالة تتمحور حول إعادة التوزيع على الصعيد العالمي إلى جانب حق الانتماء.
وفي المقال الأخير بالكتاب الذي خصصه الكاتب عن مفهوم الشر عند الفيلسوفة الألمانية حنة آرنت، يوضح الكاتب كيف عالجت حنة آرنت مشكلة الشر السياسي وعلاقته بالأنظمة التوتاليتارية مُبيّنا أن اهتمامها بمشكلة الشر جاء نتيجة لما تعرض له اليهود من اضطهاد وقمع وإبادة في أوروبا وجنوب روسيا وهو القمع الذي نالت منه نصيبها.
يرتبط الشر السياسي عند آرنت بأزمة العالم الحديث التي تجسدها الأنظمة التوتاليتارية إذ تحوّل تفسير الشر من التبرير الأخلاقي والميتافيزيقي والطبيعي إلى التبرير السياسي، فسمة العصر الحديث كما ترى آرنت هي الأزمة التي امتدت مع المد الشمولي الذي اختلط فيه العنف بالفعل السياسي وتلاشت فيه الحدود بين المجال العام والمجال الخاص ومن ثم بات العنف أمرا عاديا في المجتمع إن لم يكن مُحايثا لنمط العيش والوجود الإنساني في القرن العشرين.
تجعل آرنت التفكير هو الأساس الذي بموجبه يمكن مواجهة ومقاومة الشر، فالتفكير الذي تدعو إليه يكون في مجال الحرية والإرادة من زاوية سياسية وليست أخلاقية كانطية محضة وتقصد بالبعد السياسي النزوع نحو الانتقام والعنف الذي يوجد داخل كل منا والذي تغذيه الأنظمة البيروقراطية والكليانية التي تدفع البشر إلى التصرف دون رحمة وهم يحسون أنهم يرتكبون أفعال بسيطة ولكنها في الحقيقة إجرامية. إنه الشر التافه والعادي ولكنه مخيف بشكل كبير، وبموجب هذا، ينبغي الانتباه إلى التحول العميق الذي حدث في فهم بنية الشر فلم يعد الشر كما هو الحال عند كانط القيام بأفعال لا تنسجم مع القانون الأخلاقي وإنما أصبح الشر نابعا من طاعة الأوامر القانونية، بالتالي ثمة شر تافه يجول في العالم كجرثومة قد تنتعش في كل مكان تجد فيه ظروفا ملائمة للسلطة التوتاليتارية. والحل الذي تورده آرنت هو الصفح كمقابل للانتقام فإذا كانت النزعة الانتقامية بكل نتائجها السلبية تدخل في صلب الهوية فإن الحل الأنسب لتحقيق انسجام بين الضحية والجلاد هو الصفح.
وأخيرًا، تجدر الإشارة إلى أن التركيز على الجانب الفكري للنساء عبر التاريخ وفي الوقت الراهن على المستويين العالمي والعربي يحمل أهمية كبيرة في دحض كل الأوثان الفكرية التي دأبت منذ أزمنة غابرة على التأسيس للنظر إلى المرأة كعاطفة متقدة وفكر قاصر، وهذا الكتاب رغم اعتماده بالأساس على مقالات مُجمّعة أفقدته الوحدة في التناول والطرح إلا أنه يظل لبنة مهمة في مشروع يسترعى الانتباه لا سيما مع تجذر النظرة الدونيّة للمرأة كعقل مُفكِر في المجتمعات العربية.