الفلقة

الخميس 2016/09/01
لوحة: حسام بلان

من المقبرة إلى المدرسة: لا بدّ وأنكِ تذكرين! فجأة شعر طفلكِ بيد تطبق على معصمه. يرفع رأسه فيراكِ. يرى وجهك وراء الغطاء الأسود الشفاف المُسدَل. وجهٌ غاضب حانق. تسأليه: ماذا تفعل هنا؟ والمدرسة؟

يسير مُقاداً بيدك. لم يكن في محفظتكِ القروش السبعة ونصف لشراء تذكرة ركوب الترام. فالمسافة إلى المدرسة طويلة، ولا بد لك من الهبوط سيراً على القدمين من حي بير التوتة نحو العفيف مروراً بالجسر الأبيض فحي الرئيس فالمستشفى الإيطالي كي تبلغي أخيراً حيَّ عرنوس ومدرسة سعدالله الجابري الابتدائية التي كانت تقوم فيه.

هي المرة الأولى التي تجتازين فيها طريقَ ابنكِ إلى مدرسته التي يذهب إليها كل يوم سيراً على القدميْن، هو الآخر. تأخذ بلبّكِ المتاجر الفاخرة. تتوقف عيناكِ أمام واجهة بائع الحلويات الغربية، فيينا. وتتمزق جوارحك حزناً وعجزاً: أن يرى ابنك ما هو مُحرَّم عليه، عليكِ، عليكم جميعاً في أسرتكِ الصغيرة، كل يوم، وألا تستطيعي أن تفعلي شيئاً.

وتحسبين أن عزوفه عن الذهاب إلى المدرسة يرتد إلى بعض هذا الحرمان.. لكن ما كان يهمّك لحظتها هو أن تبلغي معه المدرسة التي حُرِمتِ منها كي تؤويه ويتابع فيها ما قد تستطيعين يوماً أن تتابعيه معه.

يستقبلك المدير ومعه أستاذ الفصل الذي هو فيه. يبدي لك المدير عجبَهُ من هذا الغياب غير المبرر لا سيما وأنه طفل شديد التهذيب، والمثابرة، وأنه في مقدمة تلاميذ فصله حتى أن أستاذه سماه «عريف» الفصل منذ بداية السنة الدراسية. لكن المدير والأستاذ قررا أن هذا الغياب فعلٌ غير مقبول، وأنه يستوجب العقاب، وطمأناكِ على أنه بات الآن بين أيدٍ أمينة.

لم يسأله المدير ولا الأستاذ بعد مغادرتكِ سبب غيابه عن الحضور إلى المدرسة. لا بدَّ أنهما افترضا ضرباً من تمرد مفاجئ، صبياني الدافع، حمله على العزوف عن المجيء إليها ذلك الصباح.

هكذا قاده الأستاذ بعد أن غمز للمدير بعينه اليمنى -لا يزال يتذكر هذه الغمزة- إلى الفصل وأعلن أمام رفاقه عزله عن «العرافة» وتغيير مكان مقعده وعزمه على معاقبته أمام الجميع كي يكون «عبرة لمن اعتبر» بسبب «هَرَبِه من المدرسة».

** ** **

في غيابِكِ:

يُطلبُ إليه الجلوس على كرسي الأستاذ الذي نُقِلَ كي يكون في مكان يُرى من التلامذة جميعاً. ينادي الأستاذ على واحدٍ من رفاقه كي يساعده على تثبيته وعلى رفع ساقيه بعد أن جعله يخلع حذاءه وجوربيْه. وهو يخلعهما، تتكشف ثقوب الجوربيْن المخفية داخل الحذاء. تنطلق ضحكات رفاقه في الفصل رغم محاولاتهم كبتها حين رُفِعت ساقاه فكشفا سروالاً ممزق الأطراف.

لم يكن ثمة بنطال يستر عورة السروال. كانت صدّارة المدرسة الرسمية تستر كل شيء وتنبئ وحدها عن تلميذ مرهف الهندام لا يختلف عن رفاقه في الفصل بشيء.

لم تكن ضربات العصا القاسية التي كنت تنهال على صفحتي قدميه توجعه بقدر ما كانت تمزقه الضحكات والكلمات الهامسة التي كان رفاقه يتبادلونها وتتناهى مع ذلك إلى سمعه. ها هو أمامهم جميعاً. الأستاذ والتلامذة. سقط عن عرش أسراره التي كان يكتمها عنهم وكانت صدارة المدرسة الرسمية تحميها.

ناداه أحدهم: يا جبلي.. ثمَّ ثنّى الآخر والثالث والرابع. وعندما انتهى الأستاذ من ضرباته، قال له وقد سمع بعض التلامذة يشيرون إلى أنه حضر إلى المدرسة بلا بنطال: جئتنا اليوم بلا بنطال وغداً ستأتينا بلا سروال!

أمره الأستاذ بتغيير مكانه. لم يعد مقعده في المقدمة، بل في مؤخرة الفصل. ذلك هو العقاب المستمر.

** ** **

لم يسأل أحدٌ في المدرسة طفلكِ عن سبب «هربه». ولم يبادر من ناحيته إلى أن يقول سبب وجوده في المقبرة ذلك اليوم. وكان هذا السبب يتوارى شيئاً فشيئاً في أعماق الذاكرة مع الأيام كي يحلّ محله في وعيه وفي ذاكرته، مشهد «الفلقة»: ساقاه المرفوعتان تكشفان عمّا تحت صدارته المدرسية، والاسم الجديد الذي أطلقه عليه رفاق فصله: يا جبلي!

المشهد، خصوصاً، كما تخيله في عيون رفاقه على مقاعدهم: سروال ممزق لا يخفيه بنطال، وجوارب مهترئة كان يخفيها الحذاء..

** ** **

ما تبقّى

خمسة وعشرون سنة مضت على هذا المشهد الذي عاشه طفلك قبل أن يستعيده رجلاً، بينما كان يكتب في مقهى الروتوند بباريس، وأن يعثر آنئذ فجأة على السبب الذي طغى عليه وغيَّبَه مشهد الفلقة وما تلاه في أعماق الذاكرة.

حين قبضتِ على معصمه كي تذهبي به إلى المدرسة، كان في المقبرة المجاورة لبيتكما يبحث عن بقعة أرض لا تزال آثار الماء التي بللت ترابها مرئية علّه يكون المكان الذي دفن فيه أبوه أخته، زهرة. كان يعرف أن الأطفال لا قبور تبنى لهم مثل الراشدين. مجرّد حفر تلقى فيها أجسادهم الغضة ثم تغطى بالتراب.

أرسلتِه صباح ذلك اليوم إلى بيت عمِّه، في الطريق إلى مدرسته، ينقل شيئاً ما. كنتِ بذلك تصرفينه عن أن يرى ما حلّ بأخته. تقول له زوجة عمّه بدهشة: سألنا أبوك عن صحة أختك زهرة فأجاب: شفاها الله. فقلنا له: الحمد لله إذن! ثم عرفنا أنها ماتت، وأن أباك كان يعني أن شفاءها كان موتها.

هكذا عرف طفلكِ أن أخته زهرة التي كان جمالها يتفجر في ضحكاتها وهو يداعبها كل مساء قبل أن يأويا إلى النوم قد ماتت، وأن أباه دفنها في مكان ما، وأن المكان لا بدّ أن يكون هنا.

هكذا وقد سمع كلمة «ماتت» من عمِّه، هرع طفلكِ ناسياً المدرسة إلى المقبرة يبحث فيها عن قبر أخته عبثاً، إلى أن قبضتِ على مِعصمِهِ وحرمتِه عنوة من العثور على قبرها.. عليها.

ما كان لما أصابك حين علمتِ أنه لم يكن في مدرسته أن يسمح لكِ بالتفكير في سبب وجوده هناك.. وما كان لما استحوذ عليكِ بعد ذلك مما رأيته على الطريق إلى مدرسته وما كان ابنك محروماً منه أن يتيح لك أن تتساءلي.. إن هي إلا لحظة رسخت في ذاكرتكِ حرماناً وفي ذاكرة طفلكِ فلقة!

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.