القصيدة.. جسدا مترنّحا في الضّوء

"هذا الّذي يقوله الجسد" لعادل المعيزي
الاثنين 2022/08/01
لوحة: عزيز سيد

“هي محنة التّجريب تدفعني لأكتب ما سأكتب“

(عادل المعيزي)

خطوة أولى

عقد عادل المعيزي صداقة مع الضّوء، في القصيدة البعيدة النّائية، هذه الصّداقة، هي نهاره الآتي، وهي ليلُهُم، السّلف والذّاكرة والوقت .

في الظّلام المعلّق في لهاث الفجر، نما الكون وبان زغب الشّعر، جنينا ورديّا في رحم الضّوء.

خطوة ثانية

الجسد في شعر عادل المعيزي يتمرغد في اللّون والتّجربة، وهو، حين تتجمّع أجزاؤه، كتلة ضوء هلاميّة تتشظّى في البياض والمسار ..

هكذا، على نحو مطّرد وجدليّ، امتلاء مطلق وتلاشٍ أبديّ ..

في هذا الكلام الملوّن بالغد المارق، سنرى، قليلا، جسد القصيدة عند عادل المعيزي

العنونة: جسد المفتاح الأوّل

ألح النقّاد المعاصرون على أهميّة العنوان في الشّعر المعاصر واعتبروه نصّا أصغر (micro texte)، عبره، يلج القارئ النّص الأكبر، وبه، تتحدّد سياقات القراءة وتتشكّل هويّة الدلالة بالتلميح أو التصريح، بالتثبيت و الإقرار أو المباغتة والتقيّة.

العنوان سرديّة فتح وشدّ، فتح القصيدة على التأويل الّذي تثيره شرارة القراءة الأولى وشدّ النّص إلى أوصال السياق عبر وتد التسييج والرّسم، رسم المسار الّذي ستتشكّل فيه ذات الشّاعر منصهرة في ذات القارئ، زوجا، صنوا للّيل والنّهار يدوران في فلك مطلق لا نهائي، يحدّد لحظة المكاشفة، هويّة القصيدة في سيرورتها الخيميائيّة .

والعنوان، دالاّ شعريا منعزلا أيضا، يمكن أن يشكّل نسغه دون أبوّة النّص، فيُقرأ، وحده، قبل أن نتخذه عتبة دخول لكون القصيدة، القارئ في العنوان، فيلسوفا قبل أن يكون نرسيسا يرى وجه حيرته في ماء الشّعر .

يعمل عادل المعيزي على العنوان بحرفيّة حداثي تهمّه صياغة العبارة وابتكار اللّفظ، ويشغله خرق علاقة المشابهة بين الدّال والمدلول من أجل بلاغة جديدة، من أجل التجريب، الّذي هو محنته .

ولنا في الأمثلة التّالية دليل:

في شفتيك بحيرة ضوء – فيما اللّيل يزأر شلالات الأحلام تتسلّق الفجر – حين فتحت عينيّ مسحت أجنحة الفجر – ق م ر لمجرى الجدول – ما أبطأ هذا اللّون في تخوم الخيال.

تظهر هذه النّماذج حرصا من الشّاعر على شعرية العنوان، وفيها الجسد قابع في صهوة العبارة، والضّوء في الّلونِ، والّلونُ حدود للزمان، وكلّها في الطبيعة عناصر تتفاعل لشحذ نار يتدفّأ بها قارئ هائج للآتي ..

يبدأ عادل المعيزي بناء قصيدته من العنوان، عبر تكثيف جليّ ودلالات سرياليّة تصدم القارئ وتدعوه للتمعّن في الدلالة باعتباره شريكا في العمليّة الإبداعية، فالقارئ الحداثي ليس ذاتا محتجبة أو نائية، بل هي في صميم الفعل الإبداعي وعنصر تشكيل ضروري.

ثمّ، العنوان دليل، على أن القصيدة موجّهة لقارئ نوعيّ نخبويّ مهووس بقضيّة الشعر مشغول بهاجس التجريب، باحث عنه كصوفيّ يبحث عن الله في الأشياء .

معجم الجسد (شفتيك، عينيّ) ومعجم الطبيعة (بحيرة، شلالات، الفجر، الجدول) تستقي، جميعها، معانيها، من المادّة والشهوة  ومن الضوء والماء وهي عناصر في الجسدِ والجسدُ عنصرا منها .

العنوان في شعر عادل المعيزي، اختزال شعري مكثّف للجسد، وهو، أيضا، إشارة لكون الشّاعر التجريبي.

الجسد.. تيمة إيروتيكيّة

كتب

أيّ جسد تحويه قصيدة المعيزي، أيّ تضاعيف تساير كيمياء المادّة وتمايز فيزياء الفناء؟

هل تعاضد شهوة الجسد شهوة القول فتستحيل العبارة الخالدة ترجمانا، بالصناعة، للمادّة والهباء؟ أم كلاهما لحظة الإنشاء، واحد وفي الزّمن، آنٌ؟

هل الجسد عند المعيزي موضوع قول شعريّ أم ومضة في أفق لدلالات لا متناهيّة، أم كلاهما، واحد لا يتجزّأ؟

يقول الشّاعر :

لكنّ الرغبة في جسدي انقدحت

الخصر النّاعم مثل فوانيس الحيّ، يفيض النّور العاري

والرّدف كناقوس كنيسة قدّيس

يرتدّ إلى وثن الأجداد بلا إكراه

والنّهدان بخور يتدفّق.

(عادل المعيزي، هذا الّذي يقوله الجسد، دار الكتاب، تونس ص49 – 50).

يظهر القول الشّعري هنا، مدارات من الدّلالة متنازعة المعاجم والأفكار والتلميحات، إذ يربط الشّاعر الجسد المشتهى بالمعجم الدّيني فيسبغ عليه بعدا قدسيّا جاعلا من الحبّ تطهيرا للذّات، ومن الجسد مكانا لفعل التطهير هذا.

إنّ الجسد ليس عنصرا ماديا مدنّسا، بل هو المعادل الحسّي  لصلاة الروح الخالدة .

ثمّ، الجسد عند المعيزي هو الضوء (فوانيس الحيّ، النّور..) به يبصر الشّاعر الأشياء وبالحبّ يحدّد كنه الوجود .

يشتغل الشّاعر في هذا السّياق على “تثوير موسيقى الحب من أجل أن تعكس إيقاع الجسد بكل مرونة ورحابة وحسيّة في عمليّة تمثيل شعرية” (محمد صابر عبيد، التشكيل الشعري، الصنعة والرؤيا، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق 2011 – ص 113) تذهب إلى حضن المقدّس لتعيد إنتاج رؤيتها الإيروتيكية من باطن جوفها.

ويقول في نصّ آخر :

عينان تريقان عليّ بريقهما

في غفلة عاشقة غائمة

من فرط الحبّ، رأيت بأطرافي الحبّ

رأيت بكفّي النّهدين

وبالشّفتين رأيت الشّفتين.

(هذا الّذي يقوله الجسد، ص 56).

الجسد، هنا، بصر ورؤية، وهو أداة شعور وإدراك خاصّة جدّا، يعبر الشّاعر بها إلى كيمياء الجسد المقابل ليراه، حينها، يرى نفسه، الغيريّة مرآة الإنيّة لحظة تفتّح الشهوة في صهوة الجسد .

الجسد عند عادل المعيزي، إذن، يقول ويتحرّك، يُظهر ويُبطن ويُصيّر الثّابت مادّة لزجة يعجنها الشّاعر بعجينة الكلام فإذا هي من القول شِعرا ومن الدّلالة ما أتاه القارئ على غارب الذّولق يحمله على ظهر الجسد موضوعا ورمزا كحاطب اللّيل تستوي الأشياء عنده جميعا إلى حين التجلّي والمكاشفة والضوء.

المكان.. جسد الفضاء

في اللّون مكان، وفي الضوء أيضا، وفي الذّاكرة مكان وطعم ووقت، وهذه الأمكنة في القصيدة جسد من شحم ولحم ومن حرف ومعنى .

المكان حين يصير جسدا يغنّي للضوء وتتفتّح مسامه لونا، أحمر وأخضر وأبيض في ليل الزقاق والحانة وأزرق في سماء القصيدة اليانعة، اللّون رئة الشعر ولهاث الوقت.

يقول الشّاعر :

في شارع ريفولي ..

كنت كمن فوق بساط الريح

مشَيْت إلى آخر تاريخ فرنسا

حين تعبت، جلست على خدّ السّان

وأطعمت حمامات يتسابقن ..

إلى حضني.

(هذا الّذي يقوله الجسد، ص 20).

الجسد حاضر في المكان، استعارة وتلميحا، النّهر الفرنسي الشّهير له خدّ أملس يطيب فيه الجلوس وعناصر الطبيعة الحافّة بالمكان تعود، في الحركة، إلى جسد الشّاعر .

هنالك، إذن، تفاعل حميم بين الشّاعر، الجسد، والمكان الفرنسيّ الجميل، دلالة وتصريحا بألفة شفّافة بينهما، هذا الغشاء لزج، يدخل منه ضوء خافت، يفرز ماء ولونا فتكون من النّسغ القصيدة، طريّة وليّنة.

لوحة: عزيز سيد
لوحة: عزيز سيد

يقول الشّاعر، في موضع آخر :

في جادّة بروكسل،

خلفي ..

فندق شامبورد

وأمامي سينما  UGC

أمشي في شارع لويز

أعني..

أتقاطر شوقا لمراياك القلقة

بهويّة من مثلي،

تحضرني قصص الآلام الكبرى.

(هذا الّذي يقوله الجسد، ص 25).

هنالك تفاعل ودوران، بين الجسد والمكان وبين الوقت والذّاكرة، هذا التفاعل، دائما، حميميّ فيحضر اللّون، باطنا في تجويف الدّلالة، أحمر للشّوق، وأسود، حدادا للفرح الغائب.

الشّاعر حين يتحرّك بجسده في المكان (مدينة بروكسل) تسيّجه الذّاكرة ويحرّكه الحنين .

الفعل “أتقاطر”، تصريحا لذوبان الذّات من فعل الشّوق لحبيب غائب.

المكان إذن، يهيّج الوقت – وهو يدٌ للذاكرة – والجسد، فهو، عنصر تأثير، يحرّك الكيمياء ويمزج اللّون باللّون .

يصهر المعيزي دوال المكان بدوال الجسد، لخلق، من الزوج السّالف، مدلولا واحدا وأبديّا.. اللّون الواحد يتراءى للقارئ النّبيه مجرّة ألوان تسبح في فلكها اللانهائي .

أمّا بعد.. أو جسد المنتهى.

بعد ذلك، يتخثّر القول أو يتجمّد المعنى على حافّة التشريح، وما يبقى، تذروه ريح، ثمّ، لا يبقى من الشّعر إلاّ زبده، عجينة الجسد الّتي منها القصيدة وفيها اللّون والضوء ..

من أجل تبديد الظّلام.. يكتب عادل المعيزي.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.