القط الفرنجي

الثلاثاء 2020/12/01

محمد زيدان الذي بلغ التسعين الآن، لم يعد يذكر حادثة حرقي القط الفرنجي الذي كان يملكه، برغم أنه يتذكر كل من يستدين من حانوته القديم، الخضر والفواكه والمعلبات والخردة، كأن تلك الحادثة ما كانت تعني له شيئا ليحفظها في أرشيف ذاكرته. أنا لم أستغرب أن يكون محمد زيدان الملقب بـ”طالب” نسي تلك الحادثة، فهي حصلت قبل نحو خمسة وأربعين عاماً، أو في أواسط السبعينات من القرن الماضي، وكنت أريد أن أعرف من أين حصل على القط الفرنجي في تلك البلدة النائية، لكنه أيضاً لم يتذكر. أولئك الذين رويت لهم حادثة القط، أكثر ما يذكرونني بها. كأن ثمة فوبيا من موت القطط في ذلك المجتمع الجبلي الذي نشأت فيه، كأن جسمي الضعيف والنحيل والفاقد للتوازن، كان سبباً في جعل موت القط حدثاً أقرب إلى الأسطوري، فأنا لم أقتله بالرصاص بل من خلال الحرق، بعضهم لا يتردد في وصفي بـ”المجرم”، أو يقول “لا يحرق في النار إلا العزيز الجبار”، مع ما تحمل كلمة نار من بعد ميثولوجي، كان الاعتقاد الدائم أن القطط بسبعة أرواح.

حكاية القط الفرنجي لا تبدأ من هنا. هي ليست البداية.

كنت أصبحت في الثالثة الخمسين من عمري، منسجماً مع قهوتي وسجائري على الطاولة الصغيرة، أعاند الملل الطويل والكتب متعددة الاتجاهات، والمقتنيات والأنتيكا الّتي تراكمتْ حولي في مكان عملي في ساحة الضيعة، حيث الجوّ مترافقاً مع قليل من الضجر المتقطع والكثير من السيارات العابرة والشاحنات الثقيلة. كنت ضجراً برغم أنّي أجلس مع أبي خالد الليبي الذي منذ سنوات يتحدّث عن فشله في أخذ قرض ميسّر من إحدى الشركات المالية، وهو كان يسعى لأخذ القرض من دون كفيل وعدم سداده في النهاية، وهو سمّي الليبي لأنه عاش سنوات عجاف في ليبيا، وهناك تعرفت إليه في نهاية الثمانينات حين كنت أسعى لمقابلة العقيد معمر القذافي في خيمته، وهذه قصة طويلة نرويها لاحقاً.

من بعد بطن نميمة، حول الناس واليسار وتاريخه ومأزقه، ضجر الليبي وبدأ يأكل رأس بندورة حمراء كان متوفرا على الطاولة مع قليل من الملح، ثم بدأ حل الكلمات المتقاطعة عبر هاتفه. كنت أفكر بقليل من الزبائن في ذلك النهار الطويل، إذ منذ تفاقمت الأزمة السورية دقر عملي في الدكان، وتراكمت المونة والمعلبات، تقلّصت السيولة. أكتب رواية على حاسوبي ببطء شديد، أعقاب السجائر تتراكم في المنفضة الخشبية، لم يعد في الركوة إلا بقايا قهوة. إلى جانبي كتاب “القط الأسود” للكاتب الأميركي إدغار ألن بو.

اشتريت قبل سنوات من إحدى مكتبات الحمرا في بيروت ولم أقرأه، لا أحبذ الأدب الغرائبي، لكن أقرأ القصة من باب الفضول. وما أثار انتباهي فيها أن إدغار ألن بو يقول “إن القط الأسود، هو الهيئة التي تتلبسها روح المنتقم”، يضيف “كان هيام القط بي يزداد بازدياد بغضي له، فكان يتبع خطواتي بثبات يصعب إيضاحه، فحيثما جلستُ، كان يجثم تحت مقعدي، أو يقفز إلى ركبتي ويغمرني بمداعباته المقزّزة، فإذا نهضت لأمشي أندفع بين قدمي وأوشك أن يوقعني، أو غرز مخالبه الطويلة الحادّة في ثيابي، ليتسلّق إلى صدري، ومع أنّني كنت أتحرّق في مناسبات كهذه لقتله بضربة واحدة”. يواجه بطل القصة، الأهوال بعد أن يقلع عين القط ثمّ يعمد إلى قتله. تعود روح القط لتنتقم منه، أولاً بأن تدفعه إلى قتل زوجته ثم باكتشاف الشرطة أمره بعد أن دفن زوجته وراء الحائط”. أقرأ القصة وأضحك، وأتذكّر كمن يتذكّر الحرب، الذاكرة فسحة للألم والحنين والقسوة والخيبة والسيجارة والكثير من الأمور والأشياء. ما فعلته بالقط كان عابراً في مقابل بطل قصة ألن بو.

القصة لا تبدأ من هنا. وليس حرق الهر إلا النهاية ومفتاح البداية. القصة بدأتْ يوم اشتريتُ خروفاً، في يوم من أيام الصيف، كان أحد الرعاة يرعى قطيعة في الحصيد أو بقايا حقل الشعير بقربنا، يومها صرت بجسمي العليل أحاول أن أركض وراء الخروف الوديع، أحاول أن ألهو وأكتشف، ربما شعرت أمي أني بحاجة إليه لأتسلى فاشترته لي، لا أذكر ثمنه بالتحديد، أربعون أو خمسون ليرة. أمي شعرت بالشفقة عليّ لأني كنت أركض خلف الخروف، كأنه لعبة لأتسلى، اشترت الخروف، وقالت لي أن أعلفه. كنت عليل الجسم وكانت تحنّ عليّ، سأتحدث عن إعاقتي لاحقاً، ولكن ما أذكره أو ما روته لي أنها دبرتْ لي كفناً في أشهري الأولى. كنت تحسب أن سأموت ولكن بقدرة قادر نجوتُ، وصرت طفلها المدلّل. كانت تحبنا جميعاً، لكن بسبب جسمي أغدقت عليّ عطفها، تعاملت كمحاربة من أجلي.

لا أتذكّر موت أبي جيداً، لكن أتذكر منذ رحل أصبحت أمّي فلاحة تتحدّى الرجال في الوديان والسهوب، تحرث الأرض على الدواب دون منّة من أحد، اتذكر كانت تأتي لي بقشور البطاطا والحشائش وتقول لي خذهم للخروف. كان الخروف وحيداً في الدار، حين يراني من بعيد يبدأ الثغاء، هكذا الذكريات أواني الزمن، صورتها الآن مثل المنام. كان الخروف تسليتي، حين لا ألهو بإطعامه أو الذهاب الى الكروم، العب الشطرنج، أخي حسان جلب الشطرنج أول مرة إلى الضيعة، عام 1970، كان في دار المعلمين في زحلة وأتى به، بعد أربع سنوات تعلمت، كنت أتأمّلهم يعلبون وتعلمت وتعلم كثر من أبناء جيلي، وصار الشطرنج لعبة الشبان في الحي. كنت تجاوزت العاشرة من عمري حين تعلمت لعبة الشطرنج التي بدت غريبة في البداية، وسرعان ما تحولت لعبة شعبية، لم أكن بجسمي العليل أفكر في تجاوز علتي وتحديها، لا ألعب الألعاب التي تتحدى جسمي، ولا أتمناها في الواقع، متكيفاً مع واقعي إلى أقصى حدود، وحين تعلمت الشطرنج كأني وجدت اللعبة التي تناسبني، وقادراً على قول “كش ملك” من دون أن استعمل تلك العضلات التي يستعملها الشبان عادة في عنفهم اليومي.

تتت

 أشهر قليلة غادر الخروف وداعته. شقيقي قال لي “بات وزنه مقبولاً، حين يكون السعر جيداً سنبيعه”. أنظر إليه ولا أقول شيئاً، كأن هدفي لم يكن أن أبيعه بلْ أن أربيه وأتسلى به. ويوم قررتُ بيعه، راودني تفكير أني سأشعرُ بالفقد من دونه، مع ذلك بعته ووجدتُ ثمنه مضاعفاً، تغيّر مزاجي ونسّيت تلك اللحظات في ألفة الخروف، كأنّي أحقّق انجازاً ونقلة نوعية في حياتي، هي غواية المال في زمن القلّة والعوز. ذلك الخروف الذي لعبت معه وأطعمته رأيته معلقاً في محل الجزار. رأيت المشهد، ومشيت، ونسيته، اقتطعت جزءاً من ربحه واشتريتُ عدداً من طيور الحمام، وبدأتُ أهتم بهم وأستمتعُ بطيرانهم ودورانها فوق السطوح والأحياء. يا لهول كش الحمام، الطيور أكثر غواية من المواشي، لم تمر أسابيع حتى بدأت الطيور تبني أعشاشها في الصناديق الخشبية التي علقتها لها على الجدران ووضعت بيضها. لم يسبق لي أن رأيت البيض يفقس، لكن “نقّ” الجيران، أفسد فرحتي في ذلك الصيف، حتى في بيتي نفسه، بدأ الجميع يشتكون من روث الحمام على السطوح ذلك لأنهم يجمعون مياه الأمطار في الشتاء في الصهاريج، في بلدة تفتقر إلى مياه الشفة ووسائل النقل. كان الرأي التخلّص من الحمام وروثه. رضختُ للمشيئة، وأنهيتُ مُكرهاً سرب الحمام، مع قليلٍ من العتبِ على الواقع. بعد أخدٍ وردٍ مع والدتي قلتُ: “سأشتري أرانب”.

أخي ابراهيم شجعني قال لي “إن تكلفتها بسيطة وسريعة التكاثر، وتأكل كل شيء، وتطعم لحماً وتبيع منها”. ذهبت إلى أحد مربي الأرانب واشتريت بضعة إناث مع ذكر واحد، وجئت بهم وأنا مفعم بالفرحة ووضعتهم في حظيرة، تضمّ بين جدرانها الحطب والتبن وأعلاف المواشي وبعض الأدوات الزراعية البدائية مثل الصند والنير والكدانة، وهي كلّها كراكيب تؤمّن الجوّ المناسب لحياة الأرانب. وبدأت رحلة التربية بحماسة من خلال إطعامهم مراقبتهم لساعات يومياً.. لم تمضِ أسابيع حتّى خرجتْ الدفعة الأولى من المواليد، وزادتْ الأعباء وبدأتُ أمتطي الحمار وأذهبُ إلى الكروم لجلب الحشائش والأعشاب لهذه المخلوقات الوديعة، ولم تمر أشهر ومع ازدياد عديد الأرانب، بدأتْ المحاكم تُعقدُ بشكلٍ دوري ومتواصل لمحاكمة الذكور على أعمال الشغب التي يقومون بها من اضطهاد وتعذيب الصغار وقتلهم، إلى الاستئثار بكمية كبيرة من العلف. كان عدد قطيع الأرانب غير ثابت، يصل أحياناً إلى العشرات وفي بعض الأحيان إلى ما دون العشرة بسبب الأمراض المعدية، وبقيتْ الأرانب تنعمُ برعايتي ما يزيد على السنتين، وقد أصبحت معروفاً في الضيعة، أحياناً كنت أبيع للراغبين وأحياناً أخرى أقدم الهدايا للأهل والمقربين.

القط

يوماً ما تسلّل هر جارنا طالب وافترس ما يقارب الخمسة عشر أرنباً، ولم يبق أثر للحياة في الحظيرة. لم أفعل شيئاً سوى أني وقفت مذهولاً وغاضباً كأني أضرب على رأسي، وفي لحظة قلت: “سأنتقم”.

أمي تشعر بغضب وتساندني، أخي إبراهيم كان يفكر بشراسة هذا الهر، فهي المرة الأولى التي يرى فيها مجزرة أرانب والقاتل هرّ أليف. المسافة بين بيتنا وبيت محمد زيدان الملقب طالب وهو صاحب القط بين خمسين إلى ستين متراً، من باب دارنا أنظر لأراه ما إذ كان واقفا في الدار تحت العنبرة الضخمة، فهو عرف بما فعله هره بالأرانب، وحين قررت الذهاب إليه، عبرت الحقل الزراعي حتى بيته، طرقت الباب بوجه متجهّم وغاضب، نظر إليّ كأنه يعرف ما أريد ولا يعرف، قال “تفضل”، وطالبته أن يسلمني هرّه الفاتك. في البداية رفض وهو يتأملني، وحاول طردي من منزله “روح على بيتكم”، قالها أكثر من مرة. صورة الأرانب القتيلة في رأسي كانت كافية لتجعلني أبقى متعنتا وأرفض المغادرة، “لن أذهب” قلت له، حصلتْ مشادّة كلامية بيننا، فاقترحتُ أن يسلمني “البس” (القط) أو أن يدفع ثمن الأرانب المبادة، صمت قليلا ثم خدع الهر وقدّم له بعض الطعام، وقال “هذا الهر خذه”. كنتُ أحمل كيس جنفيص فوضعت الهر فيه وربطت عليه ومشيت عائداً.

كان الهر من الأنواع الضخمة وبره طويل ورمادي اللون مرقط قليلاً، ويطلقون عليه في الحي “بس فرنجي”، حيكت بعض الحكايات حول أصله وفصله ومن أين أتى، وأنا في لحظتها، لم يكن يعنيني أكثر من الانتقام. حملته بصعوبة إلى منزلي ولم أخرجه من الكيس، وأناً أمشي متخيلاً لحظة الانتقام منه أو إعدامه. ووضعته إلى جانب سياج الدار بالقرب من الحظيرة، أخي ابراهيم ضربه بحجر في البداية ليفقد الوعي، صار يتألم في الكيس، وأتيت بقنينة كاز، نثرت عليه وأشعلته بعود ثقاب، وما هي إلا ثوان معدودة وتحرك الهر بسرعة أغرب من الخيال، واتجه صوب منازل الجيران وغالبيتهم من المزارعين والفلاحين، وكان الوقت في نهاية موسم الحصاد وأكثرهم جمع وقود الشتاء الحطب والشحل والعيدان. وقفت لدقائق حابس الأنفاس بانتظار صرخة استغاثة، لكن مرّت الأمور على ما يرام، ومن ثمّ ذهبتُ أستطلع وكان كل شيء طبيعياً، وفي المحصلة نمت مرتاح الضمير رغم بشاعة المشهد وفظاعته.

كثرٌ كفروني، قالوا “إن القط بسبعة أرواح”، لم أهتم. وحدها أمي كانت سعيدة بالانتقام. وفي صبيحة اليوم التالي، طُرق الباب باكراً، وعندما فتحتُ كان الطارق محمد زيدان صاحب الهر وقد جاء يطلب التخلص من هره نهائياً، فقلتُ “ما أردتُه منه فقد حصلتُ عليه والباقي لا يعنيني”، بقي صامتاً ومشى، وفي النهار حاولتُ الوقوف على واقع الهر، فكان مشهداً لا يوصف وتقشعرُ له الأبدان، إذ لم يبق عليه أيّ قطعة جلد، كتلة من اللحم المحترق تنز دماً وقيحاً ولا يزال حياً. ورأيته لاحقاً نافقاً ومرمياً في خزان مهجور في تلّة الجوبان، القريبة من بيتنا. هل كانت حرباً أهلية صغيرة؟ لا أعرف شعوري في ذلك الوقت، لكن أحسب أني كنت في مرحلة اللاتفكير، الأرنب ربما كان البوصلة التي تحدد الاتجاهات والمشاعر، انتقامي للأرنب كأنه انتقام لهويتي في الطفولة.

 اليوم إذ أستذكر حرق القط، أحسب الوجود كله مجموعة من الكائنات المتوحشة، فذلك القط الذي نصنّفه في خانه الحيوانات الأليفة، افترس الحيوانات الوديعة أو الأرانب، والأرانب الذكور تفتك بصغارها، وأنا بجسمي العليل، كنت أستمتع بجوقة الأرانب، خصوصاً حين تكون صغيرة، ناعمة، طرية، وحين تكبر قليلاً أستلذ بها في وليمة الكبة، مهما يكن، كان حرقي الهر أقرب أقنعة متناقضة بين جسمي العليل، وبلدي المعتل. وقد توصلت إلى قناعة أن الحياة مغامرة فاشلة وإن نجحتْ. طوال الأيام التي عشتُها، كنتُ أريد إثبات وجودي في الحياة، والقول إن لي قدرة على فعل أشياء كثيرة، حتّى وإن كان جسمي يتخبّط بعلله. وتوصلتُ إلى قناعة أن حياتي مجموعة من الخسارات الدونكيشوتية، منذ وضعتُ الهر في كيس وأشعلته، انتقاماً لقتله الأرانب التي كنت ربيتها.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.