القلم‭ ‬من‭ ‬الأسفل‭ ‬إلى‭ ‬الأعلى

الثلاثاء 2015/08/18

يوم كنّا صغاراً في مراحلنا الدراسية الأولى، كانت أقلام الرصاص بين أصابعنا تتآكل لتقصر مع البَرِي المتوالي في المبراة - آكلة القلم؛ لإبراز منقاره الرفيع توخياً لخط ناعم وجيد، وكان القلم بطوله الفارع يتناقص كما لو أن قوى خارجية تلتهمه مع تتالي الدروس، ومع وجود المقطاطة التي تقطُّه من الأسفل الى الأعلى وتترك ريشاً من خشبهِ يتساقط على الجانبين، إلا أن التفكير الطفولي كان يرى أن سحرية التناقص في عمودية القلم هي تحصيل حاصل للتعبير عن جودة الخط الذي كان يزحف دائماً عن سطر الورقة، أو هو تعبير عن قلق يتسبب به كسلنا المزمن في استيعاب دروس صعبة؛ وكل الدروس صعبة في التلقي الأول؛ لذا فالمقطاطة هي إحدى عوامل امتصاص الخوف والقلق في تآكل القلم الذي ينسحق تدريجيا تحت وطأة الكتابة حتى يصبح طوله أقل من طول أقصر الأصابع، ليبدو كأنه عقلة خشبية تتململ فتزيد من ميلان الحروف وتصبح الأسطر سككاً غير متوازية تصطدم ببعضها لتغيّب أثر المعاني المحتملة، مع أن لا معاني يمكن التعويل عليها في تلك المراحل التأسيسية سوى أنها آلية نقلية مباشرة من المناهج الدراسية وإملاء صعب مليء بالنشاز والأغلاط، وتلك هي البداية التي لا ننساها مع القلم‭.‬

I

سيخرج القلم من كونه أداة متعارفاً عليها اجتماعياً وثقافياً إلى تأويلاته الممكنة في هذه المساحة المتاحة‭.‬ لما له من أهمية قصوى في تدوين الأثر الجمالي بمعطياته الكلية تاريخياً وعبر نسيج بشري متضامن منذ آلاف السنوات وحتى اليوم، منقادا خلف جهود حضارية متضافرة امتدت من عصر الكتابة السومري وربما قبله والى آخر حلقة علمية استعاضت عنه بالزر الإلكتروني الذي ربط المخيال الكتابي بحروف مربعة على كيبورد بلاستيكي سهل التناول‭.‬ بل تصاغر اليوم حتى أصبحت الكتابة على أزرار الهاتف النقال الذي بات وسيلة من وسائل الإتصال اليومية التي لا غنى عنها‭.‬

II

القلم تاريخ طويل من حياة البشرية‭.‬ ثقافات متعددة تداخلت في الأزمنة بأشكال كثيرة بدأت من الإصبع المغموس بالدماء ووصلت الى زر صغير على الهواتف النقالة لتكتب حضارتها الشاسعة من المعرفة‭.‬ وبمثل هذا التطور الحثيث ابتكر القلم أشكاله ووضع له أسراره في كل زمن وانتقى له حضارته المتسارعة الى نور من المعرفة في علمية الحياة المتقادمة بين شعوب شتى؛ وهي تسعى بدأب لأن تكتسح الجهل وتستوطن الثقافة العامة وتكنولوجيا العلوم ومعطياتها الجمّة‭.‬ فمنها من وطّد علاقته بالعصر ومنها مَن ظل متوارياً عن الحياة الى أجلٍ غير مسمى في تاريخية القلم وفي أميّة مستشرية ضربت جذورها في العقول، فتخلفت حتى الساعة‭.‬

III

في كل تاريخيته، ومع كل أنواعه المبتكرة، ظل القلم عمودياً يبدأ من الأسفل الى الأعلى‭.‬ ويتآكل من الأسفل الى الأعلى، ويكتب من الأسفل الى الأعلى على جلودٍ أو طينٍ أو ورقٍ ‭.‬كأنما يفكّر من الأسفل الى الأعلى بنسغٍ صاعدٍ دائماً ليشير الى مركز ثقلٍ نازلٍ يهبط عكسياً في متوالية الصعود والنزول السرية التي لا ترتبط به كأداة جامدة، إنما ترتبط بمخيلة ماسكة يقف وراءها فكر حي نابض بالحياة والمعرفة ويتحرك بين أصابع مهمتها تحريك المنقار الهابط على لوح الطين أو سطح الورقة ‭.‬مما يجعلنا نفكر: هل الأفكار عمودية الى هذه الدرجة؟

قد يكون القلم من أقدم المخلوقات على وجه الأرض‭.‬ بل من أولها قطعاً يوم كانت الحياة عماءً غامضاً بتعبير المتصوفة

عمودية القلم تاريخياً ليس لها تأويل ممكن فأقلام القصب والخشب هي تشكيل عمودي وهندسة غصنية طولية، لكن ربما الحاجة الى "غرز" الأفكار قبل نسيانها جعلت من الحفر على الطين السومري بقصبة قوية ذات منقار باز وحافر، ومع تطور هذه الأداة ظلت العمودية تشير الى النوع الكتابي الذي لابد أن يكون بهذا الشكل بين الأصابع؛ وحتى في متغيرات العصور ظل القلم ذا أطوال عمودية متفاوتة؛ وكانت وما تزال الأصابع هي المحور المركزي الماسك لتوطين الحروف على الطين السومري القديم او الورق الحديث، وصولاً الى أزرار الآلة الحاسبة‭.‬ فعمودية القلم ومع تغير أشكاله طولياً بقيت ثابتة مع الأصابع في ثنائية العلاقة المتوطّدة على مر الزمن بينهم‭.‬ كما لو أن الأفكار بذاتها عمودية تتسلسل بهندسة نازلة من الرأس حتى نقطة القلم الرأسية التي تمارس دور العقل وهو يفكر ويُملي ويكتب مهما كانت درجات العقل نسبية في أفكاره‭.‬

IV

قد يكون القلم من أقدم المخلوقات على وجه الأرض‭.‬ بل من أولها قطعاً يوم كانت الحياة عماءً غامضاً بتعبير المتصوفة حتى جاء ذكره في القرآن الكريم بطريقة القسم الرباني ( نون والقلم وما يسطرون) وهذه أول إشارة سماوية لهذه الأداة التي رافقت البشرية منذ الأزل بأشكالها المختلفة؛ عندها كان الإنسان القديم الذي يجهل القراءة والكتابة يعبّر عن خلجات نفسه بطرق شتى‭.‬

V

للقلم منظومات مجازية وواقعية، وهي منظومات تم التعارف عليها عبر تطور الثقافات والحضارات والآداب والفنون والسياسات العامة للشعوب‭.‬ فتمت أنسنة القلم لحاجات سياسية على الأغلب الأعم، ومن ثم وطنية وأدبية، لما للقلم من تواشج حميمي مع الحياة وتعاقب الحضارات الإنسانية

هذا الكائن الصغير أدهش البشرية بقدرته على التدوين وأرشفة الحضارات والثقافات، فكان سجلاً أميناً لما تركه الأسلاف للمستقبل الذي حظيت كثيرٌ من الأجيال بتعقب ما تركه الماضي إلى الحاضر، ولا تزال العديد من المخطوطات والأثريات والرسومات البدائية والخطوط الغامضة تحتاج إلى مكتشفين ومعقبين واختصاصيين لحل الأثر تلو الأثر الذي كتبه القلم أو دونته الريشة أو خطّته قصبة صغيرة في يومٍ ما وزمنٍ ما في حضارةٍ ما ‭.‬ لذلك وُصف القلم بأنه مجموعة منظومات أخلاقية تمت أنسنتها تعبيراً عن مختلف الشؤون الحياتية والرسمية، فيها من المجاز ما هو قادر على أن يكون توصيفاً لحالة ما أو شخصية ما ؛ كأن نقول " قلم حر" وصفاً لكاتب غير انتهازي أو " قلم أجير" وصفاً لكاتب مأجور يتبع حزباً أو سياسة أو سلطة ما وعادة ما يشيع حالة سلبية ويقلب الحقائق على حساب الواقع‭.‬ ومثله "قلم السلطة" الذي يمارس دور التمجيد للسلطة والحاكم‭.‬

هناك "قلم وطني" وصفاً لكاتب يضع هموم وطنه في مداد حبره ويخط نشيد البقاء لذلك الوطن‭.‬ وما إلى ذلك من تسميات وتوصيفات تؤكد قدرة القلم على النطق والاستنطاق وتوثيق الأحداث الصغرى والكبرى من دون زيف؛ ذلك الذي يمارسه "القلم المزيف" الذي يشوّه التاريخ ويغير الوقائع والحقائق لحسابات آنية لا تصمد كثيراً أمام زحف التاريخ المستمر‭.‬

تاريخية القلم

الإصبع هو القلم الأول في الكتابة، فقد قادت فطرةُ الإنسان أن يؤرخَ يومياته وما يهمه من شؤون بأي مستوى كان عبر خطوط دالّة ورسمات بدائية لها مستوى عقلي معين وذلك بغمس أصابعه في دماء الحيوانات ليخط أو يرسم على الصخور وجدران الكهوف ‭.‬ فكانت الدماء هي الحبر الأول في تلك الأوقات الموغلة في القِدَم والمؤرخ العفوي لإنسان ما قبل التاريخ ‭.‬

هذه البداية الدموية لها ما تؤكدها من مكتشفات في كهوف الصحراء الكبرى وأسبانيا وجنوبي فرنسا مثلاً ‭.‬ على أن حبر الدم هذا كان البداية الفطرية لمضي الإنسان نحو آفاق الاكتشافات المهمة التي توّج بها وجوده في منظومة المجتمعات التي تواجد فيها‭.‬ فبعد الإصبع الأول تحول الإنسان إلى استعمال عيدان الخشب وريش الطيور كأقلام يغمسها في الأصباغ الملونة ليكتب أو يخط بها بديلاً عن أصابعه‭.‬

VI

من الدم الأول الى حبر الحياة المتقدم تعاقبت أجيال طفولية لا حصرَ لها من الإصبع العمودي الى أشكال القلم العمودية المستخرَجة من الشجر وبقيت الأفكار العمودية تُكتب من الأسفل الى الأعلى في مركزية لم تتغير حتى عصر الحواسيب العملاق الذي تنكّر للقلم وضغطه بشكل مربعات صغيرة ليكون بصمة دالّة على النوع المتطور استغناء عن عمودية القلم لكن بقي الرأس ينحني أمام هذه الأزرار المضغوطة بكتابة سفلية لم تغادر كثيراً موقعة من الأسفل الى الأعلى ‭.‬

ومن الإصبع الأول إلى الإصبع الأخير؛ تقادمت المعرفة وسبلها العلمية والثقافية والاجتماعية لكن بقي القلم بأشكاله كافة شاهداً على فكرة الأسفل والأعلى حتى وإن غادره حبر الكتابة في إلكترونيات القرن الحادي والعشرين.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.