الكائن الأونلاينيّ
أشعر أنّني أتحوّل إلى كائن أونلاين يوماً بيوم. أفيق صباحاً، أتصفّح الرسائل المرسلة إليّ من الأهل والأصدقاء على مختلف وسائل التواصل الاجتماعيّ التي تمارس نوعاً من التحايل على المرء، تبقيه مسكوناً بمشاعر القرب والاطّلاع على الأحوال، وتنقل الأخبار أوّلاً بأوّل، لكنّها تحجب عنه حميميّة التلاقي، وبهجة الروح أثناء صمت الأعين في حضرة بعضها بعضاً.
مسكوناً بالأنين أتنفّس. أهجس بالحنين وأكابر عليه. لا أودّ إفساح مجال كبير لمشاعر الإحباط كي تتبّلسني، كما لا أودّ الإفصاح عمّا يتآكلني من شوق مستعر للسير وحيداً في براري الطفولة. أفيق كلّ يوم على حلم أن تلفعني شمس بلادي الحارقة. أن أفتح عيوني وأرى السهول تمتدّ أمامي رحبة تقودني إلى سعادة مأمولة. أستعيد براءة الطفولة، حين كنتُ أمضي برفقة أصدقائي ساعات ونحن نبحث عن جحور الأرانب البرّيّة عسانا نصطاد أرنباً نتباهى به أمام أهلنا وأمام أقراننا ومنافسينا من أطفال الحيّ، وكنّا نعود كلّ مرّة بخيبة جديدة، وأمل متجدّد بأنّنا قد نفلح في مرّات قادمة.
لا يمكنني نسيان تلك الحدود التي كانت تقصم ظهر جغرافيّتنا تلك. كان المصطلح الدارج عن مدينة عامودا وريفها بأنّها سهل ماردين، في حين مدينة ماردين تتوسّد جبال طوروس، وتتبدّى لنا كعروس مشرقة في الليل. أحمل عقدة الحدود معي. وحين أفكّر أنّني في بريطانيا في جزيرة باتت تفضّل العزلة عن محيطها الأوروبيّ، بعد ما أسمّيها محنة البريكست، أعود لتلك الحالة التي يتداخل فيها الخوف بالتوجّس والارتياب ممّا وراء الأفق المحجوب، ممّا وراء تلك الجبال، ما وراء تلك الأسلاك الشائكة، ما وراء تلك الجدران المفترضة التي بدأت ترتفع وتكتسي حللاً واقعيّة أليمة.
الكائن الأونلاينيّ الذي أصبحه بمرور الزمن يملي عليّ عاداته في التواصل والمتابعة والقراءة. يتمرّد على إرادتي ويسير عكس رغبتي في التهدئة مع الحنين. يمضي إلى أقاصي الشوق ويقصيني عن ملعبه الافتراضيّ ليحتلّني ويملي عليّ شروطه للتصالح مع مكاني الذي لا يفارقني فيه شعور اللاجئ، ومزاج المنفيّ الفاقد لأمانه ووطنه.
لا أدري هل أسمّي حالتي بخيانة المكان، أو الجناية على الذات في حلّها وترحالها. حين كنتُ في بلدي كان شعور الاغتراب يلازمني، كنتُ غريباً بين أهلي وأصدقائي، اهتماماتي مختلفة عن اهتماماتهم، كنت أواظب على القراءة والكتابة في محيط كان يجد الكتابة أمراً ثانويّاً طالما أنّه لم يكن يساهم في جلب النقود أو تحسين الأحوال المادّية، ناهيك عن أنّني كنت أقتطع مبلغاً شهريّاً من راتبي المحدود لأشتري الكتب. كانت الكتب زوّادتي لمجابهة اغترابي في ذاك الواقع. كنت أشعر أنّني بمعنى ما أجني على نفسي، وأخون مكاني حين أبقى وحيداً لأيّام من دون أن أجد في نفسي الرغبة لمشاركة أحد أيّ نشاط. كانت القراءة، وما تزال، جسري للعبور إلى جميع أصقاع العالم، والتمتّع برفقة شخصيات مختلفة غريبة، ساحرة، مجنونة، أكتشف معها الآخرين.. وذاتي.
أعيش هنا جسديّاً، في حين أنّ الحياة الروحية تكون مرتحلة في أمكنة أخرى، لا تستقرّ على حال، ولا تتقيّد بمكان. أرحل مع كلّ كتاب إلى عالم مختلف، إلى مكان وزمان مختلفين. بين الرحلات القرائيّة والكتابيّة، تكون رحلتي الدائمة إلى مدينتي الصغيرة التي كنّا نعتقد بأنّها مركز الكون، والتي تأتيني أخبار التغييرات الفظيعة التي اجتاحتها وتعبث بهويّتها.
لا أستطيع أن أخفي ضحكتي حين تتناهى إلى مسامعي أخبار تحويل مدينتي إلى عاصمة لروجآفا، أو لشمال سوريا، بحسب تغيير المصطلحات الذي يظلّ دأب الحزب المتحكّم بالمنطقة، بناء على اتّفاقات وتوازنات معقّدة هشّة.
مَن يخون المكان بهذه الصيغة؟
أعيش في مكان وأستقي من خيراته، وأنعم بالدفء والأمان والهدوء والسكينة والاستقرار فيه، في حين أنّ روحي تظلّ مضطربة لا تستدلّ إلى أيّ طريق للتهدئة أو تخفيف الاضطراب. أحاول العثور على حلّ للمعادلة المستعصية على الحلّ. كيف أوازن بين مكوثي هنا في ملاذ آمن، وارتحالي الروحيّ والفكريّ إلى هناك حيث يفترض أن أكون، في خضمّ معركة الحياة.
أعود لأسأل نفسي، ما الذي حصّلته من هناك سوى الشقاء والبؤس والتغريب، هنا الاعتبار والأمان والتقدير بحسب ما تبدع، في حين أنّ هناك مَن كان يحمّلني مِنّة أنّه قد يقرأ روايتي، مع أنّه يكره القراءة، بحيث يشعرني بأنّه سيضحّي براحته، ويغامر بإقلاق نفسه بالقراءة التي لا يطيق صبراً عليها، وذلك كلّه من أجل إرضائي. كم كنت أودّ أن أصفع هؤلاء، وكان منهم أصدقاء مقرّبون أو بعض الأهل. كنت أكتفي بالابتسام، كعادتي حين أحتار في العثور على ردّ مناسب يرضي غيظي، ولا أستطيع الجهر به تبعاً للاحترام الذي ينبغي التحلّي به.
أعيش كغيري من اللاجئين في قواقع صغيرة. قوقعتي باتت ثلاثيّة الأبعاد. الأولى ضمن مجتمع سوري صغير في المدينة أدنبرة، أكتفي بعلاقات محدودة مع أصدقاء قليلين، أتبادل معهم بعض هموم الواقع ومشقّاته التي نحاول تذليلها معاً بالحديث عنها وتفكيكها وتفهّمها والتغلّب عليها بترويضها، أو تدجين أنفسنا لنتحمّلها أكثر. وقوقعة أخرى متمثّلة بعلاقات محدودة مع بعض الأسر الكردية من سوريا والعراق وتركيا. أمّا القوقعة الكبيرة التي تحتضن القوقعتين معاً، فهي قوقعة المتاهة اليومية، أحياناً تمر أيام، وقد تصل إلى أسابيع، لا أتكّلم مع أحد بالإنكليزية، سوى مفردات بسيطة حين تبادل التحيّات والابتسامات المزيّفة.
هذه القواقع تلعب دوراً في خيانة المكان الذي أجد نفسي غارقاً فيه. كيف لي أن أكون وفيّاً مع أيّ مكان، وقد هجرت بلادي، ولجأت إلى هنا؟! أكان يفترض بي أن أظلّ هناك وأنخرط في دوّامة الحرب الجنونيّة وأقضي على أيّ أمل بغد أفضل لبناتي؟
أعيش محنة إدوارد سعيد، أشعر به حين كتب “خارج المكان” وكان في داخله، كان متغلغلاً في عمق أعماقه، يحرّك أوجاعه ويمتح من بئر أحزانه وذكرياته. هنا أنا خارج نيران المكان وفي معمعتها معاً. أكتوي بنيران الذكريات، وأتدفّأ بها في صقيع الغربة.
أفكّر في مستقبل ابنتي؛ هيفي وروز، أرى العالم من خلال عيونهما. أبحث عن المكان الذي يمكن أن يوفّر لهما العيش بأمان وسلامة، يستحيل أن أفكّر بأن أجني عليهما وأبقيهما في مستنقع الحرب، حيث التيه يغرق الجميع. عليّ أن أفسح لهما المجال كي يعيشا طفولتهما بعيداً عن ذاك التوحّش كلّه، بعيداً عن الدماء النازفة المهدورة في معمعة الحرب.
الروتين اليوميّ كان حلماً من أحلامي في مرحلة التشرّد التي طالت سنوات. صحيح أنّ تنقّلي كان بطريقة مريحة إذا ما قورنت حالتي بحالة آخرين أعرفهم، لكنّني كنت أفتقد الهدوء والاستقرار، لم أكن أملك ترف المكوث في مدينة والبقاء فيها، لأنّ الوقائع كانت تفرض نفسها عليّ وتجبرني على الرحيل إلى مكان آخر عساني أحظى فيه بما أبحث عنه.. وهيهات.
أكتبُ في يوميات الغريب وأبحث عن إجابات تنتهي بدورها غالباً بإشارات استفهام.. إنّها الحياة – المتاهة المتجدّدة المغرية بمناورتها والمضيّ معها في دوّاماتها الصاخبة.