الكتابة الغائبة
رغم الطفرة في الإنتاج الأدبي العربي بأجناسه المختلفة يظل الأدب البوليسي شبه غائب عن الساحة الأدبية، كما أن من دخلوا غمار الكتابة في هذا الجنس يعدّون على رؤوس الأصابع. ويعزى هذا الأمر كون أغلبية النقاد لايتجرّأون على الخوض في تحليلها كما أشار إلى ذلك الأستاذ علي القاسمي في مقدمة ترجمته لكتاب جوليان سيمونز ” القصة البوليسية، لأن النقاد يعتبرون “أنها ليست أدبا جادا” ولا ينكر “أن العديد من الكتّاب قد زاولوا هذا الفن في روسيا وبريطانيا وفرنسا”.
واقتحام غمار هذه التجربة محليا يظل منحصرا في دائرة ضيقة جدا، وقد سبق لمجلة فصول القاهرية سنة 2009 في أحد أعدادها أن تطرقت لهذا المشكل من خلال الاحتفاء بالرواية البوليسية من خلال إعداد ملف كامل كان ضيفه الباحث الجامعي والناقد المغربي بوشعيب الساوري. وقدم له الأكاديمي شعيب حليفي “وتطرق الكاتب إلى وضع الرواية البوليسية في الوطن العربي ومفارقة وجود قاعدة واسعة لتلقي الرواية البوليسية، في حين أن إنتاجها متعثر وشبه منعدم، الأمر الذي لم يسمح بتبلور رواية بوليسية عربية بالمواصفات المعروفة في الآداب الغربية”.
وقد برزت بوادر هذه الكتابة في المغرب حسب عبدالرحيم العلام في مقال له بصحيفة “الشرق الأوسط” مع الكاتب عبدالسلام البقالي والكاتب إدريس الشرايبي في مجال الرواية البوليسية المغربية المكتوبة باللغة الفرنسية. في حين يحددها كرواية قائمة الذات مع الميلودي الحمدوشي وعبدالإله الحمدوشي اللذين “دخلا معا مغامرة الكتابة الروائية البوليسية بالعربية. وهو ما يشكل، في نظر البعض، ثورة حقيقية في هذا المجال، وذلك بما يشبه مغامرة بعض دور النشر في المغرب من زاوية ترحيبها بنشر هذا النوع من الكتابة الروائية”. ونضيف كاتبين آخرين هما عبداللطيف بوحموش في كتاباته “ملفات بوليسية” التي تمت إذاعة نصوصها على أمواج الإذاعة، كما صدر له كتاب آخر”مذكرات عميد شرطة”، بالإضافة إلى الروائي الشاب مصطفى الكناب من مدينة تارودانت من خلال باكورته الروائية “فرصة أخيرة”.
في حين قد نجد مبررات أخرى قد تنير عتمات هذه الإشكالية من خلال مقتطف من مداخلة القاص والناقد الأردني سمير الشريف أثناء إجابته عن أسباب تواري الأدب البوليسي بالوطن العربي حيث يقول إنه “يعود إلى غياب المدينة بتعقيداتها وتشابكاتها كما هي في الحالة الأوروبية، وهي بالتأكيد بحاجة إلى كتّاب متفرّدين بعلم الجريمة وعلم النفس. متطلبات النص البوليسي تحتاج إلى قدرات مضاعفة وجهد أكثر تركيزاً كتماسك الحبكة القصصية وتوافر الإثارة والصراع والمفاجآت والتشويق الدائم”.
وعموما يرى جوليان سيمونز أنه “كان يكمن وراء القصص البوليسية التي كتبت قبل الحرب العالمية الثانية اعتقاد مفاده أن المشكلات الإنسانية يمكن أن يحلها العقل وتحكمها الفضيلة، وأن ذلك الحل يتناسب مع النظام الاجتماعي المستقر وأن العدل سينتصر في النهاية”.
ونعزو أسباب هذا الغياب بالإضافة إلى ما سبق إلى الطبيعة المعقدة والصرامة المنهجية في الكتابة في هذا الجنس وإلى ضرورة التقيد بقواعد اللعبة بدقة متناهية رغم كون العديد ممن كتبوا في هذا الجنس يخطئون فيها أحيانا، كما حدث في قصص شارلوك هومز “خصوصا في قضية إخفاء بعض مفاتيح اللغز عن القارئ”.
لذلك ظلت الكتابة في جنس الأدب البوليسي شبه غائبة في المغرب والوطن العربي نظرا لتمنعه ولصعوبة تناوله ولما يتطلبه من مجهود مضاعف أثناء الكتابة وما يشترطه من بعد للكاتب عن التكرار والنمطية، كما تفرض بالمقابل متلقيا سلسا مستعدا لتقبله، ونقادا يواكبونه بقراءات منهجية و موضوعية كفيلة بنحت آلياته وترسيخها في تربة الإبداع المغربي.