الكرة الممزقة
كنت أدرس بالسنة الثامنة أساسيا بالمدرسة الإعدادية بغزالة التابعة لمحافظة بنزرت في الشمال التونسي. كنت ألعب كرة القدم مع أصدقائي التلاميذ في الشارع، فجأة، في منتصف الشوط، توقّفت عن الانتماء إلى الفريق الذي أنتمي اليه!، صرت خارج اللعبة أراقب الآخرين، كنت أقيّم الآخرين وأقيّم نفسي.
أن أكون هناك، راكضا وراء الكرة، لم يكن لذلك أيّ معنى، بل وأكثر من ذلك: لم أكن أفهم ما يفعله أولئك الأطفال، ما الذي كان يحفّزهم، ولماذا ذلك القدْر من الحماس!
استغرق الأمر لحظة واحدة، ثمّ عدت إلى اللعبة، أخذت أركض، وأصرخ، وأهاجم.
وعندما اندمجت بكل طاقتي في اللعب أتى رجل في الأربعين من عمره يصرخ على ابنه مطالبا إياه بالتوقف عن اللعب والعودة إلى المنزل وأعلمنا بأنه هنالك وحشا بشريا سفاحا يقوم باختطاف الأطفال في مثل سننا وأنه قبل نصف ساعة وقع الإعلان في التلفاز على اختطاف طفل في سن الثانية عشرة، وقد طلب الخاطف مبلغا من المال مقابل إرجاعه لأهله.
لم نعره انتباها وواصلنا اللعب والصراخ وكان فريقي لحظتها قد سجل هدفا في شباك المنافس، أخذ ابنه فعوضناه وواصلنا اللعب. مضى وقت قصير وقدم رجل آخر وطلب منا التوقف على اللعب وإلا سيمزق الكرة أشلاء بموسه لم نعره اهتماما وعندما خرجت الكرة أمامه أخذها بين يديه ومزقها بكل عنف وقسوة حينها توقفنا عن اللعب لاعنين ذلك الرجل الشرير، وبدأ الجميع يتحدث عن قصة الطفل الذي وقع اختطافه فساد الرعب الجميع وأخذ كل واحد طريقه إلى البيت.
بقيت وحدي أنظر إلى تلك الكرة وهي ممزقة بدت لي وكأنها رأس طفل فصل عن باقي الجسد شعرت أن عينيّ امتلأتا دموعا، غادرت المكان راجعا لبيتنا في الطريق مررت بجانب مقهى سمعت أحد الرجال يتحدث لأصدقائه عن واقعة اختطاف الطفل وكيف أن الخاطف طلب من أهل الطفل فدية مالية مقابل إرجاع الطفل للأهل.
دفعت النقود وذهب أهل الطفل إلى المكان الذي قيل لهم إنهم سيجدونه فيه، غير أنهم عثروا على الطفل جثة في جمجمته كسر كبير، وأنه ألقي القبض على المجرم وسيقع إعدامه شنقا. حينها شعرت بخوف جارف، ومشيت مهرولا، أنظر بلا انقطاع خلفي، وصلت إلى المنزل شاحبا مرتعشا ومبللا.
سخر أخي مني وصاح وقع في الماء وقع في الماء يا له من أحمق.
نظرت لي أمي واعتبرت أن حالتي مزرية. أردت أن ألقي بنفسي في حضنها لتحضنني، وتمرر يدها على رأسي بكل عطف ولطف وحنان الأم إلا أنها جفلت مني.
كنا عائلة ريفية وليست من شيمنا حركات الملاطفة والكلمات الحنونة والمشاعر العفوية. في منزلنا تبقى المشاعر في مكانها داخل الجسم محبوسة لا تغادره.
سألتها وأنا أرتعش هل ستدفعان أنت وأبي فدية إن اختطفني أحد ما، هل ستنقذانني.
التمعت عيانا أمي وابتسمت وكانت نادرا ما تبتسم فقد زادتها ابتسامتها جمالا ورقة فأردت تقبيلها لكن تذكرت أن هذا لا يحدث داخل عائلتنا فتملكت مشاعري وقبضت أنفاسي وأخذت نفسا عميقا كي لا أبكي وأبدو ضعيفا في نظري أمي. تمتمت أمي ببعض الكلمات غير المفهومة وقالت لي طبعا سندفع حياتنا لأجلك.
هدأ قلبي وتذكرت تلك الكرة الممزقة وأنا أنظر لها وحدي وقد غادر كل الأطفال مهرولين لمنازلهم وبدا لي ذاك الرجل الذي مزق الكرة وكأنه وحش مثله تماما مثل خاطف الطفل وقاتله.
ومن وقتها كرهت لعب كرة القدم وكلما أراها تبدو لي وكأنها رأس بشري فصل عن جسم صاحبه والبقية يلعبون به. ومن وقتها إلى اليوم أمقت كل أشكال الوحشية وأحب الحب.