الكف عن “المبالغة” شرطاً لتحرر العقل العربي
فالمادح، لا سيما إن كان يفعل هذا لنيل عطاء خليفة أو أمير أو إعلاء شأن القبيلة، والهاجي إن كان يسعى إلى الحط من كل هؤلاء في ظل الصراع السياسي والأحقاد والضغائن، ومن تأخذه تباريح الهوى، ومن يرثي ميتا هو مطالب بأن يذكر محاسنه ويغض الطرف والذاكرة عن مساوئه، يجد كل هؤلاء أنفسهم واقعين في كل هذا الدروب في مجال المبالغة عن طيب خاطر، ويزيد على هذا ما للشعر من خصائص في رسم الصورة والمفارقة والتجاوز والمجاز والتحليق في الأقاصي، أو الابتعاد عما هو معيش وواقعي وموضوعي وحقيقي، إن كان للحقيقة البشرية وجود محض ومكتمل.
وكان يمكن لما ألقاه الشعر من حمولات ثقيلة على العقل العربي أن يقف عند حد ما كان سائدا في القرون البعيدة، لكنه لم يفعل هذا، أو يُفعل به هذا، وراح ينداح على طريقة تفكير المعاصرين التي لم تخل من استدعاء كل ذلك وتمثله، لينسحب على الحياة الاجتماعية والسياسية في أشكال من التعصب الديني والمذهبي والقبلي والاستقطاب الاجتماعي والسياسي والثقافي، والنفور من الحوار والفرار من المنطق أو عدم التسليم بأن كل شيء نسبي، وأن الحقيقة المطلقة غير موجودة إلا في مجال الاعتقاد الديني، ليس لأنها تتسم في كل الأحوال والأفعال بالإطلاقية، ولكن لأن من يعتقد دينيا يدركها على هذا النحو.
زاد على هذا ما لـ”العرفان” إلى جانب “البيان” من تأثير على طريقة تفكيرنا بما لم يجعل لـ”البرهان” النصيب الأوفر فيما نتصوره، ونسعى خلفه، أو نريد تحقيقه، وهي مسألة استفاض محمد عابد الجابري في وصفها وتشريحها وتحليلها في ثنايا عمله الكبير “نقد العقل العربي”.
فالمبالغة القائمة على التهويل تارة والتهوين تارة أخرى والبلاغة المحتشدة بها اللغة، بمفرداتها وتراكيبها وجرسها الموسيقي، صارت تدمغ طرائق في النظر إلى أمورنا الحياتية أو مشاكلنا التي تواجهنا، وكان حريّ بنا أن نفككها عبر تفكير عقلاني منظم، حتى يكون بوسعنا أن نضع الحلول اللازمة لها التي تفرض الذهاب إلى المعنى من أقرب طريق وتلمس الحل المباشر دون مواربة والانخراط في الواقع بكل ما فيه من أتراح وأفراح حتى يمكن فهم دقائقه وتفاصيله والتعامل معها بمناهج العلم الحديث والمعاصر وأدواته.
وقد يقول قائل إن الأمم الأخرى عرفت في تاريخها ما كان للعرب من شعر، ومثل ما تداولوه من أساطير، أو حتى خرافات وتهاويم وأوهام، وهذا حقيقي، ولا يمكن نكرانه، لكن لا أظن أن أمة يعيش ماضيها في حاضرها ويحدد للمعاصرين النقاط المركزية التي ينطلقون منها، أو الإطار المرجعي الذي يحيلون إليه، مثل أمة العرب، سواء كان هذا الماضي مستدعى في مساره البياني أو العرفاني.
فالأمم الأخرى تدرس موروثها وتراثها باعتباره ثقافة الماضي البعيد، التي يجب أن توضع، في الغالب الأعم، ضمن “تاريخ العلم” أو “تراث المعرفة”، ولا تدعه يسيطر على حاضرها، ويحدد نظرها إلى المستقبل. إذ يرى هؤلاء فيما ورثوه ما يهديهم إلى الطريقة التي كان يفكر بها الأقدمون، والتي نبتت من رحم الظروف الاجتماعية بجوانبها الثقافية والحضارية والسياسية التي كان يحياها من عاشوا في القرون الغابرة، وليست تلك المادة الاستعمالية التي يجب أن تتحكم فيما يفكرون فيه، ويتصرفون على أساسه، في حياتهم المعاصرة.
أما نحن فقد أهمل أغلبنا الظروف والشروط التي أُنتج فيها خطابنا البياني، وتعاملوا معه على أنه مطلق الصلاحية، قادر على أن تكون له قوة الحجية أو حتى الذرائعية فيما نسمعه ونراه ونفعله في الوقت الراهن، مثل ما كانت له في الماضي الذي ولى. وبرز فريق منا يهملون ما تخضع له اللغة نفسها من قانون يجعلها كائنا حيا يتغير بمرور الوقت، ولا يبقى على حاله إلا في بطون القواميس والمعاجم التي تم وضعها وتداولها في القرون التي خلت.
وسيقول قائل إن العرب الأقدمين برعوا في العلم الإنساني والبحت، وقدموا في هذا إسهامات خلاقة اعترف بها الأوروبيون بعد أن نهلوا منها، وبنوا عليها، ولم يكن كل تاريخهم مجرد عيش في المجاز، وهذا بالطبع صحيح، ولا غبار عليه، ولا إنكار له، لكنّ هناك مشكلتين حالتا دون استفادة العقل العربي الحديث والمعاصر من هذا الإسهام العلمي القديم، الأولى أنه انقطع وتوقف عند مرحلة معينة، وصار الآن، جزءا من “تاريخ العلم” إلا أن هناك من يستدعيه باعتباره علما يجب اتباعه وتطبيقه حاليا، بما يقف حجر عثر أحيانا أمام الاستفادة من الاكتشافات العلمية الجديدة. والثانية أن العطاء العلمي القديم للعرب ليس هو التراث المستدعى، فهذا لو كان يتم لأفاد على الأقل في البرهنة على أن الأولين، الذين يقدس البعض أقوالهم وأفعالهم، كانوا يستخدمون عقولهم ولا يرددون كالببغاوات النصوص البيانية والدينية كما يفعل البعض الآن، ولا يتعاملون مع مفردات اللغة ومجازاتها باعتبارها الأولى بالاتباع، أو هي التي تحدد طرق التفكير والتدبير.
وقد وصل الأمر بالبعض في أيامنا هذه إلى سبيلين غاية في المرارة، يتبعهما حتى طلبة العلم وهم يعدون أطروحاتهم الجامعية، الأول هو تعريف المفاهيم والمصطلحات ليس وفق ما يتمّ تداوله الآن من معان لها، إنما بالطريقة والتأثير ذاتهما اللذين كانت تفعلهما فيما سبق في مجتمعات صارت أثرا بعد عين، وبعضها لم يعد له أثر إلا فيما سجلته الحوليات التاريخية وتفاسير النصوص الدينية والأدبية والمعاجم اللغوية. والثاني، وهو الأفدح، هو استنباط مسارات برهنة أو اقترابات ونظريات علمية متوهمة من اشتقاق اللغة، ووضع هذا كإطار للتحليل، والاعتقاد في طهر وصواب هذا المسلك، وصلاحيته كأداة لتفسير الظواهر الاجتماعية والسياسية، بل والاقتصادية، التي نمر بها الآن، وذلك تقليدا أو اقتداء ببعض الرؤى الدينية في تفسير النصوص وتأويلها.
ولأن هذا المفردات مشبعة بالمجاز والمبالغة، وإن شئنا قلنا البلاغة، فإن ما يخطه هؤلاء على الورق ظانين به ومعه أنهم يقتربون من الحقيقة لا يعدو أن يكون وهما كبيرا، يبعدنا عن فهم طوعي وطبيعي وعلمي لما يشغل حياتنا، ويجعلنا ندور في دائرة مغلقة لا فكاك منها، يسكن الماضي محيطها، ويقبض عليه، ويصدّنا إن أردنا الإفلات منها إلى براح التفكير العلمي الخلاق.
وبذا صارت نظرتنا إلى علاقة الحاكم بالمحكوم، ووظائف السلطة، وفهم قيم الاختلاف والتعدد باعتبارهما من طبائع المجتمعات الحية، والتعامل مع الآخر “غير العربي” أو “غير المسلم”، وإدراكنا لقضايا الهوية والشرعية والحق والواجب والمفترض والمتاح والنصر والهزيمة والولاء والطاعة والتمرّد والعصيان والأمانة والخيانة والصواب والخطأ، يحددها، في الغالب، ما تركه لنا الأولون مخطوطا أو مطبوعا أو ما هو متداول على الألسنة من عبارات وإشارات وحكايات وأمثلة وحكم وملح ونوادر.
وما زاد الطين بلة أن هذا المسلك المعوج يتم طرحه في سياق ما يعتقد هؤلاء أنه دفاع عن “الهوية” و”الخصوصية” و”الأصالة” في وجه التذويب والتغريب والمعاصرة التي يفرضها علينا غيرنا. ووجد هؤلاء أحيانا في الارتباط بين ما يأتينا من غيرنا وبين سعيه للهيمنة علينا، ما برروا به ما ذهبوا إليه، ونادوا به، ورموا كل من يخالفهم الرأي والاتجاه بأنه واقع في قبضة الغير والآخر، متنصل من الاعتزاز بما تركه لنا الأجداد.
إن تاريخنا الحاضر بقوة في واقعنا الآني، ومستقبلنا الآتي، لا يقتصر فحسب على النصوص الدينية، إنما يتجاوزها إلى تاريخ الأقدمين الذي صار يعامله بعضنا معاملة المقدّس، وهو تاريخ لا يقتصر فقط على ما قام به من ماتوا وبليت عظامهم من أفعال، إنما أيضا ما تركوه من أقوال، بعضها، إن لم يكن أغلبها، واقع في حيّز المجاز، الذي يصلح لاستلهام صور الشعر وأكاذيبه الجميلة المبررة فنيا، لكنه لا يصلح أبدا ليهدينا إلى طرق تفكير علمية تعيننا على الخروج من مأزقنا الراهن.
إن تجاوز العقل العربي للهزيمة الحضارية التي يكابد منها الآن يتطلب أولا العمل على حل تلك المعضلة التي يصنعها العيش في المجاز الذي سيطر على الماضي، فدون هذا سنظل نحرث في بحر ونسعى خلف سراب.