الكلمة الشجاعة الفضيحة الجميلة
أشعر في هذه اللحظة أننا جميعا أحببنا نزار قباني، ربما كرهناه بعد ذلك، ربما تجاوزناه، ربما نسيناه، ولكن من منا لم يحب نزار؟
كنت أبحث عن قصائد بصوته قبل قليل على موقع «اليوتيوب»، فكانت من النتائج التي ظهرت؛ مقاطع فيديو لرجال دين من مختلف التيارات يهاجمونه؛ على الرغم من أن هؤلاء «المشايخ» يختلفون معا في كل شيء إلا أنهم اتفقوا هذه المرة على مهاجمته. ولا يزال هناك متسع للابتسام فقد لاحظت أن كل واحد منهم هاجم قباني قام بقراءة قصائده عن غيب!، هكذا سكن نزار ذاكرة من يرفضه قبل أن يسكن قلب من يقبله، بل كان أحد أعمدة تأسيسنا الثقافي ربما غير المقصود قبل أن نرحل عنه، إنه أول الشعر الذي قرأناه خفية، وأول الشعر الذي تجرأنا به في الحب والسياسة.
لا أتذكر متى بدأت تلك اللحظة التي أحببت فيها نزار قباني، لكني أتذكر جيدا أنني كنت أختلس النظر إلى قصائده في كتاب أعماله الكاملة بمكتبة خالي بالمخيم؛ ابتداء بديوانه الأول «قالت لي السمراء»؛ تأخذني الدهشة حين أصادف غزلا صريحا أو وصفا حسيا. كنت لا أزال في فترة المراهقة، ولم أكن أفهم كل ما يقصده أو يهدف إليه خاصة في قصائده السياسية، لكن ما هي إلا سنوات قليلة مرت حتى استمعت إلى أغاني المطرب العراقي كاظم الساهر، وقد كان الأخير يبدل بعض الكلمات الحسية بأخرى بموافقة نزار إذ جمعتهما بعض اللقاءات، ولم يقلل ذلك من سحرها، بل جعلها الساهر في متناول الجميع، أو بالأحرى نزار من جعل الساهر يصل إلى الجميع.
هذه الشعبية أصبحت بمثابة كابوس أرق معلمنا المحافظ الذي كنت أسمعه يدعو على قباني في الإذاعة المدرسية كل صباح، فنسخر منه همسا نحن الصديقات اللواتي أحببن نزار وكاظم وتبادلن أشرطة الأغاني والكُتب. لقد انتشرت كتبه في كل مكان؛ على الأرصفة، وفي واجهات المكتبات، ولم تسكت إذاعات المدرسة وخطب الجمعة عن اسمه.
استطاع شعره المباشر الفصيح أن يكون مرغوبا ومرفوضا في كل مكان بالوقت عينه، لقد كان اختبارا للنخبوي والمتدين والمحافظ والعلماني، جعل كل مواطن يحمل ناحيته موقفا، إنه «باردكوس» الثقافة العربية، فإلى هذه الدرجة بلغت شهرته، أو كما قال هو في واحد من اللقاءات الإعلامية معه «لا أؤمن أن يقرأني عشرة أشخاص بل من منظوري يجب أن يقرأني 150 مليون عربي، وحين يتخلف واحد عن قراءتي فأذهب إليه معتذرا، ربما الخطأ خطأي…».
كانت كتبه تمثل مرحلة في حياتنا إلا أننا لم نعد لها بعد أن تجاوزناها، كأن تحب شعارا ما خلال شبابك وتؤمن به ثم تكف عن الهتاف به. هكذا كان حب نزار عُمرا قطعنا عنه إلا أنه يتكرر في جميع الأجيال، لذلك يبقى حاضرا على الدوام، فلا بد من مواجهة ما مع شعره.
كذلك انتهت هذه المرحلة عند كاظم بعد أن غنى «مدرسة الحب، إني خيرتك فاختاري، أحبيني بلا عقد، أشهد أن لا امرأة، صباحك سكر، هل عند شك؟ وغيرها».
هذه الشعبوية لنزار بمقدار ما جعلته أسطورة إلا أنها ظلمته، فإن مجرد ذكر اسمه الآن أو الكتابة عنه كأنما تذكر «كليشيه» شديد المشاع لا حاجة لوصفه من جديد، وبمقدار ما جعل قباني الشعر بمتناول الجميع، إلا أن هذا التناول أصبح رديفا للتنكر الآن.
محزن جدا أن هذا التنكر والاتهامات لا يزالان يصدران عن جهات ثقافية، جهات تناست أن الشاعر يكتب في ما يريد وما يعطي للقصائد ظلها هو استقبال المتلقي لها، فكيف إذا كان هذا المتلقي يعتبر هذه القصائد من الأساس «تابوها».
وفي الغالب من يرفض قصائد غزله الصريح، يرفض كذلك قصائد الهجاء السياسي والتعبير عن الضعف العربي والخذلان السياسي على مر عقود، فالانفتاح على الحب مرفوض كما الانفتاح على النقد السياسي. وقد قال قباني في واحد من حواراته المنشورة على «اليوتيوب» «الشعر عملية مواجهة، عملية صدامية من الطراز الأول..الشعر هو فضيحة جميلة مثلما الوردة الجميلة فضيحة جميلة، مثلما هي المرأة الجميلة فضيحة جميلة..كذلك الكلمة الشجاعة هي فضيحة جميلة».
وفي نظرة على تاريخ الشعراء الكبار نجد أن الثورة على الملوك لم تكن سمتهم المشتركة، وهذه ليست مقدمة هدفها تبرير قبول نزار قباني بمنصب دبلوماسي، فقد قبله في فترة واعدة من حياة المجتمعات العربية، كما أنه أثار خلال عمله الدبلوماسي الكثير من الأزمات بسبب قصائده؛ أشهرها كانت قصيدة «خبز وحشيش وقمر» عام 1954، والتي تعالت بسببها الأصوات المطالبة بفصله من الخارجية السورية، لكنه لم يعر الأمر اهتماما حتى استقال عام 1966 من العمل السياسي، إلا أن السياسة لم تتركه فقد فجع بمقتل زوجته بلقيس في حادثة تفجير سفارة العراق ببيروت عام 1981، وأصبحت في قصائده بمثابة معادلا موضوعيا لكل الهزائم العربية والخسارات.
بقيت قصائد قباني متمردة وغير مطيعة أو كما يقول «ما أجبنَ الشعرَ إن لم يركبِ الغضبا»، فعلى مر سنين طويلة تم منع كتبه في الكثير من دول الوطن العربي، وحذف أبياته من كتبها المدرسية، وظلت موضع غضب وجدل في البرلمانات العربية والأروقة السياسية.
أعتقد والاعتقاد هنا من الإيمان وليس التردد، أنه من الخطأ النظر إلى شعر نزار انطلاقا من حياته، بل من نظرية موت المؤلف للشاعر «ت.اس.اليوت»، أي أهمية وعدالة النظر إلى النص الأدبي بعيدا عن حياة المؤلف، لكن مع نزار يكاد يكون الأمر مستحيلا فهو وضع كل أحزانه في قصائده، وحوَل الشخصي إلى عام منذ تأثره بوفاة شقيقته في صباه حتى مقتل زوجته في كهولته، لقد عاش حياة مأساوية ومات وحيدا، يدفعه خلالها الشغف في حب دمشق والشعر وأطفال الحجارة.
أشعر أنني الآن أكثر قدرة على فهم الحالة التي تركها نزار قباني، ليس فقط من منظار من اختلست النظر إلى شعره في مراهقتها، بل من قناعتي أن تأثيره هو ذاك الخليط من الألم والخيبة والتحدي وما يشكله من إزعاج عند الأغلبية ليس فقط بسبب جرأته السياسية والعاطفية، بل أيضا لأنه بالنسبة إلى النخبة المتعالية عليه بسبب كونه مباشرا وحسيا وشعبيا، أنه بقي ذاته طوال خمسين عاما؛ لم يعرف فيها الخوف، ولم يخفت ألق كلمته، وأحد القلة النادرين من الشعراء الذين كانت أمسياتهم الشعرية مُظاهرة.