الكومبارس

الاثنين 2016/08/01
لوحة: فادي يازجي

كان‭ ‬يرقد‭ ‬هامدًا‭ ‬على‭ ‬سريرٍ،‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬تتشابك‭ ‬فيها‭ ‬كل‭ ‬المصائر‭. ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬يعرف‭ ‬السر‭. ‬يثرثر‭ ‬كثيرًا‭ ‬في‭ ‬أمور‭ ‬غير‭ ‬لائقة‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬النهاية،‭ ‬وبعد‭ ‬الإلحاح‭ ‬السمج‭ ‬من‭ ‬الولد‭ ‬الوسيم،‭ ‬ابنه‭ ‬في‭ ‬الفيلم،‭ ‬تميل‭ ‬رقبته‭ ‬على‭ ‬جانب‭ ‬بينما‭ ‬العينان‭ ‬تخضعان‭ ‬لرؤية‭ ‬المخرج‭.‬

مرة‭ ‬يطلب‭ ‬منه‭ ‬المخرج‭ ‬أن‭ ‬تظل‭ ‬العينان‭ ‬مفتوحتين‭. ‬يعرف‭ ‬العجوز‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الفيلم‭ ‬إنما‭ ‬يوظف‭ ‬كل‭ ‬لقطة‭ ‬لإشاعة‭ ‬الرعب‭ ‬في‭ ‬قلوب‭ ‬المشاهدين‭.. ‬ومرة‭ ‬يطلب‭ ‬منه‭ ‬المخرج‭ ‬أن‭ ‬يموت‭ ‬مغلقًا‭ ‬عينيه‭ ‬وفمه‭. ‬راقداً‭ ‬على‭ ‬فراش‭ ‬جميل‭ ‬يعرف‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬الميتة‭ ‬الرومانتيكية‭ ‬إنما‭ ‬تخدم‭ ‬عاطفية‭ ‬الفيلم‭ ‬شديدة‭ ‬الوضوح‭ ‬من‭ ‬ملابس‭ ‬الممثلين،‭ ‬ونوع‭ ‬الإضاءة‭. ‬تكون‭ ‬الممثلة،‭ ‬الابنة‭ ‬الوحيدة‭ ‬التي‭ ‬يغادر‭ ‬أبوها‭ ‬العالم،‭ ‬قد‭ ‬ارتمت‭ ‬باكية‭ ‬على‭ ‬يديه‭. ‬يحس‭ ‬برائحة‭ ‬عطرها‭ ‬الباذخ،‭ ‬وقد‭ ‬يرى‭ ‬ذلك‭ ‬الغور‭ ‬العميق‭ ‬الشهي‭ ‬بين‭ ‬نهديها‭. ‬تعتريه‭ ‬لذة‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يتزوج‭ ‬أبدًا‭. ‬يحبس‭ ‬أحاسيسه‭ ‬المضطربة‭ ‬التي‭ ‬شك‭ ‬أحيانًا‭ ‬أنها‭ ‬اختفت،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يعلو‭ ‬صدره‭ ‬وينخفض‭ ‬فيعاد‭ ‬التصوير‭. ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يفعل‭ ‬مثلما‭ ‬يفعل‭ ‬الممثلون‭ ‬مخالفًا‭ ‬تعليمات‭ ‬المخرج‭.. ‬لا‭ ‬يريد‭ ‬أحد‭ ‬إعادة‭ ‬تصوير‭ ‬مشهده‭ ‬مرتين‭. ‬الدموع‭ ‬الحبيسة‭ ‬في‭ ‬عين‭ ‬الممثلة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬جلبها‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬دقائق،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬صرخة‭ ‬الممثل،‭ ‬أخوه‭ ‬أو‭ ‬ابنه‭ ‬أو‭ ‬صديقه،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تكرارها‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تجرح‭ ‬صوتًا‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أنه‭ ‬سينطق‭ ‬بكلام‭ ‬معسول‭ ‬ذلك‭ ‬النهار،‭ ‬وشفاه‭ ‬ربما‭ ‬تلتحم‭ ‬بشفاه‭ ‬أخرى‭ ‬بعد‭ ‬دقائق‭.‬

يخرج‭ ‬ظافرًا‭ ‬بمال‭ ‬لا‭ ‬بأس‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬دور‭ ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬يموت‭ ‬محتفظًا‭ ‬بسر‭ ‬ما‭. ‬لا‭ ‬يكاد‭ ‬يبذل‭ ‬مجهودًا‭ ‬يذكر‭ ‬في‭ ‬الدور‭ ‬مثل‭ ‬باقي‭ ‬الكومبارس‭ ‬الذين‭ ‬يتشكون‭ ‬من‭ ‬صعوبة‭ ‬ما‭ ‬يفعلون‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ينتبه‭ ‬المخرج‭ ‬لمواهبهم،‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬الدنيا‭ ‬عدل‭ ‬لأصبحوا‭ ‬أبطالًا‭ ‬بينما‭ ‬هؤلاء‭ ‬الشباب‭ ‬الرقيع‭ ‬مجرد‭ ‬خدم‭. ‬يسمع‭ ‬الرجل‭ ‬هذا‭ ‬الكلام‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬رفاقه‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يُعلّق؛‭ ‬من‭ ‬يعرف‭ ‬الموت‭ ‬أمام‭ ‬المشاهدين‭ ‬مرات‭ ‬عديدة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يطمح‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬إنهاء‭ ‬هذا‭ ‬العمر‭ ‬الطويل‭ ‬بشكل‭ ‬لائق‭.‬

يشاهد‭ ‬الأفلام‭ ‬مجانًا،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬قشعريرة‭ ‬الخوف‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تصيبه‭ ‬من‭ ‬مشاهد‭ ‬الرعب‭.‬

كشر‭ ‬المخرج‭ ‬في‭ ‬وجهه‭ ‬وعنّفه‭ ‬لأنه‭ ‬ظل‭ ‬يضحك‭ ‬ويغمز‭ ‬لمساعد‭ ‬التصوير‭. ‬انسحب‭ ‬في‭ ‬هدوء‭ ‬إلى‭ ‬خارج‭ ‬غرفة‭ ‬التصوير‭. ‬جلس‭ ‬في‭ ‬حجرة‭ ‬من‭ ‬حجرات‭ ‬الديكور‭. ‬تصنّع‭ ‬الحزن‭ ‬فيما‭ ‬راقب‭ ‬بعين‭ ‬الماضي‭ ‬شابًا‭ ‬وفتاة،‭ ‬من‭ ‬الوجوه‭ ‬الجديدة،‭ ‬وهما‭ ‬يقتربان‭ ‬ويتهامسان‭ ‬بشغف‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يدخلا‭ ‬‭(‬البلاتوه‭)‬‭.‬

يعرف‭ ‬أن‭ ‬المخرج‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الوقت‭ ‬كالمعتاد‭ ‬سيزعق‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬مساعد‭ ‬التصوير‭ ‬قائلًا‭ ‬‮«‬شوف‭ ‬المرحوم‭ ‬في‭ ‬أنهي‭ ‬داهية،‭ ‬عايزين‭ ‬نِخلص”‭. ‬يسمع‭ ‬الكومبارس‭ ‬لقبه‭ ‬هذا‭ ‬همسًا،‭ ‬أيضًا،‭ ‬من‭ ‬الجميع‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يعطي‭ ‬انطباعًا‭ ‬بالغضب‭. ‬انتظر‭ ‬مساعد‭ ‬التصوير‭ ‬الذي‭ ‬أتى‭ ‬إليه،‭ ‬ثم‭ ‬مال‭ ‬عليه‭ ‬ميل‭ ‬شجرة‭ ‬وارفة‭ ‬على‭ ‬شجرة‭ ‬هرمة‭ ‬في‭ ‬طريقها‭ ‬إلى‭ ‬السقوط‭ ‬قائلًا‭ ‬‮«‬قوم‭ ‬يا‭ ‬عم‭ ‬أحمد‭ ‬حقك‭ ‬عليّا”‭.‬

قال‭ ‬الكومبارس‭ ‬محتفظًا‭ ‬بحقه‭ ‬في‭ ‬الحزن‭ ‬ولو‭ ‬لدقيقة‭ ‬‮«‬طب‭ ‬استنا‭ ‬لما‭ ‬أخلَّص‭ ‬السيجارة‭ ‬دي”‭.‬

عالمه‭ ‬سحب‭ ‬من‭ ‬الدخان‭ ‬في‭ ‬الداخل‭ ‬والخارج‭. ‬هل‭ ‬يذكره‭ ‬أحد‭ ‬لمجرد‭ ‬مشهد‭ ‬تداوله‭ ‬الجميع‭ ‬بنوع‭ ‬من‭ ‬السخرية؟‭ ‬هل‭ ‬كان‭ ‬الثمن‭ ‬باهظًا‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬قمة‭ ‬ما‭ ‬يريد،‭ ‬وما‭ ‬وصل؟‭ ‬كان‭ ‬عزاؤه،‭ ‬حين‭ ‬يفكر‭ ‬هكذا،‭ ‬أنه‭ ‬كلما‭ ‬جاءت‭ ‬فرصة‭ ‬للسطو‭ ‬على‭ ‬شيء‭ ‬سطا‭ ‬عليه‭.. ‬إذا‭ ‬مالت‭ ‬عليه‭ ‬ممثلة‭ ‬أثناء‭ ‬الدور‭ ‬قبلها‭ ‬مقتربًا‭ ‬قدر‭ ‬إمكانه‭ ‬من‭ ‬مجال‭ ‬شفتيها،‭ ‬غير‭ ‬عابئ‭ ‬بتعبير‭ ‬الاشمئزاز‭ ‬على‭ ‬وجهها‭. ‬إذا‭ ‬مال‭ ‬عليه‭ ‬البطل‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬قد‭ ‬يحتضنه‭ ‬بمشاعر‭ ‬أبوية‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬ابنًا‭ ‬تمنى‭ ‬أن‭ ‬ينجبه‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬سر‭ ‬الحبكة‭ ‬دائمًا‭ ‬يظل‭ ‬معه‭.. ‬السر‭ ‬الذي‭ ‬يجعلنا‭ ‬نشفق‭ ‬على‭ ‬البطل،‭ ‬أو‭ ‬البطلة‭ ‬وهما‭ ‬يتورطان‭ ‬طوال‭ ‬الفيلم‭ ‬في‭ ‬مصائر‭ ‬معقدة‭.‬

شعر‭ ‬العجوز‭ ‬بالضيق‭ ‬والقرف‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬الأولاد‭ ‬الذين‭ ‬يسخرون‭ ‬من‭ ‬أدائه‭ ‬المتكلس‭. ‬لذلك‭ ‬نوى‭ ‬أن‭ ‬ينفجر‭ ‬في‭ ‬المخرج‭ ‬فور‭ ‬أن‭ ‬ينتهي‭ ‬الدور،‭ ‬وأن‭ ‬لا‭ ‬يعود‭ ‬لتمثيل‭ ‬هذا‭ ‬الدور‭ ‬العبثي‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭. ‬تذكر‭ ‬كلمات‭ ‬رفاقه‭ ‬من‭ ‬الكومبارس‭ ‬شبابًا‭ ‬وفتيات‭ ‬وعجائز‭ ‬مثله،‭ ‬نوى‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬للمخرج‭ ‬‮«‬لقد‭ ‬مللت‭ ‬من‭ ‬تكرار‭ ‬هذا‭ ‬الدور‭ ‬السخيف،‭ ‬في‭ ‬أفلامكم‭ ‬الأكثر‭ ‬سخفًا”‭. ‬قال‭ ‬المخرج‭ ‬بجد‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يذكره‭ ‬بما‭ ‬حدث‭ ‬منذ‭ ‬دقائق‭ ‬‮«‬ركِّز‭ ‬في‭ ‬الجملة‭ ‬اللي‭ ‬بتقولها‭ ‬يا‭ ‬عم‭ ‬أحمد‭ ‬وبعدين‭ ‬اقطع،‭ ‬وميل‭ ‬راسك‭ ‬بقوة”‭. ‬انتفض‭ ‬العجوز‭ ‬وهو‭ ‬ينظر‭ ‬النظرة‭ ‬الأخيرة‭ ‬إلى‭ ‬ابنه‭ ‬في‭ ‬السيناريو‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ينطق‭ ‬جملته،‭ ‬ثم‭ ‬مالت‭ ‬رأسه‭ ‬بقوة‭ ‬على‭ ‬جانب‭ ‬وهو‭ ‬يشهق‭. ‬قال‭ ‬المخرج‭ ‬‮«‬برافو،‭ ‬أول‭ ‬مرة‭ ‬تعملها‭ ‬بالظبط‭ ‬رغم‭ ‬إنك‭ ‬نسيت‭ ‬تتكلم‭.. ‬هانثبِّت‭ ‬على‭ ‬كده”‭. ‬صفق‭ ‬طاقم‭ ‬العمل‭ ‬للكومبارس‭ ‬العجوز‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬بحماس‭ ‬حقيقي‭.. ‬لكن‭ ‬الكومبارس‭ ‬لن‭ ‬يسمع‭ ‬تحية‭ ‬التقدير‭ ‬تلك‭ ‬أبدًا‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.