الكومبارس
كان يرقد هامدًا على سريرٍ، في لحظة تتشابك فيها كل المصائر. الوحيد الذي يعرف السر. يثرثر كثيرًا في أمور غير لائقة في لحظة النهاية، وبعد الإلحاح السمج من الولد الوسيم، ابنه في الفيلم، تميل رقبته على جانب بينما العينان تخضعان لرؤية المخرج.
مرة يطلب منه المخرج أن تظل العينان مفتوحتين. يعرف العجوز أن هذا الفيلم إنما يوظف كل لقطة لإشاعة الرعب في قلوب المشاهدين.. ومرة يطلب منه المخرج أن يموت مغلقًا عينيه وفمه. راقداً على فراش جميل يعرف أن تلك الميتة الرومانتيكية إنما تخدم عاطفية الفيلم شديدة الوضوح من ملابس الممثلين، ونوع الإضاءة. تكون الممثلة، الابنة الوحيدة التي يغادر أبوها العالم، قد ارتمت باكية على يديه. يحس برائحة عطرها الباذخ، وقد يرى ذلك الغور العميق الشهي بين نهديها. تعتريه لذة هو الذي لم يتزوج أبدًا. يحبس أحاسيسه المضطربة التي شك أحيانًا أنها اختفت، حتى لا يعلو صدره وينخفض فيعاد التصوير. لا يستطيع أن يفعل مثلما يفعل الممثلون مخالفًا تعليمات المخرج.. لا يريد أحد إعادة تصوير مشهده مرتين. الدموع الحبيسة في عين الممثلة لا يمكن جلبها مرة أخرى في دقائق، كما أن صرخة الممثل، أخوه أو ابنه أو صديقه، لا يمكن تكرارها حتى لا تجرح صوتًا من الممكن أنه سينطق بكلام معسول ذلك النهار، وشفاه ربما تلتحم بشفاه أخرى بعد دقائق.
يخرج ظافرًا بمال لا بأس به من دور الرجل الذي يموت محتفظًا بسر ما. لا يكاد يبذل مجهودًا يذكر في الدور مثل باقي الكومبارس الذين يتشكون من صعوبة ما يفعلون دون أن ينتبه المخرج لمواهبهم، لو كان في الدنيا عدل لأصبحوا أبطالًا بينما هؤلاء الشباب الرقيع مجرد خدم. يسمع الرجل هذا الكلام كثيرًا من رفاقه دون أن يُعلّق؛ من يعرف الموت أمام المشاهدين مرات عديدة لا يمكن أن يطمح إلا في إنهاء هذا العمر الطويل بشكل لائق.
يشاهد الأفلام مجانًا، كما أن قشعريرة الخوف لم تعد تصيبه من مشاهد الرعب.
كشر المخرج في وجهه وعنّفه لأنه ظل يضحك ويغمز لمساعد التصوير. انسحب في هدوء إلى خارج غرفة التصوير. جلس في حجرة من حجرات الديكور. تصنّع الحزن فيما راقب بعين الماضي شابًا وفتاة، من الوجوه الجديدة، وهما يقتربان ويتهامسان بشغف قبل أن يدخلا (البلاتوه).
يعرف أن المخرج في هذا الوقت كالمعتاد سيزعق في وجه مساعد التصوير قائلًا «شوف المرحوم في أنهي داهية، عايزين نِخلص”. يسمع الكومبارس لقبه هذا همسًا، أيضًا، من الجميع دون أن يعطي انطباعًا بالغضب. انتظر مساعد التصوير الذي أتى إليه، ثم مال عليه ميل شجرة وارفة على شجرة هرمة في طريقها إلى السقوط قائلًا «قوم يا عم أحمد حقك عليّا”.
قال الكومبارس محتفظًا بحقه في الحزن ولو لدقيقة «طب استنا لما أخلَّص السيجارة دي”.
عالمه سحب من الدخان في الداخل والخارج. هل يذكره أحد لمجرد مشهد تداوله الجميع بنوع من السخرية؟ هل كان الثمن باهظًا للوصول إلى قمة ما يريد، وما وصل؟ كان عزاؤه، حين يفكر هكذا، أنه كلما جاءت فرصة للسطو على شيء سطا عليه.. إذا مالت عليه ممثلة أثناء الدور قبلها مقتربًا قدر إمكانه من مجال شفتيها، غير عابئ بتعبير الاشمئزاز على وجهها. إذا مال عليه البطل في لحظة قد يحتضنه بمشاعر أبوية كما لو كان ابنًا تمنى أن ينجبه. كما أن سر الحبكة دائمًا يظل معه.. السر الذي يجعلنا نشفق على البطل، أو البطلة وهما يتورطان طوال الفيلم في مصائر معقدة.
شعر العجوز بالضيق والقرف من هؤلاء الأولاد الذين يسخرون من أدائه المتكلس. لذلك نوى أن ينفجر في المخرج فور أن ينتهي الدور، وأن لا يعود لتمثيل هذا الدور العبثي مرة أخرى. تذكر كلمات رفاقه من الكومبارس شبابًا وفتيات وعجائز مثله، نوى أن يقول للمخرج «لقد مللت من تكرار هذا الدور السخيف، في أفلامكم الأكثر سخفًا”. قال المخرج بجد دون أن يذكره بما حدث منذ دقائق «ركِّز في الجملة اللي بتقولها يا عم أحمد وبعدين اقطع، وميل راسك بقوة”. انتفض العجوز وهو ينظر النظرة الأخيرة إلى ابنه في السيناريو دون أن ينطق جملته، ثم مالت رأسه بقوة على جانب وهو يشهق. قال المخرج «برافو، أول مرة تعملها بالظبط رغم إنك نسيت تتكلم.. هانثبِّت على كده”. صفق طاقم العمل للكومبارس العجوز للمرة الأولى بحماس حقيقي.. لكن الكومبارس لن يسمع تحية التقدير تلك أبدًا.