اللون الأخضر والفقد
في الربع الأول من عام 1991، لا أذكر تحديداً تاريخاً حقيقياً لذلك، كلُّ ما تناهى إلى أذنَّيَّ كانت أصواتٌ ممتزجةٌ بحرفيَّةٍ عاليةٍ بين الصراخ والبكاء والعويل، أصواتٌ تتعالى في الأزقة القديمة للقرية التي كانت شاهدةً على المجازر العديدة قبل عقد واحد من انطلاق الأصوات.
طيِّبةُ الإمام المكان الجغرافي الذي شهدَ ولادتي فأقدمُ مشهدٍ في ذاكرتي الشخصية الجمعية يعودُ إلى مطلع 1985 وصورةِ جدِّي الأول لأبي ممداً على الخشبةِ الصمَّاء جامداً بعد أن شهدَ السفربلك والمملكة العربية السورية والوجود الفرنسي وعصر الاستقلال والانقلابات المتعددة وصولاً إلى حكم البعث وما تلاه من مصادرةٍ لكل شيء، جدِّي لأبي الذي رحَل بصمت عقب المذبحة الكبرى، ظلَّ غائباً عن كلِّ شيء منذ أن انقلبت البندقية نحو صدر الشعب وغاب على إثرِها الكثير من شباب قريتنا، قصصٌ تتناسخُ من بعضها البعض، واحدةٌ هي صورةٌ طبق الأصل للأخرى، تلك القصص ظلَّت طيَّ الكتمان، نتداولُها بلغة العيون في المدرسة بين طلَّابٍ وُلدوا صباح الليلة التي شهدت المذبحة، كان المعلِّم الغريبُ عن قريتنا مثلاً يسألُ طالباً عن اسمه فيجيب: محمد، فيسألُ المدرس عن اسم الأب فيقول الطالب: محمد، وأمام دهشة تكرار الاسم بين الولد والوالد يُدرِكُ المعلِّمُ أنَّ هذا الصبيَّ حمَل اسم والده دون أن يراه!
ذلك الجيل عاش حاملاً ألم الفقد الذي اختزَلَهُ بكلمات قليلة: الدولة أخذَت أبي!
عشر سنوات تقريباً والغياب يفرض سطوته دون أن نعي لماذا، فآثار الرصاص المزروع عنوة على الجدران كان كفيلاً بالحديث عن أسرار تلك الأيام التي هزَّت محافظة حماه وضواحيها وسط سوريا، نمشي بين الخراب الماثل في كل خطوة ونتعلَّمُ الصمتَ بعد أن قضينا سنواتنا الأولى نتعلَّمُ الكلام، هي دهشةُ البحثِ عن سبب للأصواتِ التي انطلَقت في الربع الأول من عام 1991 حين أفرجت الأجهزةُ الأمنية بعفوٍ رئاسيٍّ عن المسجونين الأبرياء.
الصباحات التي كانت تتشابه فيما بينها باللاجدوى، صارت ذلك اليوم تستنهضُ الفرَح من ألسنةِ النساء اللواتي ما فتئن يتناقلنَ الخبر بخروج «أبو الأيهم»، أبو الأيهم كان عمي لأبي وبالصدفة حمَلتُ اسمهَ قبل الغياب بقليل، ركضتُ أسارع الخطى نحو بيتِهِم لأرى تجمهر الناس هناك، الدموع في كل عين، سنواتٌ من القهر مضَت تقتلها زغاريدٌ وأحضانٌ وأسئلةٌ واضحةٌ تنتظرُ إجابات عمياء، وحدها الإجابات عمياء في كل ذلك الوضوح المعقَّد، يتهامسون خوفاً ويبكون خوفاً ويبتسمون خوفاً، يتداولون أحداثاً عِجافاً في سنوات عِجاف، كنتُ أقفُ عند عتبة باب الغرفة الكبيرة أرقُب العيون الزائغة، دخان السجائر رخيصة الثمن، الثناءات على الله بالحرية الدائمة، لم يتحدَّث أحد عن الدولة الظالمة، عن الرئيس القاتل، عن أجهزة القمع التي سكنَت في خلايانا تلك اللحظة، وحدَهُ الواصلُ حديثاً إلى حريَّتِهِ كان يدركُ كم الجمعُ معطوبون وضعفاء.
تلك اللحظة كنتُ أنظر إلى أبي الأيهم، أتخيَّلهُ بصورتِهِ التي رأيتُها مراراً قبل السجن، آثار المنفردات والتعذيب المُمَنهَج، حالة الرجل المستَلَبِ أمام ما حدَث ويحدُث، بحثُهُ عن سنواتِهِ الضائعة في الصمت والمجهول، يومَها لم أكن أعي أنَّ القاتل كان حاضراً أيضاً بصورتِهِ المُعلَّقة فوق الرؤوس، سنواتٌ أخرى ستعود هذه الحادثة بحضورها المُوجِع لتعيد حساباتي للأشياء.
يحدث أحياناً لأشياء صغيرة تكون بحجم العمر كلّه، تلك الفترة كانت إعادةَ خلقٍ لجيلي الذي وقعَ بالصدفة أيضاً كضحيَّةٍ للصمت، لقد أتقنَّا الصمت رغم أن الضحايا كانوا بيننا، أشياء لا تشبِهُ نفسَها، العجز عن الفهم تحوَّل عند وقوفي على العتبة في الغرفة الكبيرة إلى محاولة لطرح الأسئلة على ذاتي، أسئلةٌ صارت سجناً كبيراً بعدَ أن عجزَ المُعتَقَل السابقُ عن تحديد مكان اعتقالِهِ في الشهور الأولى، هذا يعني احتمال سيرنا ذات يومٍ على شارعٍ أو حديقةٍ تضمُّ تحتها سجناً.
في العاشرة من عمري صرتُ أكرهُ اللون الأخضر ومشتقاتِه بالكامل، صارت الخشيةُ من سيارات الشرطة حين أراها في الشارع هاجساً يقتلني خوفاً من الاعتقال المنسيّ في غياهب السجون، اللون الأخضر الذي طالما حاولت التصالح معه ولكني فشلت لأنه ارتبط في وعيي الأول بالفقد وخسارة العمر.