الماكر في حفلة اعترافاته

الخميس 2019/05/30
لوحة نهاد الترك

“أنسي الحاج يعترف” جملة صادمة تنطوي على مزحة هي أشبه بالكذبة التي لا يمكن أن تقول الحقيقة. فمزاج أنسي الشعري والشخصي لا يسمح بالاعتراف. كل ما قاله شاعر “الوليمة” لا ينطوي على أيّ نوع من الاعتراف الذي يخرج بالذات من ملكوتها. ما قاله يتعلق بالآخرين وبموقفهم من شعره وطريقته في التفكير خارج الشعر وداخله.

 حاول أنسي الحاج أن يضلّلنا حين وجد له مرجعيات نثرية محلية تقع خارج ما تداوله الآخرون عن المرجعيات الشعرية العالمية التي سبق لهم وأن طرحوها وحاولوا أن يكشفوا عن علاقة شعره بها. إنه كما عرفته صنيع ذاته. كائن خُلق ليتبعه الشعر باعتباره أثر قدميه على أرض زلقة، ما أن يمشي عليها الآخرون حتى يبتلعهم ثقب أسود. وإذا ما كان أنسي قد تحدث في اعترافاته المزعومة عن التوتر الذي يثير انزعاجه باعتباره إنسانا ضجرا فقد كان أولى به أن يذكر “نيتشه” الذي تأثر به مثلما فعل من قبله اللبناني الآخر جبران خليل جبران بطريقة رومانسية.

من جهة أخرى فإن نفي الطابع الشعري لنثره إنما يعبّر عن رغبته في الالتحاق برهط الفلاسفة العظام الذين وجدوا في “الشذرة” أسلوبا كتابيا مفعما بقوة الخلق الصادم. وهو في ذلك يجاور الفيلسوف الفرنسي من أصل روماني أميل سيوران. لم يكن أنسي يائسا مثل سيوران وهو الذي يقول “سيكون العالم جميلا”. بالنسبة إلى أنسي فإن شعرا من غير فلسفة هو شعر لا قيمة له. لذلك كان يتحاشى التعليق على أشعار الآخرين لأنه يعتبرهم شعراء ريفيين. لم تكن لدى أنسي مشكلة إزاء تكريسه رباً وحيدا للشعر بالرغم من أنه يُظهر ضيقه بصفة شاعر. من وجهة نظره فهو أكبر من شاعر. وإذا ما كان قد تمتع بحماية خاصة من قبل جماعة شعر اللبنانية في سنّ مبكرة من حياته فإنه اعتبر تلك الحماية حدثا طبيعيا كونه شخصيا يمثل الابن الخارق للشعر العربي الحديث.

غير أن ما قاله يمكن قراءته بطريقة مختلفة ليشكل اعترافا. وهو اعتراف يتعلق بموقفه من الحياة الشعرية بكل ملحقاتها. النقد الذي لم يكن يروق له والترجمة التي وجدها قاصرة دائما عن بلوغ الفيض الشعري في النصوص الأصلية. بالنسبة إليه فإن هناك جهدا كثيرا مبذولا يقع خارج “الشعري”. ذلك الجهد الفائض هو تعبير عن سوء الفهم الذي وقع فيه العرب وهم يسعون إلى استعادة شعريتهم البائدة في العصر الحديث.

كان أنسي الحاج يعتبر أن إلهامه قد تجاوز الشعر كما هو، كما يعرفه الآخرون إلى منطقة تكون فيها كل كتابة شعرا. من وجهة نظره فإن كل الأنواع الكتابية التي مارسها كانت شعرا. ولأنه كان يعمل في الصحافة اليومية (محررا ومسؤولا عن الملحق ورئيسا للتحرير في صحيفة النهار البيروتية) فقد كان يكتب في شؤون الحياة المختلفة وبالأخص في السياسة. ومع ذلك فإنه كان يجد في كل جملة كتبها روح الشاعر الذي يأسره لمعان اللغة، بالرغم من أن أنسي كان دائما شاعر معنى. “الكلمة تكون بحاجة الحياة إليها لا بالشفقة. وتكون كلها، وفوق الكل، أو لا تكون”.

هناك ارتباك واضح في طريقة تفكيره في الوزن والإيقاع ومن ثم الإيقاع الداخلي. وهو ما كان عليه أن يتفادى الدخول في دائرته. ذلك لأنه لم يكتب قصائد موزونة إلا في ما ندر. وهي قصائد ليست ذات قيمة. أنسي الذي لم يكن يتحمل كلمة نقد واحدة كان في أعماقه لا يرى في تجارب الآخرين الشعرية ما يثيره. يوم كتبت عنه في مقالة نشرتها في ملحق النهار البيروتية “إنه مزيج من علي بن طالب وفريدرك نيتشه” نظر إليّ باستغراب كما لو أنني لم أمدحه. غبطة الجلوس معه كانت ثمنا مقنعا لكل الشروط الاحتياطية التي يجب على المرء أن يقبل بها. فأنسي وهب شخصيته الواقعية ملامح الشاعر الذي خلقه بعناء خياله وصلابة أحلامه. أذكر أنه أصرّ ذات مرة على أن يمشي معي من الحانة إلى الفندق الذي أقيم به وكان يحدّثني عن الأرق. في الأثناء كنت أراقب مشيته المتعجلة كما لو أنه كان على موعد. كان يظن دائما أن هناك مَن أو ما ينتظره. الشعر أو امرأة جميلة أسرته أو حكاية بوليسية.

كان أنسي محاطا دائما بالنساء الجميلات وهن مكافأته. المكافأة التي يستحقها شاعر بحجمه. لقد كتب عنهن بوله كما لو أنه فكر بإعادة خلقهن.

كان أنسي الحاج يعتبر أن إلهامه قد تجاوز الشعر كما هو، كما يعرفه الآخرون إلى منطقة تكون فيها كل كتابة شعرا. من وجهة نظره فإن كل الأنواع الكتابية التي مارسها كانت شعرا. ولأنه كان يعمل في الصحافة اليومية (محررا ومسؤولا عن الملحق ورئيسا للتحرير في صحيفة النهار البيروتية) فقد كان يكتب في شؤون الحياة المختلفة وبالأخص في السياسة. ومع ذلك فإنه كان يجد في كل جملة كتبها روح الشاعر الذي يأسره لمعان اللغة، بالرغم من أن أنسي كان دائما شاعر معنى. “الكلمة تكون بحاجة الحياة إليها لا بالشفقة. وتكون كلها، وفوق الكل، أو لا تكون”.

 بالنسبة إلى أنسي فإن الكتابة هي الأصل. لذلك جمع افتتاحياته الصحفية في كتاب بثلاثة أجزاء هو “كلمات كلمات كلمات” جملة استعارها من هاملت. وهو ما فعله ثانية في كتابه “خواتم”. وكان من الممكن أن يكرره مع كتاباته التي كان ينشرها في صحيفة الأخبار البيروتية أسبوعيا. يمكننا أن نغبطه على سعادة شعوره بما يفعل. فهو يوحي من خلال صلته بنتاجه الأدبي بأنه كائن، الشعر هو الخيط الوحيد الذي يصل بينه وبين الحياة التي كانت علاقته بها تُقاس على درجة متعته بها. كان إنسانا متعويا لا يخفي ولهه بالجمال العابث.

بعد كل هذا يمكنني القول إن أنسي كان ماكرا في اعترافاته، غير أنه بالرغم من مكره فقد أفصح عن نرجسيته وخيلائه وطريقته المتعالية في النظر إلى الآخرين وبالأخص أولئك الذين لم يسقطوا في فخ الإعجاب المجاني به.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.