المثاقفة والتناص في الشعر

قراءة في جديد حاتم الصكر
الثلاثاء 2020/12/01
لوحة: حاتم فاضلابي

ما تزال قضايا الشعر تشغل جل اهتمام الناقد العراقي حاتم الصكر وتشغله بهدف تعميق الحوار المعرفي والنقدي مع التجربة الشعرية العربية الراهنة وتطويره بما يخدم قضايا هذه الشعرية ويعزّز حضورها الإبداعي في حياتنا الثقافية. ويأتي كتابه الأخير “تنصيص الآخر – دراسات في المثاقفة الشعرية والمنهج والنقد”، الصادر حديثا عن “دار خطوط وظلال”، ليكشف من خلال عنوانه عن القضايا الشعرية والنقدية المتعددة التي يحاول أن يقاربها برؤية نقدية ومنهجية تسعى إلى الكشف عن دور المثاقفة الشعرية والكيفية التي تمت من خلالها هذه المثاقفة في التجربة الشعرية العربية، إضافة إلى استجلاء صورة هذه المثاقفة في مرايا القصيدة المعاصرة من خلال تبدلات المؤثر وتحولاته النصية وصولا إلى مناقشة قضايا الاستشراق وتردد صداها في قصائد محمود درويش وعلاقة النقد العربي بالمناهج النقدية الغربية.

تحتل قضية المثاقفة الشعرية أو ما اقترحته دروس التناص والتأثر صدارة اهتمامه في هذا الكتاب كما بدا ذلك من خلال عنوان الكتاب، حيث يحاول في هذه الدراسة أن يتتبع أثر هذه المثاقفة من خلال الترجمة والدراسات المقارنة في تكوين الشاعر العربي المعاصر إلى جانب موهبته الشعرية. إن أهمية هذا التأثر يتجلّى عنده في أمرين اثنين أولهما أنه يسمح للناقد أن يتفحص وجود الآخر في هذه التجربة وعلاقة الشاعر العربي به من خلال التناص والتأثر، وثانيهما أنه يتيح للناقد تلمس الكيفيات التي تمت بها عمليات المثاقفة على المستوى الفردي أو الظاهرة الشعرية ككل وما نتج عنها من تأثر على مستويات اللغة والتركيب والخيال والتمثلات الذاتية وأساليب التعبير إضافة إلى الجانب الموضوعي والأفكار والرؤى الشعرية.

لقد كان لعملية تنصيص الآخر كما يسمّيها الناقد دور مهم في إنجاز عملية معرفية وحضارية حيث تجلّى أثرها في جعل عملية التحديث إضافة مهمة لتعميق مجرى الحداثة في الشعرية العربية. لذلك يفتح دراسات الكتاب بتناول موضوع المثاقفة الشعرية من حيث التأثر والسرقات. ويلعب العنوان الفرعي الذي يتصدر هذا المبحث “صياغة الوهم وتنميط الآخر” دوره في تحديد أفق هذه العلاقة ونتائجها لكنه يعترف في بداية هذه الدراسة أن تلبية أفق انتظار الآخر كطرف في هذه المثاقفة تعد المشكلة الأبرز في تبصر فعل الذات لتحقيق هذه المثاقفة مع الآخر. وتتّخذ العلاقة بالآخر عنده بعدين اثنين: بعد خاص بالغرب نفسه يتميز بثنائية الأبعاد المتنافرة إلى درجة العصاب وبعد خاص بالأدب العربي يتضمّن وعيا بجماليات قراءة الآخر لنا. وفي هذا السياق يشير إلى أن الآخر في الكتابة بلغته يسهم في التنفير من اللغة الأم أو طرح بدائل عامية.

أما على مستوى العلاقة مع المناهج النقدية الغربية فهو يرى انعدام الخيارات ما يدفعه إلى تفحّص خلفيات هذه المواقف المتعارضة. لكنه يجد أن التناص حرر إشكالية المثاقفة من النظر الاستشراقي، وأن التلقي لعب دورا مهما في التحرر من ثنائية المركز والهامش عبر تنشيط طاقة النص على التمثل والامتصاص. وفي موضوع “التّنصيص الآخر” الذي هو عنوان الكتاب يناقش مقولة التأثر في المصطلح والنظرية والتطبيق للعثور على الكيفيات المنجزة أو الممكنة في العلاقة مع المؤثر وما يتسلل منها إلى القراءات. هنا يتوقف الناقد عند نظريتين تتقاطعان في مسألة المؤثر تنطلق الأولى من روح استشراقية والثانية من الجانب المضاد لها. ونظرا لدور الأدب المقارن في فهم عملية المثاقفة يتناول هذا الدور إلى جانب دراسة المستوى الأيديولوجي وأثره في تحجيم هذا الدور من خلال الكشف عن دور المعرفة الغربية في تحويل الشّرق إلى نصّ بقوّة سلطة المعرفة. وعلى الصعيد الفني لنظرية التأثر يتوقف ضيق مساحة هذه المؤثرات لكنّه يتحدّث عن دور هذ المستوى في ظهور مبحث السرقات في النقد الشعري عند العرب حيث لم يخل كتاب نقدي منذ بدايات التأليف النقدي منها. كذلك يتحدث عن موضوع الخصومات بوصفها ضدية التثاقف وفضائحيته.

كتب

ويفرد لعلاقة الصورة بالنصّ كما تجلّت في صورة المدينة التي عكستها مرايا المثاقفة الشعرية منطلقا ممّا يتصف به المكان في القصيدة من شفافية تمتزج بالذاكرة والصورة المشكلة عنها كمقدمة لمناقشة كيفية وإمكان تنميط المدينة ما سيؤثر كثيرا في تحديد موقعها في وعينا. لذلك يتناول خلفيات تكونها الأيديولوجية والحضارية والسياسية والفكرية كما يجدها في صورة مدينة نيويورك عند شعراء كثيرين أميركيين وأفارقة وعرب. لكنه يعود في مبحث تال لدراسة تبدلات المؤثر وتحولاته النصية كما ظهر عند الدارسين العرب الذين نقلوا اهتمامهم من دراسة الأدب المقارن بصيغته الأوروبية إلى الدراسات المقارنة في أفريقيا وأميركا اللاتينية، إضافة إلى الابتعاد عن الصورة النمطية السائدة عن التأثير الفرنكفوني والأنجلوسكسوني في الشعر. كما ظهر ذلك في التأثر بمدارس القراءة وجماليات التلقي الألمانية في دراسات الشعرية والسّرد كما يجعل من المقترح الإسباني مجالا لدراسة هذا التحول إضافة إلى البحث في أثر رامبو في الشعر العربي والدراسات الأدبية التي كرسته بوصفه أسطورة.

ويعود إلى دراسة موضوع الاستشراق على مستويي الهوية والمكان ولكن من خلال تمثلاتها شعريا كما برزت من خلال العلاقة بين إدوارد سعيد ومحمود درويش وقد شكل المكان النيويوركي بؤرة التوتر في هذه العلاقة. ولأجل استيضاح معاني هذه التجربة يتناول فكر إدوارد سعيد الذي يلخصه في ثلاث محطات معرفية تبدأ بوصفه مثقفا فلسطينيا منفيا تشكل وعيه المكتسب من معاناة معرفية شاملة تتفحّص علاقتها بالآخر ووجودها مكانيا وزمانيا. لذلك يفرد لمناقشة خطاب الاستشراق والنقد المضاد مساحة يناقش بها أطروحاته. وتتمثل المحطة التالية في موضوع مفارقة الهوية بين خلق الذات وإكراهات الآخر إلى جانب موضوع العلاقة مع المكان بالنسبة إليه كمنفيّ عن وطنه فلسطين وسعيه الحثيث لتأكيد هويته الذاتية وحقيقة ارتباطه بأرض وطنه المحتل.

وينتقل من خطاب الاستشراق عند سعيد إلى استحضار تردد صداها في نصوص الشعر لعل أهمها نصوص الشاعر الراحل محمود درويش التي يفرد لها حيزا هاما للوقوف على حقيقة هذه الأصداء وكيفية تمثلها شعريا وما أضافته من صور ورؤى حاول درويش فيها أن يتمثل مأساة الإنسان الفلسطيني على المستوى الإنساني والوجودي والسياسي. ويوسّع الناقد من دائرة النقاش فيتناول موضوع المقاربات المنهجية في السياق الحضاري من حيث المؤثرات والدلالة كما تجلّت في علاقة النقد العربي بالمناهج النقدية الغربية وواقع هذه المناهج من الناحية الفلسفية والزمانية إلى جانب دراسة هذه المناهج من خلال علاقتها بالسياقات الثقافية والاجتماعية العربية وما فرضته من أشكال محدّدة لهذه العلاقة مع الحاضنات الثقافية الغربية التي تمّت الاستعانة بقواعدها المنهجية وتوجهاتها الفكرية. ويتخذ النقاد الصكر من النقد الواقعي والاجتماعي واللساني والبنيوي أمثلة على عمليات التأطير والتأثير. كذلك يتناول موضوع تيارات ما بعد الحداثة لاسيما النقد النسوي والنقد الثقافي. ويختتم الكتاب بدراسة يتناول فيها موضوع نقد النقد في موضوع الدراسات الثقافية لاسيما على صعيد المصطلح وتداخل المفهوم.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.