المثقف جاهلاً المثقف قاتلاً
لا تتوقف فكرة الموت عند الجهاديين وأفكارهم المشوهة واللاإنسانية، بل تنسحب أيضا على من يصدّر فكره لإقصاء الآخرين، وحجبهم، ذاك الذي لو ملك القدرة لمحا كل من يخالفونه وأسقطهم من الوجود.
يبدأ القتل من إنكار الآخر، تغييبه، حجبه، شتمه، ولا بأس بالتنكيل به ولو معنويا. وهنا ينشأ الفعل وردة الفعل، وهنا تولد دوامة الموت، الموت الذي يتمكن بهذا التمشي من السيطرة على كل الضفاف واللعب بها كبهلوان قذر اليدين. ويمكننا أن نسمّي هؤلاء “المثقفين” البدائيين بـ”المثقف الجاهل”، أو “مثقف الموت”، بما أن الجهل والموت سواء للإنسان.
في جانب آخر لنا أن نتتبّع خطاب شريحة هامة من المثقّفين العرب، لنجد دون عناء العنف، عنف الألفاظ الذي يؤدّي إلى عنف الأفكار الناتجة عنه، هذا العنف الذي مهما لبس من الهدوء والزينة والموضوعية والغايات النبيلة أو الذاتية وغيرها، فإنه عنف في النهاية، لكن نتساءل هنا من أين جاء هؤلاء بالعنف؟ ثم هل صدّرت لهم مجتمعاتهم العنف؟ أم العكس هم من صدروا العنف إلى مجتمعاتهم؟
لقد تعرّضت الشعوب العربية والمثقف العربي إلى هزائم متعدّدة تتالت طيلة قرون من الانهيار مرورا بانتصاب الكيان الصهيوني والنكسة وحتى غزو العراق وصولا إلى تفتيت سوريا، هذه الهزائم تناقلتها الأجيال، وفي لحظة الانفجار الكبرى التي تلت الثورات العربية، أخرجت ما كان آسنا راكدا في العمق. ودون أن ننشئ قطيعة أو تقسيما بين شعب/عوام ومثقفين، إذ المثقف ابن محيطه بالضرورة.
لن نبحث هنا في أسباب الهزيمة العربية، يمكننا أن نتّهم المثقفين، كما يمكننا أن نجعلهم في دور الضحايا، ضحايا الاستبداد والعنف، وفي النهاية أيّ دور لفئة لا تملك غير أقلامها وأفكارها، فئة ليست لها قدرة على التغيير، رغم أننا نعلم كلنا أن التغيير لا يتم دون أفكار سابقة أو موازية له، ومن ينتج الأفكار غير المثقف.
هنا نرى أن المثقفين أو النخبة هي من تصنع وعي مجتمعاتها، ليس لأن الوعي سابق للواقع، بل لأن هؤلاء المثقفين هم الأقدر على قراءة الواقع وتقديمه كـ”حبوب وعي جماعي” للرأي المشترك. صناعة الوعي التي كانت تقوم بها الدكتاتوريات والأنظمة تتم من خلال المثقفين عبر وسائل مختلفة بداية بالكتب ثم التلفزيون ونهاية بالإنترنت وغيرها من وسائل التواصل.
اليوم وأمام مشهد هزيمة أخرى، لكنها أكثر دمارا وسرعة هذه المرة، هزيمة داخلية وخارجية، يحاول المثقف العربي أن يسلط وعيه، على تفاوته، لفهم الواقع والفعل فيه -هذا الواقع الذي كان هو نفسه من بين صنّاعه ولو عن غير قصد- وهذا قد يكون لغاية جمعية أو فردية نبيلة أو مصلحية ذاتية، لكن هذا الواقع السريع المحترق سينتج بالضرورة ردودا متسرعة مليئة بالأدخنة والدماء. فصناعة الوحش لا تضمن لك أنه لن يتمرد.
وقد يلتجئ المثقف في تلك الفوضى إلى الانسحاب والاكتفاء بإنتاج أدب أو فكر بعيد عن واقع الدمار، لكنه يفشل في ذلك ضرورة، فعزلة المهزوم سواء في فكره أو نصه أو واقعه ستنتج أكثر الخطابات وحشية، مغلفة بألفاظ كالزهور والحرية والحمائم، لكنها ألفاظ لا غير، تخبّئ تحت جلدتها أنياب الرصاص وصرخات القاتلين والمقتولين.
قد يبدو هنا جليّا اتهام المثقفين العرب بأنهم هم القتلة الحقيقيون، فالقتل الحقيقي ليس لحظة إطلاق النار، بل لحظة حشو رأس شاب ذي هويّة مهزومة بأفكار مملوءة توحشا، لمقارعة توحش المال والأنظمة وغيره.
إن أردنا أن نتمعن أيهما الأسبق القتل أم فكرة القتل، سنجد بالضرورة الفكرة أسبق من الفعل، فنظرية الاعتباطية، اعتباطية الأحداث، ليست بالتماسك الذي يمكّن كفّتها من الرّجحان. لكن ما معنى فكرة القتل؟
ربما يرى البعض فكرة القتل في التصريح المباشر بالقتل الجسدي، لكن لا بد من التذكير هنا أن القتل لا يقف عند حدود الجسد، بل يتجاوز ذلك، قتل للأفكار للهويات للزمن وللعقل البشري.. الخ وربما كان فعل القتل الأكثر خطورة هو ذاك المختبئ خلف كلمات منمّقة إقصائية في جوهرها تدّعي الحرية والديمقراطية في ظاهرها.
إذن لا مناص من الإقرار بأن القتل والدمار بدآ من أفعال ثقافية لذا لا بد من مقاومتهما هناك في مكمنهما، لا بد من مثقفين حقيقيين في هذه المرحلة الحرجة لمقاومة الموت والدمار.
في ناحية أخرى تكثر التعريفات للمثقف، لكن ظهر نوع جديد من المثقفين المزيفين هم في خانة “المثقف الجاهل”، هؤلاء من كتّاب وغيرهم، يوزّعون آراءهم الأيديولوجية السياسية أو الفكرية أو حتى الفنية عن جهل يرتدي ثوب المعرفة، يزيّفون الأفكار ويميّزون أنفسهم بالرفض الهادم، معتبرين في ذلك أفعالا ثورية تثبّت بصماتهم، ويمتلك هؤلاء رؤية منغلقة مرتبكة هادمة، ليس هدما للبناء بل هدما لغاية الهدم، وقد منحت وسائل الاتصال الحديثة قنوات لهؤلاء للتواصل وإبلاغ أفكارهم ومنتجاتهم الفكرية والفنيّة المزيّفة، يتكتل أغلبهم في مجموعات أشبه بالعصابات والشّلل، هؤلاء ربما كانوا أشد فتكا، نظرا إلى أنهم يلغون دور المثقف الحقيقي ويشوّهونه، حتى يغدو منعزلا لا يصدقه أحد ولا يُسمع منه. وهنا تتمكن الفوضى التي يخلقها “المثقفون الجاهلون” لتتآكل المجتمعات العربية من داخلها في شكل تدمير ذاتي.
أي أن إنتاج للقتل آت من ثقافة ما، لذا لا بد للمثقفين الأحرار والصادقين أن يتصدّوا لهذه النتائج المميتة. ثم إن الفكرة والكلمة أخطر من الرصاصة، وسواء أكانوا من مثقفي السلطة السياسية أم الدينية أم مثقفي العمى الأيديولوجي السياسي الضيق أم من المثقفين الجهلة، فهؤلاء هم القتلة الحقيقيون، وهؤلاء من يجب التصدّي لهم.