المثقف الشبيه أو الوجود المبتذل
ليس هناك من ذنب، إذا ما كان إنسان مّا شبيها بآخر في الخِلقة؛ لأنّ هذا من شأن الوراثة البيولوجية، التي لا بد لنا بها؛ بل وقد يكون هذا الشبه مدعاة للفرح. غير أنّ المتشبه ذهناً بآخر، الذي هو من قبيل خيال الأصيل، أمر يدعو إلى النفور، المتشبه ما كان همه الدائم أن يتحول إلى صورة عن أصيل، دون أن ينطوي على إمكانية كهذه، وأكثر الصور فجاجة للشبيه؛ هي صورة المثقف الشبيه، سواء كان مثقفاً شفاهياً أو كان كتابياً. والمثيقف هذا هو الذي أوتي حظاً من موهبة محدودة، فلا هي قادرة أن تعلو به إلى درجة الإبداع، ولا هي تدرجه في عداد العامة، لهذا يسعى جاهداً، بكل ما أوتي من محدودية الموهبة، أن يحمل الآخرين على الاعتراف بأصالته، وينال تصفيق العامة. وتتعين محدودية موهبته بعقل متوسط، ولأنّه ذو عقل متوسط، فإنّه وسط بين العقل العام والعقل العبقري. وليس للتاريخ مهرب من وجود متوسطي العقول بعامة، ولهم وظيفة إيجابية، وهي ضرورتهم للحياة العملية، فحاجة الحياة العملية، الإدارية والاقتصادية والمعاشية، كبيرة جداً، وفِي كلّ الأحوال؛ فإن الوسط بين طرفين: الأعلى والأدنى، هو الحالة العامة عند كلّ شعوب الأرض.
من ميزات الجمهور العام الاعتراف بالمبدعين، والفرح بهم، واحترام حضورهم في الحياة، دون شعور بالدونية؛ بل – على العكس – فإنّهم يشعرون بالفخر والاعتزاز، بأنّهم ينتمون إلى الشعب الذي أنتج مبدعهم هذا أو ذاك.
غير أنّ المتوسطين في حقول الإبداع ظاهرة مزعجة؛ فهم يظهرون غريزتهم العدوانية الناتجة عن شعورهم بالدونية أمام المبدع الأصيل، ولهذا فهم يشكلون دائماً الجمهور الذي يستورد منها المستبد كلاب حراسته اللسانية، خاصة تلك التي تقوم بالنباح على الأنوات المبدعة المتمردة دون خجل أو وجل.
متوسط العقل المثيقف هذا، الذي يعيش عمره مقيماً في حال الشبيه، يعيش على نحو دائم شعور عدم الرضا عن نفسه، يعيش عقدة فقدان الاعتراف من الأعلى، مع أنّه قادر على الحصول على الاعتراف من الأدنى.
الشبيه هذا لا يجد أمامه، للخروج من تناقض قدراته الذهنية المتواضعة مع طموحاته غير المحدودة، إلّا التطرف السلبي تجاه أعداء يصنعهم دون علم من هؤلاء الأعداء أو اكتراثهم به، وإشهار لسانه للعلعلة والحسد والاعتداء، وقلّما لا يجيد إلا كتابة القول الخالي من المعنى، طمعاً في حضور وهمي.
الشبيه هذا متوسط العقل، كأي شبيه آخر، يعيش ما سمّاه هيدغر “الوجود المبتذل”، والوجود المبتذل، هو عالم النميمة واللغو والشتيمة، ومن الطبيعي والحال هذه أن يكون الأصيل هو العدو الأشدّ عند الشبيه.
الشبيه المتخم بالعدوانية، لا يكتب كلاماً، إنّما يتقيأ قولاً على الورق، والقول الخالي من الفكرة. أجل الأشباه هؤلاء لا يجدون أفضل من اللغو وسيلة للحضور الزائف، بل هم لا يجيدون غيره أصلاً.
ولقد برز الأشباه، في الآونة الأخيرة، على نحو فاجر جداً، جوهره التطرّف السلبي: كالشيوعي جداً، والقومي جداً، والفاشي جداً، والإسلامي جداً، والثورجي جداً، وهؤلاء المتطرفون هم أشباه المتطرفين العظام، فللتطرف وظيفة إيجابية عندما يكون موقفاً صادقاً من الحياة، إنّ التطرف، بالنسبة إلى الشبيه هو وسيلة للظهور، ولا يمارسه إلّا ضدّ الحضور.
الشبيه هذا، المصاب بعقدة الخصاء، هلع من الصفات التي يخلعها أهل المعرفة على المبدع، ويشتط غضباً من كينونته؛ لأنّه لا يستطيع أن يكونها، الشبيه هذا، وأشباه الشبيه، يحوّلون إحباطهم الفردي وعجزهم الوجودي إلى نزعة عدوانية تجاه الأفراد، محمّلة بكل أشكال الشعارات الأثيرة، ذلك أنّه وقد صار عاجزاً عن الحضور، ها هو يطلق النار على الأفراد بوصفهم أفراداً، دون أن يكون بمقدوره أن ينقد الأفكار والآراء؛ لأنّ نقداً كهذا يحتاج إلى تفكير، لكن الشبيه لا يفكّر.
الشبيه هذا، يعتقد أنّه إذا عرض صورة له، وخلفه كارل ماركس، نال شهادة حسن سلوك الحضور، لكنّ ماركس ليس مجرد صورة نضعها خلف صورتنا؛ إنّه منهج للتفكير قابل للنقد والقتل، ومع ذلك كان يمكن أن نغفر للشبيه عدوانه، لو ظلّ في حقل الجعجعة والقيء، لكن الشبيه تحول في عدوانيته إلى ملفق مخبر دون أن يكلفه أحد بذلك، وهذا أكثر أشكال الانحطاط الوجودي قذارة.
الشبيه يكذب دون أن يرفّ له جفن، فهو المخبر كلاماً كي يوقع الإيذاء، ويصوغ وقائع عن المعتدى عليه لا أساس لها من الحدوث.
ليس بالضرورة أن يكون الشبيه منحطاً إلى هذا الحدّ دائماً، لكنّ الأمر عند هذا الشبيه: جهل معرفي، وتطرف وظيفي، وحسّ جمالي متدنٍ، وانحدار أخلاقي، وانتماء زائف.
لقد ترددت كثيراً في الكتابة عن ظاهرة الأشباه - متوسطي العقول في أنموذجها العربي، خاصة الذي أشرت إليه، فأنا أحتاج إلى جهد كبير كي أصل حدّ التواضع وألوث قلمي بتناول شبيه بعينه.
لكنّني وجدت بعد تأمل: أنّه من الحكمة العملية أن أجيب القرّاء عن سؤال وجيه هو ما الذي يحمل الشبيه هذا على النيل من ذوي الحضور المركزي في حياتنا؟ لو كانت القهقهة تكتب - خاصة قهقهتي - لما احتجنا إلى الكتابة، ووفّرنا وقتنا لما هو أثمن، لكن ليس باليد حيلة.