المثقف العضوي والنقد من أجل الإبداع
أنطونيو غرامشي فيلسوف ومناضل ماركسي إيطالي، ولد في بلدة آليس بجزيرة ساردينيا الإيطالية عام 1891 وهو الأخ الرابع لسبع أخوات. تلقى دروسه في كلية الآداب بتورينو حيث عمل ناقدا مسرحيا عام 1916. انضم إلى الحزب الشيوعي الإيطالي منذ تأسيسه وأصبح عضوا في أمانة الفرع الإيطالي من الأممية الاشتراكية.
اعتقل لأول مرة بسبب تأييده للجمهوريتين الهنغارية والروسية لكنه بدأ في خريف العام ذاته تنشيط حركة “مجالس العمال” في تورينو. وفي عام 1921 أسس مع مجموعة أخرى للحزب الشيوعي الإيطالي وانتخب نائبا عام 1924 وترأس اللجنة التنفيذية للحزب. وفي الثامن من نوفمبر أودع السجن بناء على أمر من موسوليني حيث أمضى العشر سنوات الأخيرة من عمره قبل أن يموت تحت التعذيب في 26 أبريل 1937. ومن السجن يعلن قطيعته مع ستالين، وفيه يكتب “دفاتر السجن”.
تساؤلات: ما هو المثقف عند غرامشي؟ وما العلاقة التي يجب أن تقع بينه وبين قضايا مجتمعه؟ أين يتجلى النشاط النقدي للمثقف؟ كيف يعانق هذا النشاط درجة الخلق والإبداع أو التفكيك والتأسيس؟ ما علاقة النظرية بالعمل؟ هل هو الذي يوجه طبيعة البراكسيس أم أن البراكسيس هي التي تحدد طبيعة النظرية؟ ما هي أوجه الهيمنة ومن يتوسلها؟ وما علاقتها بالسيطرة؟ وكيف تتجسد كل منها داخل المجتمع الواحد؟
المحور الأول: غرامشي ونقد فلسفات الحداثة
• نقد فلسفات الوعي والمثالية
• غرامشي ونقد العقل الميتافيزيقي (كانط) المثالي/جمود من العقل المثالي إلى دينامية العقل التاريخي
انتقد غرامشي المعرفة المجردة من خلال قلبها إلى معرفة تاريخية مشخصة، أي أنه ينتقد ما ينبغي أن يكون المجرد/المثالي، إلى تأسيس فكر ما هو كائن (مشخص) مادية تاريخية، لذلك فإن أول خطوة يخطوها غرامشي في نقد المذهب النظري المثالي هو نقد اعتماده على الفكر في تأسيس معارفه، “المذهب المثالي على عكس المذهب المادي أدرك نشاط الإنسان من جانب واحد مرجعا هذا النشاط إلى النشاط النظري فقط، ومتماهلاالبراكسيس المشخصة لزعمه أنها مجرد امتداد للنشاط النظري” [1].
إن غرامشي ينوي تقويض الفكر المثالي الذي يستند إلى الذات الواعية والمفكرة، وبالتالي المستقلة عن ظروفها وشروط إنتاجها هذا ما جعل غرامشي يقوض أساسا كل معرفة تنطلق من “كوجيتو” فردي لا يفكر إلا بهذه الفردية، لأن هذا يتناقض مع البعد التاريخي للفلسفة باعتبار أن الفلسفة نهج لكتابة التاريخ هذا من جهة، ومن جهة أخرى يتناقض أيضا مع فكرة المثقف الأرستقراطي حيث أن غرامشي يعتبر أن مثل هذه المعارف المثالية تؤسس خطاب المثقف الطوباوي، لذا بدأ ينتقد المعرفة الذاتية و المعرفة القبلية، حيث يقول “المعرفة الموضوعية عند أهل هذا المذهب ليست مستقلة عن الفرد والبشرية فحسب، وإنما هي خارج الإنسانية وخارج التاريخ، وإنها إدراك الإنسان المطلق، أي العالم القائم بذاته، إدراكا مطلقا، أي إدراك مشتمل على المعارف الأزلية والأدبية، إنها اقتلاع الإنسان ذاته من التاريخ” [2].
بهذه الطريقة يبدأ المشروع التفكيكيباكثير من المقولات التي أسست لخطاب المركزية اللوغوسية في الثقافة الغربية، وفي الفلسفة المثالية، كمقولة الوعي المستقل، أو الذات المفكرة أو الجوهر أو القبلي.. وقد كان غرامشي يمقت في هذه الفلسفات أنها تحيا في صيرورة الواقع لكنها تفكر خارج هذا الواقع، وبعيدة عن التاريخ لأنها منشغلة بالمعرفة، والعقل النظري، أكثر مما تنشغل بالعقل التاريخي كما حصل مع كانط، لذا قرر غرامشي أن يقوض القبلي والمجرد الذي يؤسس المعارف الذهنية “الواقع أن الذات المفكرة هي موجود تاريخي وعملي ومعرفتها لا تنفصل عن نشاط المبدع الواقع” [3].
يقول صادق جلال العظم في هذا الشأن “إن المبدأ الأساس في نظرية المعرفة عند غرامشي، تقوم على اللحمة بين النظرية والعمل، لأن موضوعية المعرفة، وحقيقتها هي في قلب الكلية التاريخية، لا خارج التاريخ، ولا خارج الإنسان، ولا هي أزلية.. وبالتالي كل معرفة لا تنفصل عن تبديل الإنسان للواقع، عن إبداع الانسان لواقع جديد وهذا الجانب العملي من النظرية مواكب لجانبها التاريخي، وكل نظرية تتطور بحسب علاقاتها الجدلية بالعمل السياسي أو التجريبي” [4].
هكذا يصل غرامشي الى نتيجة فلسفية دنيوية الطابع، يتجاوز كل التصورات القبلية، ويشرح ذلك في قوله “لن يكون بعد الآن ميتافيزيقيا الحس العام الساذجة، التي تصنع على نحو عقائدي عالما في ذاته، ولذاته، والتي تتصور المعرفة على صورة انعكاس في ذهن الإنسان لما هو عالم في ذاته” [5].
• نقد الثقافة الشعبية/جدلية الانفصال والاتصال بين العنصر الفكري والعنصر الشعبي
يبدو أن غرامشي منذ أن أسس لخطاب القطائع المعرفية والإبستيمولوجية دأب على تجاوز منطق الثنائيات كما كان سائدا، فلم يعد هناك وعي مركزي وآخر ثانوي.. كما أن منطق البراكسيس ينبذ مثل هذه الثنائيات، وينظر الى كل المعارف حتى أدناها باعتبارها معارف لها وظائف اجتماعية. يبدو أن الإشكالية هنا هي معرفية، حيث النظام المعرفي الذي يشكل رؤية المثقفين يختلف عن النظام المعرفي الذي يشكل رؤية الطبقة في ثقافتها الشعبية، هذا النظام سوف يحدد الانفصال أو الاتصال مع خطاب الثقافة الشعبية لأنه إذا كان نظاما معرفيا منهمكا في التأملات الميتافيزيقية و المثالية هذا يعني أنه توجد حالة انفصامية بينه وبين الخارج المتمثل في الثقافة الشعبية. ويضيف في فقرة يعنونها بـ”الإحساس والفهم والمعرفة”، “العنصر الشعبي يحس لكنه لا يفهم ولا يعرف على الدوام، والعنصر الفكري (المثقف) يعرف لكنه لا يفهم أولا يحس على الدوام”.
يرفض غرامشي هذه الثنائية ثقافة المفكر/ثقافة العوام، حيث يرى أنه من المستحيل أن تبقى هذه الطبقة بدون من يوجهها، وينظمها، وينقي معارفها من الأوهام العالقة في ذاكرتها الجماعية، ومن المستحيل أيضا أن يبقى المثقف متقوقعا في لاهوت فكره المتعالي، واللاتاريخي، وهذا ما عناه غرامشي في قوله “يكمن خطأ المثقف في اعتقاده بأنه يستطيع أن يعرف من دون أن يفهم، وعلى الأخص من دون أن يحس ومن دون أن تثور حماسته الا للمعرفة في ذاتها فحسب، بل لموضوع المعرفة، أي في الاعتقاد بأن المثقف يمكن أن يكون مثقفا حقيقيا لا مدعيا فحسب، وإذا كان منفصلا عن الشعب، وإذا كان لا يحس بأهواء الشعب البدائية، فلا يفهمها ولا يفسرها ولا يبررها في الوضع التاريخي، من خلال إعادة ربطها جدليا بقوانين التاريخ.. ودون هذا الربط العاطفي بين المثقفين والشعب والأمة لا تقوم قائمة للسياسة التاريخ.
إذن انتقد غرامشي الثقافة الشعبية، لاعتمادها على عفوية الإحساس كمصدر أساسي للمعرفة، على الرغم من أنه انتقد الرؤية الأحادية في كل شيء، لإيمانه بقدرة الرؤية التي تجمع بين النظرية و الممارسة، حتى لا تسود شريعة التسلط، وهيمنة الأفكار على الأدمغة بسبب قدمها. والمفروض أن الجماهير الشعبية لا تقف وحدها ولا تستطيع أن تنظم نفسها إلا بوجود من يقودها، أي المثقفون وإلا صارت كائنات عديمة المعنى، حيث يقول “في حال غياب تلك الرابطة ترتد علاقات المثقف بالأمة/الشعب إلى علاقات من نسق بيروقراطي وشكلي محض، ويغدو المثقفون طائفة منغلقة على ذاتها أو كهنوتها.
لا ينظر غرامشي إلى ثقافة البسطاء، أو ذوي الحس الشعبي نظرة ازدراء أو تهميش بل إنه يحاول جاهدا أن يرتقي بهذه الثقافة لأنها في نظره تكمن فيها كبرى تناقضات الفكر أي التمرد و الخضوع، فيقول “الماركسية لا تنوي ترك البسطاء في مستوى فلسفة الحكمة الشعبية البدائية. وإنما تطمع إلى قيادتهم نحو بلورة شاملة أرقى للعالم”.
• الماركسية من الفكر الضمني إلى فلسفة البراكسيس
يرى غرامشي الماركسية التي ينتمي إليها منهجا، وعلما ونظرية، ليست انتماء جزئيا أو سلطويا، تكون منعزلة عن عامة الناس وعن الذهنية السائدة، إنه يطلب من الماركسية ما لم يطلبه غيره، فهو يريد أن تكون رؤية علمية ونقدية وتكون المرشد والموجه للجماهير الغارقة في سبات الحس الشعبي المبتذل “إن الماركسية لا تتوخى ترك الجماهير في فلسفتها البدائية، بل توجيهها نحو نظرة أعلى للحياة محققة بذلك التقدم الفكري للجماهير، وليس فقط لفئات قليلة من المثقفين”.
تصبح الفلسفة الماركسية إبداعية حين تنتج حقا فلسفة جماهيرية جديدة، تمتلك تصورا جديدا للعالم والحياة وتخصّب ثقافة الجماهير، وتغذيها عبر تحقيق التقدم الفكري والسياسي في وعي الجماهير وتؤمن عملية الانتقال من العلم باعتبار الماركسية علما، إلى إعداد فلسفلة أخلاقية وسياسية وشعبية، أي ماركسية شعبية موافقة لهذا التصور الجديد تكون بمنزلة الفلسفة الواقعية والتاريخية للعمل السياسي للجماهير الشعبية.
سعى غرامشي لتجديد الماركسية في سبيل تحقيق نهضة جديدة تنطلق من معرفة علمية للتطورات التاريخية والاقتصادية، والاجتماعية والثقافية في الغرب الرأسمالي عامة، وإيطاليا خاصة، في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتطور العالمي اللاحق لجهة بروز الفاشية والنازية، واستقرار حكم ستالين الذي أدى إلى إنتاج وعي مذهبي، أيديولوجي جامد قاد إلى تغريز الجهل الثقافي والمعرفي أو الفكري. كل هذه العوامل فرضت على غرامشي خوض المعركة الثقافية والمعرفية والفكرية ضد الماركسية المبتذلة، ذات المقولات الثابتة و الأبدية، مؤمنا بفلسفة البراكسيس التي: تستهدف تحقيق عملية انتقال الجماهير الشعبية من فلسفتها القديمة المحافظة والثابتة وغير النقدية التي تبني ماركسية جماهيرية تكمن وظيفتها في إنشاء كثلة فكرية وأخلاقية تعبد الطريق لعلاقة تربوية جديدة بين المثقفين والجماهير الشعبية تسهم إسهاما حقيقيا في تطوير الوعي النقدي المتماسك، والتقدم الفكري اللذين يغيران بشكل جذري كل مرتكزات الفلسفة القديمة في سبيل تحطيمها جدليا .
رفض غرامشي الأسس المادية للمعرفة وقدم بديلا منها ذاتية دينامية. لقد وقف ضد علم ماركسي يفسر التغير التاريخي بإرجاعه إلى نسق شكلي من القوانين العلمية السببية، وقدم بدلا منها فلسفة الممارسة التي تنقذ الماركسية من أن تصير لاهوتا ومقدسا، يقول “إنما نستبعد تحول ‘الماركسية’ إلى مجموعة خرافات وأساطير حتى لو كان اسم هذه الخرافات والأساطير ‘الصراع الطبقي’، و’دكتاتورية البروليتاريا’ و’الديموقراطية الشعبية’ أو تحولها إلى مجموعة قوانين في مناخ فكري روحي يغلب عليه التفكير الوضعويالعلموي؟ أو الى جملة مقدسات”.
أسس غرامشي لمستودع تنويري لفضح الأنساق الزائفة، وتعرية الأصنام الفكرية التي صارت أفيونايستنشقه المثقفون دون أن يحاولوا تشريحه ومعرفة القوى الكامنة خلفه، مما ينعكس سلبا على دور المنوط بهم في تأطير الفئات الشعبية وقيادتها، وإيقاظها من سباتها الدوغمائي، حيث يقول “أصبحت الماركسية لحظة من الثقافة الحديثة. وأصبحت أفكارها وطرق تفكيرها كالهواء الذي يستنشق بصورة لاشعورية كثيرا أو قليلا”.
كما يحذر غرامشي من أن تتحول البراكسيس ذاتها إلى فلسفة عقائدية. أي مذهبا وتوقيا يقوم على حقائق مطلقو وأزلية.
هذا وقد أسهم غرامشي في قضية نقد الخطاب الميتافيزيقي كما فعل هيدغر، وديريدك.. حيث انتقده لأنه يتجاوز التاريخ، وبالتالي يتجاوز القاعدة الجماهيرية.
النقد عند غرامشي خطة متكاملة تخرج من نسق المعرفة لتشمل قيم الوجود، وتتقدم الميدان الاجتماعي برمته، صحيح أنها تبدأ من الذات، ولكنها ما تلبث أن تتوجه نحو الآخر فهو قد نقد النص الماركسي، ودعا إلى تجديده ومراجعته وإصلاحه حتى يواكب الأطر التي يعبر عنها ويعكس الواقع الخصوصي الذي يريد أن ينطق عليه، وبالأخص الواقع الإيطالي، يقول “لا أحد يستطيع أن يكون فيلسوفا أي صاحب تصور للعالم بصورة نقدية، إلا إذا وعى تاريخية ووعى مرحلة التطور التي يمثلها هذا الواقع التاريخي، هذا إلى جانب وعيه للتناقض بين هذا التصور والتصورات الأخرى أو بينه وبين عناصرها”.
المحور الثاني: من إبداع المثقف العضوي إلى تفكيك العقل
• وظيفة المثقف بين التقليدية والعضوية
يميز غرامشي بين صنفين من المثقفين، منطلقا من قناعة مفادها أن ما يحكم دينامية المثقف هي علاقته بباقي مكونات المجتمع وخاصة بالفئات المستضعفة، حيث يطلق على الفئة الأولى تسمية المثقف التقليدي الذي يرتبط بفكر الطبقة المهيمنة، ويمارس عمليات النشر والتبرير من أجل مصلحتها، ويقول بيوتي في هذا الصدد “يستخدم غرامشي مفهوم المثقف التقليدي للإشارة إلى الفلاسفة المتتالين، فهم يطرحون أنفسهم على أساس أنهم مستقلون عن الطبقات الاجتماعية، وممتلون لاستمرارية تاريخية يرجع أصلها إلى أفلاطون وكروتشه، وهو الممثل النموذجي لهذه الفئة من المثقفين”.
ويستمر غرامشي في تحديد ملامح هذه الفئة التي يرى فيها أنها نرجسية في الوعي، تتصور نفسها حاكمة، ومسيطرة، ومهيمنة تتماهى مع الطبقة الحاكمة وتنشد رضاها، وتحرص على بث وجهات نظرها ورؤاها السياسية والأيديولوجية، بل وتبرر رمز الثقافي في حق الطبقات الأخرى، يقول “إن العديد من المثقفين التقليديين صاروا يفكرون أنهم هم أنفسهم الدولة، وهذا الاعتقاد كانت له، بحكم كبر حجم تلك الزمرة، نتائج هامة أحيانا، وأوجد تعقيدات مزعجة في الفئة الاقتصادية الأساسية هي فعلا الدولة حين تكون الدولة موجهة من قبل مثقفين تقليديين، فإن هذا الميل إلى اعتقاد بأنهم هم الدولة، يتعزز و يقوى بشكل ملموس”.
تمارس فئة المثقفين التقليديين في ظل شعور بتماسك فئوي يدفعهم للدفاع عن مصالحهم الجمعية خاصة حين يجرهم هذا الدفاع إلى معارضة بعض قرارات الطبقات السائدة، نقدا رخوا بتمويهها مواقعهم الطبقية، وتضلل بالتالي الطبقات التي يمارسون عليها هيمنتهم ويبدو التباين واضحا بين فئة المثقفين التقليديين والفئة المتباينة التي أطلق عليها غرامشي فئة المثقفين العضويين، فالعضوي يضطلع بوظائف كالوعي النقدي، ووظيفة الإصلاح الأخلاقي والثقافي لوجدان الشعوب، حيث أنه مثقف غير متعال عن الثقافة الشعبية، وتصوراتها الأيديولوجية، ومهموم بتأسيس خطاب نقدي يقود إلى ممارسة ثورة البراكسيسة، يقول غرامشي “المثقف العضوي هو المثقف الذي تكون علاقته مع الطبقة الثورية ينبوع تفكير مشترك، فليس هو ذلك النرجسي الفرداني المحلق على أجنحة الفكر الحر والذي يقيم علاقة مبهمة أو سرية مع الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها. إن العلاقة العضوية هي قبل كل شيء، علاقة معترف بها معلنة، منظّرة، ومرادة سياسيا من أجل الدفاع بطريقة جيدة عن التصور الجديد للعالم، الذي تحمله تلك الطبقة التورية الصاعدة”.
من هنا المثقف العضوي هو العدو اللدود للمثقف التقليدي، لأنه ببساطة يكشف تملقه للطبقات الحاكمة، ويكشف الزيف الذي ينشره. يفضح انخراطه في تسويغ وتمرير أيديولوجية الدولة العميقة التي تقصي الآخر، وتكرس لواقع التمركز حيث يرى غرامشي أن الوظيفة الأساسية لكل مثقف عضوي داخل البنية الاجتماعية هي كونه اسمنتا يربط البنية التحتية بالبنية الفوقية فهو و زملاؤه طبعا، يقوم بخلق وتوزيع ونشر الأيديولوجيا من جهة، وضمان انسجامية وعي الطبقة التي يرتبط بها عضويا من جهة أخرى، وتجانس تصور العالم الخاص بتلك الطبقة عملية تتم على مستويين، المستوى الأول هو تنظير الممارسة السياسية لطبقة الاجتماعية وإنتاج معرفة بدورها ووظيفتها (المجتمع المدني). والثاني القيام بعمل ثقافي يهدف إلى تأسيس تصور للعالم المتضمن في الممارسات السياسية.
• ازدواجية السيطرة و الهيمنة في الفكر الغرامشي
صاغ غرامشي مصطلح “الهيمنة” قبل أن يلقي عليه القبض في أواخر العشرينات، ويزج به في سجنه طويل الأمد، وقد ذهب فيه إلى أن الهيمنة التي يعنيها هي القوة التي تمتلكها أيّ حركة من الحركات لتوجهها نحو أهدافها، وقد استخدمها في تلك الفترة، ويعني بها بوجه خاص قيادة الطبقة العاملة أو قدرة قيادتها، المتجهة صوب الإحاطة بدولة البرجوازية وإقامة دولة الفلاحين على أنقاضها، وكان في دفاتر سجنه يوجه الخطاب إلى الطبقة العاملة في الاتحاد السوفياتي ولقيادة الحزب البلشفي، وهو يعني جوزيف ستالين بالذات، ويدعو إلى ضرورة إقامة وحدة بين الطبقة العاملة والفلاحين، وهي الوحدة التي كان يسميها يومئذ بالتحالف العمالي، الفلاحي من أجل ترسيخ المركز القيادي في الدولة الاشتراكية الناشئة.
وقد كان غرامشي في دعوته إلى مولد الهيمنة الجديدة في قيادة العمال الفلاحين يهدف إلى تصفية الذهنية التي سادت أوروبا وأجزاء شاسعة من العالم بعد الحرب العالمية الأولى، وعلى طول الفترة ما بين الحربين العالميتين تلك الذهنية التي نشأت في أجواء أزمة عصبية رافقت الكساد العظيم في فترة الثلاثينات والتي قادت فيما بعد إلى اندلاع جحيم الحرب العالمية الثانية.
لا ينظر غرامشي إلى المفاهيم بطريقة جزئية، بل ينظر إليها بطريقة “بنيوية”، بمعنى أن كل مفهوم لا يؤسس لمركزية فهمه الخاص بمعزل عن المفاهيم الأخرى، وكأنها منفصلة بعضها عن بعض بل ينظر إلى طبيعة المفاهيم بطريقة تاريخية وإشكالية حيث أن المفهوم يكتسب صورة المفاهيمية من خلال اشتغاله في الحقل الوظيفي الذي يتحرك في فضائه، وبالتالي فمفهوم الهيمنة يتحرك مع أكثر من خطاب، ولا ينحصر في الخطاب السياسي بل يتعداه بكثير، حيث يقول مفسرا ماهية الهيمنة “إن تفوق الطبقة العاملة الاجتماعية يبتدئ في مسارين مختلفين: السيطرة أو ‘القسر’، والقيادة الفكرية والأخلاقية، ويشكل هذا النوع الأخير من السيطرة الهيمنة و التحكم الاجتماعي، بمعنى آخر ينقسم هذا النوع إلى شكلين أساسيين فبجانب تأثيره على السلوك والاختيار خارجيا بواسطة التواب و العقاب، فهو مؤثر داخليا أيضا، وذلك بواسطة صياغته للقناعات الشخصية، وينطلق مثل هذا التحكم الداخلي من الهيمنة، وهي تشير إلى نظام تستخدم فيه لغة أخلاقية مشتركة، ويسيطر عليه مفهوم أحادي الحقيقة.. إن الهينة هي السيطرة التي تحققت بواسطة القبول بدلا من ممارسة قسر الدولة. وذلك عبر آلية المجتمع المدني وبمجموعة متناسقة من المؤسسات التربوية و الدينية والمؤسسات النقابية التي تتشكل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة البنى الإدراكية والمؤثرة والتي بموجبها يدرك الناس إشكالية الحقيقة الاجتماعية”.
إذن يميز غرامشي بين الجهاز القهري الذي تحتكره مؤسسات الدولة بهدف إخضاع الجماهير الشعبية لنمط إنتاج معين، والتنظيمات الخاصة المدنية التي تمارس هيمنة على الطبقة الاجتماعية مثل الكنيسة، والنقابات العمالية، المدارس، الجامعات، هيمنة تتم بين الأفراد في إطار الإرادة العامة والتراضي والانسجام. في أيّ علاقة هيمنة هناك دائما اعتقاد صريح بأولوية الإرادة العامة على الإرادة الخاصة والمصالح العامة على الخاصة… وهي علاقة مبنية على الإجماع لا على الإكراه.
ويبدو الاختلاف واضحا بين نظرة غرامشي للهيمنة عن ماركس. فهذا الأخير في البنية التحتية هي البنية المهيمنة في حين أن المفكر الإيطالي يستند للبنية الفوقية فعل الهيمنة باعتبارها فئة تتشكل من مثقفين عضويين فاعلين اجتماعيا وسياسيا وثقافيا.
• المجتمع المدني ورهان الإقناع بدل الإخضاع
لقد بذل غرامشي كل شيء ليكون ماركسيا غير تقليدي، فقد أدخل قطيعة جديدة في المضمون الدلالي لمفهوم المجتمع المدني الذي صار فضاء للتنافس الأيديولوجي بدل التنافس الاقتصادي مثلما يعتقد هيجل وماركس. وقد ركز كل انتباهه على ظاهرة الهيمنة الأيديولوجية، مميزا بين مفهوم السيطرة السياسية بواسطة القوة و التهديد، ومفهوم الهيمنة التي تضطلع بوظيفة توجيهية للسلطة الرمزية و التي تمارس بواسطة تنظيمات من قبيل الكنيسة، النقابات، المدارس…، وانطلاقا من هذا التمييز بين الهيمنة الأيديولوجية والسيطرة السياسية وصل غرامشي الى الملاحظة الآتية: في الشرق كانت الدولة كل شيء، أما المجتمع المدني، فكان بدائيا أيضا بنية اجتماعية صلبة، فالدولة ليست إلا واجهة تتخفى وراءها سلسلة كاملة صلبة للقوة والمناعة.
إن المتتبع لمفاهيم غرامشي حول المجتمع المدني، والهيمنة والمجتمع السياسي والدولة، يجد أنها نتاج لطفرات وقائع معرفية، وضد الأنظمة السلطوية، الفاشية الحاكمة آنذاك، التي كانت تبتلع المجتمع المدني، وتقصي المعارض والمختلف، لذا عندما أكد غرامشي على مسألة الفرق بين الهيمنة والقوة، لا لشيء، إلا ليكشف الفرق الذي سوف يحصل في الخطاب السياسي الإيطالي الذي ينشده غرامشي أن ينتقل من مرحلة الحكم القسري إلى مرحلة الهيمنة التوافقية، أي أن يتحرك المجتمع تحت قيادة أيديولوجية واجتماعية وسياسية تقود المجتمع برضاه.
ويعرف غرامشي المجتمع المدني بأنه: تلك البنية التي تسمح بإنتاج وإعادة إنتاج، وتوزيع وإذاعة الأيديولوجيا الخاصة بالطبقة المسيطرة، هذه البنية تتكون أو تحتوي على أنساق التفكير والمؤسسات والمنظمات والوسائل المادية الخاصة، بخلق ونشر وتوزيع المنتوجات الأيديولوجية.
إذن المجتمع المدني هو ذلك المجتمع الفكري الاجتماعي المادي الذي تتجسد فيه الأيديولوجيا مع وصلاتها التنظيمية، ووسائل إذاعتها الهادفة إلى تحديد السلوكات والممارسات الاجتماعية من أجل تحقيق إجماع الجماهير وقبولها بالهيمنة الطبقية للطبقة المسيطرة.
ويحدد غرامشي أجهزة ومنظمات المجتمع المدني التي تنتج وتوزع الأيديولوجيا المسيطرة في :
ـ المنظمات و المؤسسات الدينية (الكنيسة)، والمنظمات المدرسية (المدرسة، والجامعة..)
ـ المنظمات العلمية (الجامعات ومراكز البحوث..).
ـ تنظيمات الطبع و النشر(المطابع، المكتبات).
إن هذه الأجهزة تشبه قليلا أجهزة الحقن الطبية فهي تحقن الطبقة المسيطرة بالمحصل الذي يكفل التصدي لهجومات “ميكروبات” الأيديولوجيا المضادة، ويسمح بإفراز الوعي الذاتي المستقل داخل الجسم الاجتماعي الذي يحتضنها، وعن طريق إقناع هذه الطبقة بوعيها الطبقي تتحدد شخصيتها التاريخية، وتدفع إلى إعادة خصائصها ومبادئها وتصوراتها وسط الطبقات الأخرى المسودة من أجل الإخضاع، والوصول بالتالي إلى حالة الإجماع على شرعية سيادتها وحكمها في المجتمع.
هكذا يميز غرامشي بين بنيتين داخل البنية الفوقية، بنية تمارس وظيفة الهيمنة، وأخرى تمارس السيطرة المباشرة، وفئة المثقفين هي التي تتولى الوظيفتين، يقول “إن المثقفين هم ‘وكلاء’ الفئة السائدة في ممارسة الوظيفتين الفرعيتين في الهيمنة الاجتماعية والحكم السياسي أي: الموافقة العفوية من قبل جماهير السكان الواسعة على الاتجاه الذي تفرضه على الحياة الاجتماعية الفئة السائدة، وهي الموافقة التي تتولد تاريخيا من الخطوة التي تنعم بها الفئة المسيطرة، ومن الثقة التي توحي بها بحكم وظيفتها في عالم الإنتاج. وجهاز لإكراه الدولة الذي يتولد شرعيا من انضباط الفئات التي ترخص أن تمنح موافقتها الإيجابية أو السلبية على حد السواء، بيد أن هذا الجهاز يجري تكوينه برسم المجتمع برمته تحسبا لأوقات التأزم في القيادة والتوجيه، حين تنعدم الموافقة العفوية”.
• خاتمة
من كل ما سبق نستنتج أن غرامشي يرفض الدوغمائية واليقينية سواء في السياسة أم في شتى ميادين العلوم الإنسانية، لذلك نراه خرج على كثير من المفاهيم الماركسية الثابتة، خاصة قضية المجتمع المدني. كما خرج على المفاهيم القديمة فيما يتعلق بتعريف المثقف، وابتكر مفهوم المثقف العضوي وحدد وظائفه، وعلاقته داخل المجتمع. وتعامل مع الثقافات الشعبية والحس الشعبي بوصفهما التصورات الفلسفية لبسطاء المجتمع، ويدعو إلى تطهيرها من كل ما علق بها من تصورات حائلة أو زائفة، وهنا يبرز دور المثقفين الذين يعول غرامشي كثيرا عليهم في إحداث التغيير.
تصدى غرامشي بطريقة إبستيمولوجية نقدية وتاريخية لقضايا تاريخية بقيت طويلا عالقة بدون حل، كقضية الفلسفة وعلاقتها بالمجتمع والسياسة والتاريخ، أو قضية الثقافة النخبوية والثقافة الشعبية، أو قضية المجتمع المدني وقضية الهيمنة… لقد أسس لمشروع مجتمع غير طبقي يجسد قيمة الإنسان ضمن مجتمع مدني متحرك ومستقل.
لائحة المصادر والمراجع المعتمدة:
المصادر:
• أنطونيو بوزوليني، سلسلة أعلام الفكر العالمي، غرامشي، ترجمة سمير كرم، ط1، 1977. • أنطونيو غرامشي “الأمير الحديث” ترجمة قيس الشامي 1972. • أنطونيو غرامشي “قضايا المادية التاريخية” ترجمة فواز طرابلسي دار الطليعة بيروت 1970. • أنطونيو غرامشي، رسائل السجن، ترجمة سعيد بوكرامي، دار طوى للنشر لندن، ط1، 2014. • إدوارد سعيد، تمثيلات المثقف، ترجمة غصان غصن، دار النهار- بيروت، 1994. • جان بول سارتر، الاشتراكية الوافدة من الصقيع، دار الكتاب العربي بيروت 1971. • جاك تاكسيه، غرامشي دراسات ومختارات، ترجمة ميخائيل إبراهيم .سلسلة الفكر الاشتراكي وزارة الثقافة دمشق 1972. • ريجيس دوبريه، نقد العقل السياسي، ترجمة، عفيف دمشقية، منشورات دار الآداب، بيروت، ط1، 1979. • لويس ألتوسير آخرون، قراءة رأس المال، ترجمة تيسير شيخ الأرض، ج 3، منشورات وزارة الثقافة والارشاد القومي، دمشق، ط1، 1983. • لويس ألتوسير، الفلسفة بين العلم والايديولوجية، ترجمة محمد سابيلا، منشورات الأقلام 2، 1986 • ميشيل ماركوفيتش، العلم والأيديولوجية، ترجمة أحمد السطاتي، منشورات الأقلام 1، 1986. • كينتين هور وجيفري نويل سميث، قراءة في دفاتر السجن لغرامشي، ترجمة عادل غنيم، منشورات دار المستقبل العربي، القاهرة 1994. • كارل ماركس، رأس المال، ترجمة راشد البراوي، مكتبة النهضة المصرية، ط 2، 1938.
المراجع:
• صادق جلال العظم” دراسات في الفلسفة الحديثة” دار العودة، بيروت، ط3؛ 1979. • مهدي عامل، مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الإشتراكي في حركة التحرر الوطني، دار الفارابي للنشر والتوزيع، 2013. • مهدي عامل، أزمة الحضارة العربية أم أزمة البورجوازيات، دار الفارابي، ط1، 1974. المجلات: • جوزيف فيميا، مفهوم الهيمنة عند غرامشي، المجلة السودانية للدراسات الدبلوماسية. • فريدريك بون، المثقفون كلاب حراسة السلطة، مجلة المعرفة السورية، العدد 207، 1979. • سايمون ديونغ، الدراسات الثقافية، ترجمة محمود يوسف عمران، عالم المعرفة، العدد 425، 2015. • أوما ناريان وساندرا هاردنغ، نقض مركزية المركز، ترجمة يمنى طريف الخولي، عالم المعرفة، العدد 395، 2012.
المعاجم:
• جميل صليبا، المعجم الفلسفي، الشركة العالمية للكتاب- بيروت، د/ط. 1994. • عبد الرحمان بدوي، موسوعة الفلسفة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 1996. كتب بلغات أجنبية: • Gramsci dans le texte sociales ; François Ricci,Jean Bramant; l’Université du Michigan ;2009 • Jacques Texier ; Gramsci et la philosophie du marxisme Ed Seghers paris 1966 • Hugues Portelli, Gramsci et le bloc historique Puf paris 1977 – [1] – أنطونيو غرامشي، رسائل السجن، ترجمة سعيد بوكرامي، دار طوى للنشر_ لندن، ط1، 2014، ص : 39 [2] – جاك تاكسيه، غرامشي دراسات ومختارات، ترجمة ميخائيل إبراهيم. سلسلة الفكر الاشتراكي وزارة الثقافة دمشق ص72، 1972. [3] – نفسه، ص 75. [4] – صادق جلال العظم” دراسات في الفلسفة الحديثة” دار العودة، بيروت، ط3؛1979، ص 114. [5] – أنطونيو غرامشي، رسائل السجن، ترجمة سعيد بوكرامي، دار طوى للنشر_ لندن، ط1، 2014، ص 82.